انحرافات عاد قوم هود (عليه السلام) -1

﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾(1)

 

عاد! والأعمدة العالية

إنحراف القوة

 

مقدمة:

بعد الطوفان .. استقرت القافلة البشرية عند الجودي وما حوله، وقام نوح (عليه السلام) ومن معه بإقامة مدينة ثمانين، نسبة إلى عدد الناجين من قوم نوح(2) وكان نوح (عليه السلام) يبين للناس ما اختلفوا فيه ويبشر بينهم بنبي يأتي من بعده اسمه هود. وروي أن نوحا (عليه السلام) قال لأتباعه: إن الله سيبعث هودا وإنه سيدعو قومه وإن قومه سيكذبونه وعندئذ سيهلكهم الله تعالى بالريح. وأوصى نوح (عليه السلام) بأن على من يدرك هودا أن يؤمن به. كما أمر ابنه سام بأن يتعاهد هذه الوصية وأن يعلنها على الملأ عند رأس كل سنة وأن يكون يوم الاعلان هذا عيدا للقوم يتذكرون فيه بعث هود. وظل سام بن نوح يعمل بوصية والده(3) وتبشير النبي السابق بالنبي اللاحق لطف من الله ورحمة بعباده.

 

فوضع أوصاف النبي الذي ما زال في علم الغيب في ذاكرة قافلة التوحيد، يجعل الذاكرة تحمل على الدوام الأمل الذي يقاوم كل معاني الكفر والانحراف، ومع هذا الأمل تمتد جذور الفطرة إلى جميع ملكات النفس الإنسانية فتحفظ لها توازنها في عالم يعمل من أجل فرض سياسات التوثين وثقافات التضليل، فالذاكرة عندما تحتضن الأمل يعبر صاحبها جميع طرق الانحراف مرتديا رداء الصبر مرتبطا بنبي سابق متجها نحو نبي لاحق إن أدركه آمن به وإن لم يدركه وقع أجره على الله. والذاكرة التي تحتضن الأمل لا تأخذ إلا بالحق ولا تعمل إلا به. لأنها من البداية إلى النهاية انتظمت على الصراط المستقيم ماضيا وحاضرا ومستقبلا. وعلى امتداد طريقها يكون رداء الصبر تحصين لها من عقائد وثقافات مظلات الشذوذ فالصبر إذا انطلق من عالم المشاهدة إلى عالم الغيب المخبوء ليلتقي بأمل يكون له مذاق خاص لأن الغاية غيب، والغيب في علم الله، فهذا الصبر الممدود يغذي ملكات النفس بالزاد التوحيدي الذي يشعر معه صاحبه بأنه ليس من نسيج قافلة الانحراف لأنه لا يسير على صراطها. وكما أن وضع الأنبياء في الذاكرة تحصين للسمع والبصر والفؤاد، كذلك فإن نسيان هذا الإخبار بالغيب يترتب عليه أن يسير صاحبه في طريق طويل وهو فاقد الذاكرة، وفاقد الذاكرة بعيد عن قافلة الصراط المستقيم قريب من دوائر الأهواء والانحراف والشذوذ وهذه الدوائر لا تلتقط إلا أجيال اللاوعي لتنشئ منهم جدرا يصدون عن سبيل الله. وأجيال اللاوعي هي التي ينتهي بها الطريق بأن تتصدى لأنبياء الله تعالى عندما يبعثهم الله ليضعوا قواعد تستقيم مع الفطرة. ورفضهم للأنبياء ارتكاس للفطرة نتيجة لليل طويل قطعوه وراء اتباع الشياطين الذين يغرسون الأماني المزخرفة في النفوس ويقيمون لها أصناما من كل الألوان والأشكال والأجناس، وعندما يأتي الرسول أو النبي إليهم يجدهم مستعدين للدفاع عن ما ألفته نفوسهم وما أصله فيهم آباؤهم وما تركه لهم أجدادهم.

 

لقد غرس نوح (عليه السلام) اسم النبي الذي سيأتي بعده في ذاكرة قومه.

 

كي تتمسك الذاكرة بعلامات التوحيد وتظل عروة التوحيد تمدهم بالزاد، وهم يعبرون من على طرق الذين ظلموا أنفسهم ويمتعهم الله ثم يمسهم منه عذاب أليم. وظل سام بن نوح يعمل بوصية والده، وكان القوم يتعاهدون بعث هود في يوم عيدهم. وعندما طال الأمد وتفرق الناس في الأمصار، اجتالت الشياطين الناس، وظهرت الأهواء التي تمهد للوثنية من جديد، وأصبحت وصية نوح بهود (عليهما السلام)، لا يهتم بها إلا طلاب العلم الذين عكفوا على كتب العلم وآثار علم النبوة، وظهرت الأمم التي أخبر الله تعالى بها نوحا (عليه السلام) بقوله: ﴿يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(4) وكانت عاد من هذه الأمم.

 

أولا: عاد والدعوة إلى الله:

1- عاد قوم هود:

ينتسب قوم عاد إلى عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح(5) وكان عاد يعبد القمر(6). ونزل هو وولده بالأحقاف وقيل إن الأحقاف واد بين عمان وأرض مهرة. وقيل: من عمان إلى حضرموت. وهي رمال مشرفة على البحر بالشحر(7) وبعد عاد جاء من ولده من يعبد الأصنام فأقام في قومه ثلاثة أصنام عبدوها من دون الله وهي: صمود، صداء، الهباء(8).

 

وعاد كانت تتكون من عشر قبائل، كانوا جميعا على هيئة النخل طولا.

 

ولقد خصهم الله تعالى من بين الأقوام ببسطة في الخلق وعظم الهيكل البدني. وبهذه القوة تمتعت عاد بين الأمم برقي في المدينة والحضارة. ويكفي بهم حضارة ما ذكره القرآن الكريم عن مدينتهم. عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد، كما كانت أرضهم خصبة ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم. فهذه الأشياء وغيرها تستوجب شكر الله عليها. ولكن عادا فتنت بقوتها وسارت في قافلة الكفر مبهورة بشبابها. وعلى امتداد طريق الكفر زين الشيطان لهم أعمالهم، ومحا من ذاكرتهم ليس بعث هود فيهم فحسب، وإنما الأحداث الحقيقية التي أدت إلى الطوفان الذي أطاح بكفار قوم نوح. فبعد أن طال الأمد وانتقلت عاد إلى أرضها الجديدة. كانت الأساطير والخرافات قد دثرت أحداث الطوفان. وعلى امتداد هذه الأساطير وقف العتاة والطغاة في عاد على أن الطوفان يمكن تفادي خسائره البشرية إذا شيدت الدور والأبنية على أعمدة عالية أو فوق قمم الجبال وعلى أي مرتفع من الأرض.

 

ووفقا لهذا الفهم الذي تنتهي أصوله إلى دائرة الآمال الطويلة وحب الحياة، أقامت عاد أول حضارة لها على الأعمدة.

 

يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ / إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ / الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾(9) ذكر ابن كثير البغوي: أن هؤلاء هم عاد الأولى. وإرم اسم قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها. وكانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد. كما أنهم بنوا عمدا بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد، وعاد الأولى دمرها الله تعالى لتكون عبرة لعاد التي بعث الله تعالى إليها هودا (عليه السلام)، ولكن أهل الأحقاف لم يعتبروا، وشيدوا حضارتهم بروح حضارة عاد الأولى، فأقاموا المصانع التي تنحت الأحجار وشيدوا القصور والقلاع على الأرض، ورفعوا فوق كل مرتفع من الأرض مأوى يحمي الناس من عوامل الطبيعة، ومع هذه الأخلاق الحديدية ظهرت الثقافة الحديدية التي تنطلق من منطق القوة، واستكبرت عاد في الأرض استكبارا لا حدود له .. يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾(10) لقد بغوا وعتوا وعصوا. ولأنهم بلوا بشدة تركيبهم وقواهم اعتقدوا أنهم يمتنعون بها من بأس الله(11) ومع عقيدة كهذه وثقافة كهذه، تشنق الخيول المشلولة بلا أي جريرة.

 

وتحت فقه الغطرسة الذي دونته عاد يكون السب والطعن وشتى الإهانات من نصيب كل من يحمل بين جنباته فطرة نقية سليمة، فعاد شيدت الحصون على الأرض وفوق المرتفعات، ووفقا لفقه ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ الذي دونه الفقهاء الذين كانوا بآيات الله يجحدون. انطلقت عاد وراء الخلود خوفا من الموت. وأعلام الخلود والأماني والآمال العريضة يحملها الشيطان. بربط الناس بالدنيا وهو من أجل هذا الهدف لا يترك طريقا إلى الأهواء إلا زينه وزخرفه.

 

ومن عالم الزينة تخرج الأقوال التي ما إن تسمعها الآذان حتى تنصت لها، وتتحرك الأشياء التي ما إن تراها العيون حتى تحتضنها، إن عالم عاد هو عالم كفران النعمة ونكران المنعم، الذي يستهان فيه بالقتل ولا يقام فيه للفضيلة أي وزن! وعاد أمسكت بذيل كفار قوم نوح عندما رفضوا بشرية الرسول ﴿قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً﴾(12) ورفض الرسول البشر، غرس شيطاني يضمن به عدم قبول أكثر الناس الهداية التي تأتيهم من رسول يماثلهم في البشرية، فالشيطان رفض البشرية من أساسها وظن في نفسه أنه أعلى منها مقاما، ووفقا لهذا المخزون الذي تحتويه النفس الشيطانية، طرح الشيطان منهج الرفض هذا بما يستقيم مع البشر، فكل صاحب هوى وكل صاحب عدة وجموع سيرى في نفسه أنه أعلى مقاما من الذي يدعوه وعلى هذا ستنحصر الهداية في رقعة.

 

وينطلق الشيطان في الرقعة الأوسع. والشيطان بطابوره الطويل زرع له أولياء مهمتهم الصد عن سبيل الله، معتمدين في ذلك على فقه التحقير بجميع أدواته من سب وطعن وغير ذلك، والله تعالى حذر من سبل هؤلاء الأولياء وسيدهم، وأخبر بأنهم أعداء للبشرية جمعاء ولا يريدون لها الخير. فقال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾(13) لقد حذر سبحانه بأنه لا ينبغي للناس أن يفتتنوا بما يزينه لهم الشيطان وذريته من ملذات الدنيا وشهواتها لكي يعرضوا عن ذكر الله، ولا ينبغي أن يطيعونهم فيما يدعون إليه!

 

وعاد افتتنت بما زينه الشيطان لها، وأطاعته فيما يدعي إليه، ورفعت أعلام ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ وفي زمان الافتتان هذا، وفي عالم الأخلاق الحديدية هذه، بعث الله تعالى هودا عليه السلام إلى عاد. ولقد تعرض القرآن الكريم لقصة عاد والنبي المبعوث فيها هود (عليه السلام) في عشر سور منه هي: الأعراف، هود، المؤمنون، الشعراء، فصلت، الأحقاف، الذاريات، القمر، الحاقة، الفجر، وعاد الأولى هي إرم ذات العماد.

 

وصاحب إرم غير عاد قوم هود، قال تعالى: ﴿أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾(14) وإنما قال عاد قوم هود ليتميز عن عاد صاحب إرم ذات العماد. وجبار إرم ذات العماد أهلكه الله لتعتبر عاد ولكن عادا أمسكت بذيله وسارت على طريقته فبعث الله فيها هودا (عليه السلام)، وهود (عليه السلام) كما يراه القلب من خلال قصته مع عاد، كان إنسانا وقورا رزينا عاقلا واسعا صدره عظيما عقله، كبيرة نفسه، ذا شعور قوي، زاهدا عابدا عفيفا أبيا غيورا، صلب الإيمان خشنا في ذات الله سبحانه وتعالى، على الكافرين عذابا صبا وللمؤمنين أبا رحيما، لا يقابل الشر بمثله بل لا يفارقه العطف واللطف والحنان واستعمال اللين والإخلاص في أقواله مع قومه(15) وكان هود (عليه السلام) من قبيلة يقال لها الخلود وكان من أوسطهم نسبا(16) وأصبحهم وجها، وكان في مثل أجسامهم أبيض بادي العنفقة طويل اللحية، وكان (عليه السلام) ينذر قومه، ويحذرهم بأس الله، ويضرب لهم الأمثال بقوم عاد الأولى وبقوم نوح (عليه السلام) قبلهم ويذكرهم بنعمة الله عليهم.

 

2- الدعوة إلى الله:

كان هود (عليه السلام) أول رسول من الله تعالى بعد نوح (عليه السلام). وهو أول رسول بعث إلى قوم افتتنوا بقوتهم وقالوا ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ وهود (عليه السلام) تجمعه بقومه. صلة القرابة، ودعوة القوم إلى الهداية بواحد منهم يعرفهم ويعرفونه، يجعل الدعوة تسير بسهولة ويسر، نظرا لأن القوم يعرفون أمانة وصدق المبعوث إليهم.

 

كما أن عنصر القرابة يكون بمثابة مائدة للتعاطف من خلالها يفهمون الرسالة ويدافعون عنها وبث الدعوة أولا بين أهل القوم الواحد، لطف من الله ورحمة بالعباد، فهو سبحانه بعث رسله على أرضية القربى لتفتح القربى طريق المودة، ووضع الدعوة في أول خطواتها على أرضية التعاطف والقربى والمودة إشارة إلى أن دين الله لا إجبار فيه.

 

دين مقدمته قبل أن يتكلم تقوم على التعاطف. وبهذا كله مما تقبله الفطرة السليمة. ولكن عندما اجتالت الشياطين الناس أصبح أبناء التراب يرفضون أبناء التراب وأبناء الرحم الواحد يقاتلون إخوانهم وكل هذا تحت لافتة ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ تلك اللافتة التي رفضت البشر الرسول ورفضت بعد ذلك جميع الهداة الصادقين على امتداد التاريخ! وفي هذا العالم الذي ألف دق خيام القسوة والظلم كان طريق الدعوة طريقا شاقا، وقام الجبابرة العتاة داخل كل قوم باضطهاد النبي المبعوث فيهم والذين آمنوا معه وهم جميعا من أبناء جلدتهم، فتحت شعار الجبابرة ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ طرد الأنبياء ورجموا بالحجارة، ونتيجة لمقدمة الذين كفروا التي تحمل الحجر، أصبحت الرسالة وأتباعها في جانب وأهل الكفر والأهواء في جانب آخر.

 

وعاد أول من دون فقه الغطرسة، وقفت من هود (عليه السلام) موقف الضد، كان يدعوهم بكلمة المودة والتعاطف ﴿يَا قَوْمِ﴾ فيواجهوه بالشر الجسيم والتمرد العظيم والجرأة الغليظة. وهود (عليه السلام) ما كان يدعوهم إلا لعبادة الله. وما كان يخاطبهم إلا بلطف وعطف. وكان (عليه السلام) يعاتبهم على ما يقومون به من البناء فوق كل مرتفع من الأرض وعلى اتخاذهم مصانع تصنع لهم الحصون لعلهم يخلدون، وعلى شدتهم وخشونتهم في تعاملهم مع الناس، وذكرهم بنعم الله تعالى عليهم من أموال وبنين وجنات وعيون، ودعاهم إلى الرجوع إلى الله، لأن عدم الرجوع إليه بالتوبة والعمل الصالح سيترتب عليه عذاب يوم عظيم. يقول تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ / إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ / إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ / فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ / وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ / أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ / وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ / وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ / فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ / وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ / أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ / وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ / إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم﴾(17).

 

لقد ردهم (عليه السلام) في دعوته إليهم إلى الحق الذي عليه تقوم الفطرة، قال لهم: ﴿يَا قَوْمِ﴾ ليلقى خطابه القبول في نفوسهم، ودعاهم إلى تقوى الله، وأخبرهم بأنه أمين لهم وأنه يدلهم على الطريق الذي لا يخيب من سار على هداه. وأمرهم بطاعته لأن طاعته هي طاعة الله، وبين لهم أنه لا مطمع دنيوي له فيما يقوله لهم، فهو لم يسألهم الأجر. فإذا كان هو الأمين الذي يعرفون أمانته.

 

وهو أيضا الذي لم يسألهم الأجر. فإن في كل هذا دليل على أنه ناصح لهم فيما يدعوهم إليه.

 

كانت هذه مقدمته (عليه السلام) عندما خاطبهم. ثم بدأ ينتقد حضارة الأخلاق الحديدية فقال: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾ قال البغوي: الريع: المكان المرتفع(18) .. وكانوا يبنون فوق المرتفعات بنيانا محكما هائلا باهرا (19).

 

والآية: العلامة والبناء على الأماكن المرتفعة، اخترعته عاد الأولى هروبا من الطوفان بعد أن شوهت الأساطير حقيقة طوفان قوم نوح، واعتبروه ثورة طبيعية يمكن مقاومتها بالبناء فوق المرتفعات وتحصين المنشآت على الأرض ضد السيول. وبعد أن أهلك الله عادا الأولى، جاءت عاد الثانية إلى الأحقاف، وقاموا بسلخ العمد من الجبال حتى إن العمود الواحد كان بطول الجبل، ثم ينقلون هذه الأعمدة وينصبونها ويبنون عليها القصور (20)، ولقد أخبرهم هود (عليه السلام) أن هذا العمل لا يدرج إلا تحت عنوان العبث، لأن اليوم العظيم إذا جاء فلن تقف أمامه علامات فوق المرتفعات، ولا حصون وقلاع على الأرض الممهدة، فعملهم هذا عبث لا احتياج إليه، وهو في الحقيقة مجرد لهو وإظهار للقوة(21) ثم انتقل (عليه السلام) إلى الشطر الثاني من حضارة القوة فقال: ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ قيل: المصانع كانت لنحت الجبال وبناء القصور. وقيل: هي البروج المشيدة والبنيان المخلد(22) وكان القوم يعتقدون أن هذه المصانع كافية لحمايتهم من الموت ووقايتهم من مؤثرات الجو ومن غارات الأعداء .. فقال لهم (عليه السلام): أتتخذون مصانع لكي تقيموا فيها أبدا.

 

وذلك ليس بحاصل لكم بل زائل عنكم كما زال عمن كان قبلكم(23).

 

وبعد أن انتقد أعمدة عاد التي أقامت عاد عليها حضارتها وثقافتها الحديدية انتقل من الأعمدة الصخرية إلى الأعمدة التي. تتكون من لحم ودم وعظم وقال لهم: ﴿وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ لقد وصفهم بالقوة والغلظة والجبروت(24) "إذا بطشتم" أي إذا أخذتم وسطوتم "بطشتم جبارين" أي قتلا بالسيف وضربا بالسوط. والجبار هو الذي يقتل ويضرب على الغضب(25) لقد ربط (عليه السلام) بين الأعمدة. بين الحجارة والدماء. فأعمدة هناك تنحت من الصخر ليرفع فوقها أعلام التحدي ورجاء الخلود، وأعمدة من لحم ودماء نزلت بالإنسان إلى أسفل سافلين. فنهش أصحابها أبدان المستضعفين طمعا في امتلاك جلودهم. إن عالم الأعمدة هو عالم الجوع والخوف.

 

لقد كفروا بالنعمة وبالمنعم فألبسهم الله لباس الجوع والخوف. إن القلاع،. والحصون خوف وجوع، وبطش الجبارين خوف وجوع، لأن الاطعام والأمن لا وجود له إلا في دائرة التقوى على الصراط المستقيم. وعاد قفزت من الدائرة وانحرفت عن الصراط. وبعد أن انتقد (عليه السلام) حضارتهم طالبهم بالدخول في دائرة التقوى وأن يطيعوا الله تعالى فيما يأمرهم به من ترك الترف والاستكبار. لأن الله تعالى هو الذي أمدهم بما يعلمون من بسطة في الخلق وعظم الهيكل البدني، وهذا ظاهر لهم حيث يفوقون الأمم من حولهم في هذا، وهذه القوة زادت من قوتهم، فالواجب عليهم أن يشكروه عليها بوضع النعمة في موضعها، لأن الهلاك سببه كفران النعمة والطغيان بالمعصية، ثم ذكر لهم (عليه السلام) ما أمدهم الله به وعليه قامت أيضا حضارتهم. فالله تعالى أمدهم بالأموال والأنعام والبنين وجعل لهم الجنات والعيون. فهذا العطاء يجب أن يشكروا الله عليه ويتقوه فيه، لأن عدم شكر الله قد يحول هذا العطاء من مجرى النعمة إلى مجرى النقمة، ومجرى النقمة يكون إذا آثروا المعصية على الطاعة. ثم قال (عليه السلام): ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أخبرهم أنه يخاف عليهم لأنهم قومه، ويخاف عليهم لأنه أمين لا يسألهم أجرا، مشفق عليهم من عذاب الجبار خائف عليهم من نقمته وحلول غضبه على من تمرد عليه وبغى، ولم يرحم نفسه بخضوعه لله الواحد الذي له سلطان الدنيا والآخرة.

 

كان (عليه السلام) يتعامل معهم على مائدة القوم، مائدة التعاطف، فماذا كان ردهم؟ لقد جاء الرد بعيدا عن مائدة التعاطف جاء من قوم لا يتعاملون مع الطبيعة ومع الناس إلا تعامل الجبابرة ﴿قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ / إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ / وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾(26) لقد قابلوا خطابه الذي اتسم باللطف والعطف والخلق الكريم، قابلوه بقسوة وقالوا: ما يعنينا أن تعظ أو لا تكون أصلا من الواعظين. وأن ما ذكرته من الدعوة إلى التوحيد.

 

وما بينته من المواعظ في شأن ما تقوم عليه حياتنا. كل هذا من عادة البشر الأولين الماضين الذين نسمع عنهم في الأساطير والخرافات(27).

 

والبشر الأولين بالنسبة لعاد هم قوم نوح بعد الطوفان، فبعد نوح (عليه السلام) بدأت قوافل التوحيد تتحرك هنا وهناك تدعو إلى الله. وبعد أن طال الأمد طوى النسيان ما كانت تعظ به هذه القوافل. ثم اقتحم الانحراف بثقافته عالم النسيان. واعتبر كل ما كان يعظ به الأوائل شذوذ وهكذا فعلت الأهواء بأصحابها. أنستهم الله فعبدوا الأصنام. وأنستهم معجزات الله يوم الطوفان فأقاموا الأعمدة لتحميهم من الطوفان. وأنستهم صوت الحق والضمير على امتداد الأيام فاعتبروا التوبة والاستغفار رجعية. وإذا كانت عاد أول من قالوا: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ﴾، فلقد أمسك كفار قريش الذين واجهوا الرسالة الخاتمة بذيلهم ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا(28).

 

وذكر البغوي وابن كثير أن آخرين قرأوا ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ﴾ بضم الخاء واللام. يعنون دينهم وما هم عليه من الأمر، هو دين الأولين من الآباء والأجداد.

 

ونحن تابعون لهم سالكون وراءهم نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا. ولا بعث ولا معاد. ولهذا قالوا: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾(29).

 

لقد انتفخت عاد بالغطرسة وانتفشوا بالغرور وازدادوا عتوا وتمردا وعنادا أمام رسول الله الذي يدعوهم إلى الإيمان بالله على بصيرة، ومع العتو والغرور. كان كل يوم يمر تشيد عاد المزيد من الحصون والقلاع والمخازن المملوءة بالحبوب وفقا لثقافة ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾؟

 

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- سورة فصلت / 15.

2- مروج الذهب -المسعودي- ج1 / ص26.

3- الميزان ص10.

4- سورة هود / 48.

5- مروج الذهب ج2 / ص57، ابن كثير ج4 / ص507.

6- مروج الذهب ج2 / ص44.

7- الميزان ج10 / ص307.

8- مروج الذهب ج2 / ص157.

9- سورة الفجر / 6-7.

10- سورة فصلت / 15.

11- ابن كثير ج 4 / ص94.

12- سورة فصلت / 14.

13- سورة الكهف / 50.

14- سورة هود / 60.

15- الأنبياء: حياتهم وقصصهم -الحسني العاملي- ص102.

16- ابن كثير ج2 / ص225.

17- سورة الشعراء / 123-135.

18- البغوي ج6 / ص229، الميزان.

19- تفسير البغوي ج6 / ص229.

20- كتاب الأنبياء ص96.

21- البغوي ج6 / ص229.

22- البغوي ج6 / ص229.

23- البغوي البغوي ج6 / ص299.

24- البغوي ج6 / ص229.

25- ابن كثير ج6 / ص229.

26- سورة الشعراء / 136-138.

27- البغوي ج6 / ص220.

28- ابن كثير.

29- ابن كثير ج1 / ص342.