انحرافات قوم نوح (ع) -1

الأوائل والطوفان

أعلام تحقير الإنسان

 

مقدمة:

روي أن بين آدم وبين نوح (عليهما السلام) عشرة قرون، واختلفوا هل المراد بالقرن مائة سنة، أم المراد بالقرن الجيل من الناس، كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾(1) وبالجملة أن نوحا (عليه السلام) بعثه الله تعالى عندما شرع الناس في الضلالة والكفر وعبدوا الأصنام والطواغيت.

 

وفي عصر نوح الذي بعث فيه نوح كان قومه قد ابتعدوا عن دين التوحيد وعن سنة العدل الاجتماعي. فاستعلى القوي على الضعيف، وصار الأقوياء بالأموال والأولاد يستبيحون حقوق من دونهم الذين لا يحملون إلا ألقاب المهانة، ولا قيمة لهم في المجتمع. كانت دائرة الأقوياء تضم السادة والأشراف وباقي الطبقة المترفة، وكانت دائرة الضعفاء تضم الأراذل والأخساء ومن لا حظ له من مال أو مكانة.

 

وأصحاب هذه الدائرة، كان الملأ الأقوياء ينظرون إليهم على أنهم جنس آدمي منخفض لا بد أن يعمل لينتفع المثل الأعلى الآدمي المرتفع -والذين تمثله دائرة الأقوياء- من عمله وكده.

 

وعلى امتداد طريق الانحراف قامت ثقافة المترفين بغرس الخرافات في عقول القوم، وكانت المقدمة إلى هذا أن المترفين وضعوا قاعدة تقول. بأن أي أمر لو كان حقا نافعا، فإن قيمة هذا الحق وهذا النفع تتحدد في أتباع طبقة الأقوياء له. فإن أعرضت عنه هذه الطبقة، أو اتبعه غيرهم من الضعفاء، فإن الحق مهما كان حجمه يكون لا خير فيه، ووفقا لهذه المقدمة غرس المترفين الأصنام في كل مكان، ودثروها بالخرافات التي تخدم مصالحهم وتحافظ على مسيرة الانحراف.

 

وقد ذكر القرآن من هذه الأصنام: ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا. وكان كل صنم له كهان وطقوس ويعبده طائفة من الناس. وأمام جميع الطوائف يتقدم الأشراف والأقوياء. ويلتقي الجميع على طريق الانحراف متخذين أهواءهم وشذوذ آبائهم عن الفطرة هدفا لهم.

 

نوح (عليه السلام):

نوح هو أول أولي العزم من الرسل، وهو أول من قام لتعديل الطبقات ورفع التناقض من المجتمع الإنساني. وهو أول من طرح حجج التوحيد أمام الكفار.

 

وذكر الله تعالى في كتابه أن نوحا مكث في قومه بعد البعثة وقبل الطوفان ألف سنة إلا خمسين عاما. وروي أنه بعث وله أربع مائة وثمانون سنة، وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة(2) وروي غير ذلك. واختلفوا في مقدار سنه يوم بعث! فقيل كان ابن خمسين سنة، وقيل ابن ثلاثمائة وخمسين عاما(3).

 

ونوح (عليه السلام) اصطفاه الله تعالى على العالمين(4)، وسفاه سبحانه في كتابه عبدا شكورا(5)، وعبدا صالحا(6)، كما عده الله سبحانه من عباده المحسنين(7)، ومن عباده المؤمنين(8)، والسور التي تعرضت لقصة نوح (عليه السلام) من القرآن الكريم، هي ثمانية وعشرون سورة في ثلاثة وأربعين موضعا.

 

وذكرت قصة نوح (عليه السلام) مفصلة في سبع سور منها: الأعراف ويونس وهود والمؤمنون والشعراء والقمر ونوح.

 

الانذار والصد

أولا: الإنذار:

كان خروج القوم عن سنة العدل الاجتماعي التي أودعها الله في أعماق الفطرة. يعني أن الشيطان يقود قافلة كفارهم، فالشيطان هو صاحب فقه الانتقاص والتحقير، وكفار قوم نوح قطعوا شوطا بعيدا داخل هذا الفقه! فقاموا بتصنيف عباد الله وفقا لما عندهم من أموال وأولاد وجاه أو مكانة. ثم عكفوا على أصنامهم يحيط بهم كهنة مهمتهم الحفاظ على عبادة الأصنام والصد عن سبيل الله. يحافظون على الأصنام تحت لافتة سنة آبائهم القومية. ويصدون عن سبيل الله بطرح عادات وتقاليد وثقافات لا تدع لفكر الفطرة سبيل داخل المجتمع. وأمر مثل هذا ينطلق من ماض معتم، ويدمر حاضر هيمن عليه خدام الأهواء وتلاميذ الشيطان. ويندفع نحو المستقبل من أجل توثيق طريق الفطرة. يكون خطرا على المسيرة البشرية. ويكون أكثر خطورة إذا كان القائمون عليه قوما من أقوام صدر المسيرة البشرية، لأنهم رأس القافلة، والداء عندما يضرب رأس المسيرة البشرية، فإن الانحراف سيتسع شيئا فشيئا حتى لا يصبح هناك أملا في كل مولود جديد إلا من رحم الله.

 

وقوم نوح كانوا رأس القافلة البشرية. رأسا أصابها الداء، فبعث الله تعالى إليهم نوحا (عليه السلام) بالرحمة التي تشفيهم من الداء، لكنهم أبوا إلا أن يزدادوا كفرا، وعندئذ قطعت الرأس وفقا لعذاب الاستئصال.. لقد أغرقهم الله فدفنوا ومعهم انحرافهم في أعماق الطين ليكونوا عبرة للقافلة كلها. لقد دفن انحراف قوم نوح معهم، ولكن أصول الانحراف ما زالت في أيدي الشيطان، فإذا ما لوح الشيطان بها لأي جيل في أي زمان ومكان، كان في الطوفان الذي اجتاح الرأس آية.

 

لقد بعث الله تعالى نوحا إلى قومه. بعد أن ساروا في اتجاه العذاب الأليم ورفضوا منطق الفطرة الذي يهدي إلى صراط مستقيم قال تعالى: ﴿أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ / قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ / أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ / يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

 

قال المفسرون: في الآية دلالة على أن قومه كانوا عرضة للعذاب بشركهم ومعاصيهم. وذلك أن الانذار تخويف، والتخويف إنما يكون من خطر محتمل لا دافع له(9) والله تعالى أمر نوحا (عليه السلام) أن ينذر قومه بأس الله قبل حلوله بهم فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم(10).

 

فقام (عليه السلام) بتبليغ رسالته إجمالا بقوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ وتفصيلا بقوله: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ﴾ الآية. وفي قوله: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ دعوتهم إلى توحيده تعالى في عبادته. فإن القوم كانوا يعبدون الأصنام. وفي قوله ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ دعوتهم إلى اجتناب معاصيه من كبائر الإثم وصغائره. وفعل الأعمال الصالحة التي في تركها معصية(11). وفي قوله: ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ دعوة لهم إلى طاعته فيما يأمرهم به وينهاهم عنه. وأخبرهم أنهم إذا فعلوا ما يأمرهم به وصدقوا ما أرسل به إليهم غفر الله لهم ذنوبهم. ومد في أعمارهم ودرأ عنهم العذاب الذي إن لم يجتنبوا ما نهاهم عنه أوقعه الله بهم.

 

وحثهم أن يبادروا بالطاعة قبل حلول النقمة. فإنه إذا أمر الله تعالى بكون ذلك. لا يرد ولا يمانع، فإنه العظيم الذي قد قهر كل شئ، العزيز الذي دانت لعزته: جميع المخلوقات(12).

 

لقد كان الإنذار من أجل أن تقف القافلة البشرية. لتعيد التفكير بمنطق الفطرة، وتعود إلى رشدها بعبادة ربها ولكن جبهة الكفر والعصيان، وقفوا من الإنذار الموقف الذي يأتيهم، بالعذاب. لقد وجد القوم أن دعوة نوح إليهم لعبادة الله وحده، وأمره إياهم أن يتقوا الله ويطيعوه.. رأوا في هذا خروجا عن نصوص الآباء وسنتهم القومية، ولهذا رموا نوحا (عليه السلام) بأكثر من تهمة.

 

وكما أنذرهم نوح من قبل أن يأتيهم العذاب الأليم. راح (عليه السلام) ينذرهم وهم على طريق الانحراف ويخبرهم أنه يخاف عليهم عذاب يوم أليم. فهو أنذرهم قبل أن يأتيهم العذاب الأليم. وعندما عصوا وعاندوا، أنذرهم بأن العذاب الأليم ينحصر في يوم أليم. وهو يخاف عليهم من هذا اليوم الذي وصفه الله بأنه أليم. فإذا كان هذا هو حال اليوم. فكيف يكون حال الذين يعيشون فيه يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ / أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾(13).

 

قال المفسرون: دعاهم إلى توحيد الله بتخويفهم من العذاب. وإنما كان يخوفهم لأنهم كانوا يعبدون الأوثان خوفا من سخطهم. فقابلهم نوح (عليه السلام) بأن الله سبحانه هو الذي خلقهم. ودبر شؤون حياتهم. وأمور معاشهم بخلق السماوات والأرض. وإشراق الشمس والقمر وإنزال الأمطار وإثبات الأرض وإنشاء الجنات وشق الأنهار. وإذا كان كذلك. كان الله سبحانه هو ربهم لا رب سواه، فليخافوا عذابه، وليعبدوه وحده. وبعد أن دعاهم (عليه السلام) إلى توحيد الله، خوفهم من عذاب يوم وصف بأنه أليم(14). والمراد بعذاب يوم أليم.

 

عذاب الاستئصال. ونسبة الإيلام إلى اليوم دون العذاب من قبيل وصف الظرف بصفة المظروف. ونزول العذاب على الكفار والمستكبرين. مسألة حقيقية يقينية، فإن من النواميس الكلية الجارية في الكون لزوم خضوع الضعيف للقوي. والمتأثر المقهور للمؤثر القاهر. فما قولك في الله الواحد القهار الذي إليه مصير الأمور. وقد أبدع الله سبحانه أجزاء الكون. وربط بعضها ببعض. ثم أجرى الحوادث على نظام الأسباب. وعلى ذلك يجري كل شئ في نظام وجوده فلو انحرف أي جزء عن خطه المحدد له.. أدى ذلك إلى اختلال نظام الأسباب. وكان ذلك منازعة منه لها. وعند ذلك تنتهض سائر الأسباب الكونية من أجزاء الوجود لتعديل أمره وإرجاعه إلى خط يلائمها. وهي بذلك في مقام من يدفع الشر عن نفسه. فإن استقام هذا الجزء المنحرف على خطه المخطوط له فهو، وإلا حطمته حاطمات الأسباب ونازلات النوائب والبلايا. وهذا أيضا من النواميس الكلية. والإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون له في حياته خط خطه له الصنع والإيجاد، فإن سلكه هداه إلى سعادته. ووافق بذلك سائر أجزاء الكون، وفتحت له أبواب السماء ببركاتها. وسمحت له الأرض بكنوز خيراتها. وهذا هو الإسلام الذي هو الدين عند الله تعالى. المدعو إليه بدعوة نوح ومن بعده من الأنبياء والرسل (عليهم السلام). فإذا تخطاه الإنسان وانحرف عنه. فقد نازع أسباب الكون وأجزاء الوجود في نظامها الجاري. وزاحمها في شؤون حياتها، وعلى هذا فليتوقع مر البلاء ولينتظر العذاب والعناء. فإن استقام في أمره.

 

وخضع لإرادة الله. وهي ما تحطمه من الأسباب العامة. فمن المرجو أن تتجدد له النعمة بعد النقمة. وإلا فهو الهلاك والفناء. وإن الله لغني عن العالمين(15).

 

إن الذي يدور عكس دوران الفطرة التي فطر الله عليها الخلق، يعرض نفسه لضربات جميع أجزاء الكون، فقوم نوح خرجوا عن خط ميثاق الفطرة الذي يشهد. لله بالربوبية، وأقبل على عبادة الأوثان والطواغيت، وتحت سقفها قام بتدوين سنة الظلم الاجتماعي، ولقد خوفهم نوح (عليه السلام) من عذاب يوم أليم، لأنهم بأعمالهم هذه ينازعون أسباب الكون وأجزاء الوجود في نظامها الجاري. وهم بذلك يعرضون أنفسهم للقحط والجدب وللطوفان وقام (عليه السلام) بردهم إلى الطريق الصحيح الذي عليه تأتيهم البركات والسعادة الحقيقية، وقال: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا /  يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا / وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا / مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا  / وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾(16).

 

قال المفسرون: محصل المعنى. لا ترجون لله وقارا في ربوبيته. والحال أنه أنشأكم طورا بعد طور يستعقب طورا آخر. فأنشأ الواحد منكم ترابا ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينا ثم طفلا ثم شابا ثم شيخا، وأنشأ جمعكم مختلفة الأفراد، في الذكورة والأنوثة والألوان والهيئات والقوة والضعف إلى غير ذلك -: وهل هذا إلا التدبير؟ فهو مدبر أمركم. هو ربكم(17). الذي يجب عليكم أن تعبدوه وحده. وقد عد (عليه السلام) النعم الدنيوية، ووعد قومه توافر النعم وتواترها عليهم إن استغفروا ربهم. فلمغفرة الذنوب أثر بالغ في رفع المصائب والنقمات العامة. وانفتاح أبواب النعم من السماء والأرض أي أن هناك ارتباطا خاصا بين صلاح المجتمع الإنساني وفساده وبين الأوضاع العامة الكونية المربوطة بالحياة الإنسانية وطيب عيشه ونكده كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾(18) وقوله: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾(19) وقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾(20).

 

لقد أرشدهم نوح (عليه السلام) إلى الطريق المستقيم، فماذا كان رد القوم عليه بعد أن تلقوا منه الانذار والتخويف؟

 

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- سورة آل عمران / 33.

2- البداية والنهاية ج1 / ص120.

3- المصدر السابق ج1 / ص101.

4- سورة الصافات / 81.

5- سورة الإسراء / 3.

6- سورة التحريم / 10.

7- سورة الأنعام / 84.

8- سورة النمل / 15.

9- الميزان ج1 / ص26.

10- تفسير ابن كثير ج4 / ص424.

11- الميزان ج1 / ص26.

12- تفسير ابن كثير ج4 / ص424.

13- سورة هود / 26.

14- سورة الأعراف / 59.

15- الميزان ج10 / ص200.

16- سورة نوح/ 10-14.

17- الميزان ج20 / ص22.

18- سورة الروم / 61.

19- سورة الشورى / 30.

20- سورة الأعراف / 94.