النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) -8

3- الصد بالمنافقين:

بعد أن تآكل معسكر الانحراف في ميادين القتال وبعد ن حطم القرآن حجج أصحاب الأهواء وتجار التراث الذي ليس فيه من الله سلطان. لم يكن أمام معسكر الانحراف سوى ورقة النفاق. وهذه الورقة كانت شر ورقة بل وأمضى سلاح استخدم في عالم الصد. وذلك لأن المنافق يعيش بلسانه وسط المسلمين بينما ينبض قلبه فخيمة من خيام الانحراف التي يباركها الشيطان. فهو بلسانه دخل المساجد يصبح من المصلين له ما لهم وعليه ما عليهم.

 

في نفس الوقت يحيط بقلبه غلالات الحقد والحسد وغلالات الأهواء المتنوعة التي تحمل بصمات سلف الانحراف في جميع الأجيال. لقد كانت ورقة النفاق التي استعملها معسكر الصد عن سبيل الله. تحمل بذرة ملعونة أنبتت شجرة ملعونة هي من أسوء أشجار معسكر الانحراف لأن المنافقين بملابس الإسلام قادوا أكثر من سبعين فريقا إلى النار. بعد أن قاموا بتأويل الآيات وفقا لأهوائهم. الأمر الذي أدى بهم في نهاية المطاف إلى اتباع سنن الذين من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. فشاركوهم الذل في الدنيا وفي الآخرة يشاركونهم.

 

عذاب السعير يوم يكونوا في الدرك الأسفل من النار. والنفاق وإن كانت له معالم ضيقة في بداية الدعوة في مكة. إلا أنه في المدينة اتسع وكان المنافقون يقفون مع أعداء السلام بصورة من الصور على الرغم من وجودهم في الخندق السلامي.

 

والقرآن الكريم فضحهم في أكثر من موضع. ولأن درب النفاق طويل ويحتاج بحثا منفصلا فإننا سنسلط الأضواء هنا على الخطوط الرئيسية للنفاق في صدر الإسلام. تلك الخطوط التي سد عليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جميع المنافذ في حياته. وعندما تغافل عنها المسلمون بعد مماته. انطلقت للتاجر الشعار الخالي من كل شعور.

 

أ- المنافقين أعدى أعداء الحق:

تكرر ذكر المنافقين في السور القرآنية كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر والمنافقون والتحريم. وقد أوعدهم الله في كتابه أشد الوعيد. ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم وجعل الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم. وإذهاب نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وفي الآخرة يجعلهم في الدرك الأسفل من النار.

 

وليس ذلك إلا لشدة المصائب التي أصابت الإسلام والمسلمين من كيدهم ومكرهم وأنواع دسائسهم. فلم ينل المشركون واليهود والنصارى من دين الله ما نالوه. وناهيك فيهم قول الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) يشير إليهم: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾(1) وقد ظهر آثار دسائسهم ومكائدهم أوائل ما هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة فورد ذكرهم في سورة البقرة. وقد نزلت -على ما قيل- على رأس ستة أشهر من الهجرة. ثم في السور الأخرى النازلة بعد بالإشارة إلى أمور من دسائسهم وفنون من مكائدهم.

 

كانسلالهم من الجند السلامي يوم أحد وهم ثلثهم تقريبا. وعقدهم الحلف مع اليهود واستنهاضهم على المسلمين وبنائهم مسجد ضرار واشاعتهم حديث الإفك إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات القرآنية حتى بلغ أمرهم في الفساد وتقليب الأمور على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(2) إلى حيث هددهم الله تعالى بقوله: ﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا / مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾(3).

 

وأجهزة ومؤسسات النفاق عملت على خطوط الصد عن سبيل الله في كل موضع نظرا لاختفاء جنودها تحت اللافتة الإسلامية. وهذه الميزة جعلتهم يتسللون في كل مكان. والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعرف بعضهم.

 

والبعض الآخر لا يعلمهم ولا يعلمهم إلا الله. يقول تعالى لرسوله: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾(4).

 

قال المفسرون: أي من القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب منافقون ومن أهل مدينتكم أيضا أمثالهم أقوام منافقون ﴿مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ﴾ أي مرنوا عليه ودربوا به. وقيل: مردوا على النفاق أي لجوا فيه وأبوا غيره. لا تعلمهم أنت يا محمد. وهؤلاء المنافقين الذين وصفت لك صفتهم نحن نعلمهم(5) فهذا الفريق الذي مرن على النفاق ودرب به ومارسه. حتى اعتاده. منه من أجاد التسلل بين الأحداث طمعا في الرئاسة والإمارة والعودة بروح القبيلة التي قضى (عليها السلام) بعد أن أرسى قاعدة إن أكرم الناس عند الله أتقاهم وهذا الصنف الذي وضع الإمارة أمام عينيه شق طريقه بالركوبة التي تنظم له الوصول إلى هدفه. ومن المنافقين أيضا من ارتد كما في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾(6) وكتم الارتداد لا يحمل إلا السوء للأمة والمتدبر في حوادث آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والفتن الواقعة بعد رحلته يجد صورا عديدة تبدو فيها ملامح أولئك الذين دربوا ومرنوا على النفاق.

 

وطابور الانحراف الذي يحمل اسم النفاق ويعمل على خطوط الصد له هيئته وهيبته بين الناس. فالفريق وإن كان بينه الأخساء وأولاد الزنا إلا أنه يجمع بين دفتيه الشراف وأصحاب الصوت المسموع والكعب العالي. يقول تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾(7).

 

قال المفسرون: المراد أنهم على صباحة من المنظر وتناسب من الأعضاء. إذا رآهم الرائي أعجبته أجسامهم وفصاحة وبلاغة من القول إذا سمع السامع كلامهم مال إلى الاصغاء إلى قولهم لحلاوة ظاهره وحسن نظمه. وقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ﴾ ذم لهم. والمراد أن لهم أجساما حسنة معجبة وقولا رائعا ذا حلاوة.

 

لكنهم كالخشب المسندة. أشباح بلا أرواح لا خير فيها ولا فائدة تعتريها لكونهم لا يفقهون. وقوله: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ ذم آخر لهم. أي أنهم لإبطانهم الكفر وكتمانهم ذلك من المؤمنين يعيشون على خوف ووجل ووحشة.

 

يخافون ظهور أمرهم واطلاع الناس على باطنهم. ويظنون أن كل صيحة سمعوها فهي كائنة عليهم وأنهم المقصودون بها وقوله: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ أي هم كاملون في العداوة. بالغون فيها. فإن أعدى أعداءك. من يعاديك وأنت تحسبه صديقك(8).

 

فالفريق الانحرافي لهم مواهب عديدة دربوا عليها ولم يستعملوها إلا في مواضعها. وما كانوا يحذروا إلا أن ينزل الله فيهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم. ورغم حذرهم هذا إلا أن البعض منهم أقدم على أعمال من أجل عرقلة المسيرة.

 

واضعين في اعتبارهم أن اكتشاف حقيقتهم يذوب أثره بمجرد أن يحلفوا بالله أنهم ما فعلوا أو إنهم فعلوا هذا من باب اللهو. لقد كشفت آيات القرآن الكريم خطة المنافقين في استغلال القسم بالله للتمويه على جرائمهم في أكثر من سورة من سور القرآن منها قوله تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾(9).

 

قال المفسرون: ويحلفون بالله لكم أيها المؤمنون كذبا وباطلا خوفا منكم إنهم لمنكم في الدين والملة. وما هم منكم. أي ليسوا من أهل دينكم وملتكم. بل هم أهل شك ونفاق يخافونكم يقولون بألسنتهم إنا منكم ليأمنوا فيكم فلا يقتلون(10) وفي موضع آخر يقول تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾(11).

 

فتحت دثار القسم هذا أرادوا لجرائمهم في حق الفطرة أن تعبر. ولكن الوحي كان لهم بالمرصاد فكشف الجرائم وجعلهم عبرة يعتبر بها من أخذ بذيل آباء النفاق أولئك الذين تاجروا بآيات الله وبالمساجد وبكل شعار للإسلام بعد أن فرغوه من كل شعور وروح.

 

ب- من جرائم المنافقين:

جرائم معسكر النفاق الذي تلحف بلحاف المسلمين لا تصب نتائجها إلا في صالح الذين كفروا بالإسلام ورسالته وذلك لأن المنافقين تربطهم بالذين كفروا أخوة الصد عن سبيل الله. وهذه الأخوة سجلها كتاب الله في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ..﴾(12) لقد وضعهم الله تعالى في كتابه في خرمة واحدة مع الذين كفروا لأن أهدافهم واحدة. ولأن جرائم المنافقون في حق الفطرة عديدة فإننا نكتفي. بإلقاء الضوء على ما نرى أنه يفي بالغرض. وأول هذه الجرائم محاولة طابور النفاق اغتيال الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولقد أفاضت كتب التفسير في وصف هذا الحدث. وقال بعض المفسرين في تفسير سورة التوبة أن اثني عشر رجلا(13) وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند رجوعه وتبوك. فأخبر جبرائيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك. وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم. وعمار بن ياسر كان يقود دابة رسول الله. وحذيفة يسوقها. فقال لحذيفة: أضرب وجوه رواحلهم. فضربها حتى نحاهم. فلما نزل. قال رسول الله لحذيفة: من عرفت من القول؟ قال: لم أعرف منهم أحدا. فقال رسول الله (ص): إنه فلان وفلان حتى عدهم كلهم فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فنقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم.

 

وفي رواية ".. وأمر رسول الله حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه. وأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة وحذيفة يسوقها. فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوهم. فغضب رسول الله. وأمر حذيفة أن يراهم ويتعرف عليهم. فرجع ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم وضربها بالمحجن. وأبصر القوم وهم متلثمون فأرعبوا حين أبصروا حذيفة. وظنوا أن مكرهم قد ظهر فأسرعوا حتى خالطوا الناس. وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله. فلما أدركه قال: أضرب الناقة يا حذيفة وامش أنت يا عمار.

 

فأسرعوا وخرجوا من العقدة ينتظرون الناس. فقال النبي: يا حذيفة: هل عرفت أحدا منهم؟ فقال: عرفت راحلة فلان وفلان. وكانت ظلمة الليل قد غشيتهم وهم متلثمون. فقال رسول الله: هل عرفت ما شأنهم. ما يريدون؟ قال: لا يا رسول الله قال: فإنهم فكروا أن يسيروا معي حتى إذا صرت في العقبة طرحوني فيها. فقال: أهلا ترأف بهم إذا جاءك الناس؟ قال: أكره أن يتحدث الناس ويقولوا إن محمدا قتل أصحابه ثم سماهم بأسمائهم.

 

ومن المعلوم من سير الحوادث. أن المسألة إذا كانت تتعلق بكبار الصحابة. فلا ترد أسماؤهم صريحة فيها. ويأتي التعبير عنهم بفلان وفلان.

 

وكل مورد من هذا القبيل فهو يعني جماعة يخاف الراوي من التصريح بأسمائهم.

أما إذا لم يكن الحادث مع الكبار من الصحابة. فيأتي الاسم صريحا كما يبدو ذلك للمتتبع وسيأتي أمثلة ذلك فيما بعد وقصة المؤامرة في كتب التفسير بالمأثور وجوامع الحديث وذكر اليعقوبي في تاريخه بصورة مجملة وقال إن حذيفة كان يقول أنه يعرفهم بأسمائهم(14) وروي أن ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد أن عمار قال في الفريق الذي أراد اغتيال رسول الله: "أشهد أن الاثني عشر الباقين منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا"(15).

 

إن طابور النفاق الذي أعد خطة اغتيال رسول الله لم يكن ليقدم على مثل هذه الخطوة إلا بعد أن تأكد أن بين صفوفه العديد من الذين إذا قالوا استمع الناس لأقوالهم وإذا رآهم الناس أعجبتهم أجسامهم. فلو لم يكن الطابور على ثقة في كوادره وأنهم يتمتعون باللسان الطليق وبمقدرة على احتواء ما سيترتب عليه الحدث ما أقدموا على ذلك وخلاصة القول: لقد تحركوا لتنفيذ الجريمة من باب عدم الإيمان بالله والاستهزاء بآياته وانطلقوا في طريق الانحراف من أجل سد أبواب الطهارة عن الفطرة. ولكن الله تعالى ردهم ولم ينالوا شيئا. ووراء الجدران بدأوا يرتجفون خوفا من أن ينزل الله فيهم سورة تخبر المؤمنين بهم.

 

وأعدوا لهذا سيلا من الأعذار طمعا في النجاة. ووراء الجدر عاشوا حياة الظلام وإن كانوا تحت الشمس وحياة الخوف وإن كانوا بين الجند.

 

أما الجريمة الثانية التي نلقي عليها الضوء. فهي جريمة بناء المسجد الضرار. لقد أراد طابور الانحراف أن يشق الدعوة برموز الدعوة. ففي عصر الرسالة لم يكن في استطاعة هذا المعسكر سوى أن يقيم بنيانا تقام فيه الصلاة وتبث منه ثقافة تمهد لمجئ الروم. يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾(16).

 

قال المفسرون: إن الباعث لهم على هذا العمل. كان أمورا أربعة:

 

الأول: الضرار وهو المضارة أي إيوَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُصال الضرر.

والثاني: الكفر بالإسلام وذلك أنهم أرادوا تقوية أهل النفاق.

والثالث: التفريق بين المؤمنين. لأنهم أرادوا أن لا يحضروا في مسجد قباء. فتقل جماعتهم. ولا سيما إذا صلى النبي في مسجدهم. فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة.

والرابع: قوله: ﴿وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ﴾(17).

 

هذه أعمدة مسجد طابور الانحراف. أعمدة هدفها الصد عن سبيل الله.

وبداية هذه العمل كما اتفق عليه أهل النقل: إن جماعة من بني عمرو بن عوف.

بنوا مسجد قبا. وسألوا النبي أن يصلي فيه. فصلى فيه فحسدهم جماعة من بني غنم بن عوف. وهم منافقون. فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا ليضروا به ويفرقوا المؤمنين منه وينتظروا أبي عامر الراهب الذي وعدهم أن يأتيهم بجيش من الروم ليخرجوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة وأمرهم أن يستعدوا للقتال معهم، ولما بنوا المسجد أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتجهز إلى تبوك. وسألوه أن يأتيه ويصلي فيه. ويدعو لهم بالبركة. فوعدهم إلى الفراغ من أمر تبوك والرجوع إلى المدينة. فلما رجع النبي من تبوك نزلت الآيات. وروي أن أحد المنافقين وهو أبو عامر الراهب قد أمرهم ببناء هذا المسجد. وقد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح. فلما دخل النبي المدينة كان يشاغب عليه. وبعد أن فتح النبي مكة التجأ أبو عامر إلى الطائف. ولما أسلم أهل الطائف التحق ببلاد الشام وتنصر. وقد أرسل إلى المنافقين أن يتموا بناء المسجد ويجدوا في أمرهم. ووعدهم بأنه سيذهب إلى قيصر. ويحرضه على إرسال جيش قوي إلى المدينة للقضاء على محمد ومن معه من المسلمين. فكان المنافقون يتوقعون ذلك. ولكنه هلك قبل أن يتصل بملك الروم. ولما نزل الوحي على النبي.

 

وقص عليه حديث هذا المسجد أمر النبي بإحراقه وأن يتخذوه مكانا للأوساخ والنفايات.

لقد تظاهروا بالدين وتاجروا بالشعارات وبناء المساجد. لأغراض تخدم أعداء الدين. ويتخذون منها منطلقا للمؤامرة على الإسلام والمسلمين. فجهاز النفاق كان يعد العدة لاغتيال الرسول وهو في طريق العودة من تبوك. وفي نفس الوقت كان مسجدهم الضرار له مهمة أخرى في حال نجاة الرسول من القتل على طريق تبوك. لكنهم لم يربحوا هنا أو هناك. وفضحتهم بصماتهم هناك على صفحات التاريخ وفضحهم مسجدهم هنا حيث أصبح محلا للأوساخ والنفايات.

 

وفضح الله امتدادهم على مر الزمان. كما فضح الذين اتخذوا العجل من بعد موسى (عليه السلام). فالذين اتخذوا العجل قال فيهم سبحانه: ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾(18).

 

قال المفسرون: الإشراب هو السقي. والمراد بالعجل. حب العجل. وضع للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل(19) لقد أشربوا العجل وناولوا كأسه لمن اتخذهم قدوة أو وقع هواه على هواهم أما الذين اتخذوا المسجد الضرار ففيهم يقول تعالى: ﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(20).

 

قال المفسرون: أي شكا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع. أورثهم نفاقا في قلوبهم كما أشرب عابدوا العجل حبه(21) لقد أتموا البناء وحلفوا بالله ما أرادوا ببنائهم إلا خيرا ورفقا بالناس والله يشهد أنهم لكاذبون فيما قصدوا وفيما نووا(22) لهذا جعلهم الله عبرة لمن أراد الاعتبار ولكي يتدبر في أحداثهم أولئك الذين يقيمون المساجد لأغراض لا تمت إلى الدين بصلة من الصلات. ويعلموا أن البناء الذي يفرق بين المسلمين ويدس على الإسلام ما ليس منه ويستند على أكتاف أعداء الله. هو في حقيقة الأمر امتداد للبناء الأول والقائمون عليه شربوا من إناء سلفهم الأول وإن لم يروهم.

 

ومن جرائمهم أيضا في صدر الإسلام تثاقلهم عن الجهاد وانسحابهم من المعركة بلا سبب. وعند حركتهم أثناء القتال قال تعالى: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾(23).

 

قال المفسرون: الخبال: هو الفساد واضطراب الرأي.

 

والإيضاع: الاسراع في الشر والخلال: البين. والبغي: هو الطلب. فمعنى يبغونكم الفتنة: أي يطلبون لكم أو فيكم الفتنة. والفتنة هي المحنة واختلاف الكلمة. وقوله تعالى: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ أي فيكم مطيعون لهم ومستجيبون لحديثهم وكلامهم.. وقيل: فيكم سماعون لهم: أي عيون يسمعون لهم الخبار وينقلونها إليهم(24).

 

فخط الصد الذي يحمل اسم النفاق يعمل من أجل اختلاف الكلمة في أشد الأوقات ولقد عمل من أجل تفرق الجماعة في غزوة أحد حين رجع عبد الله بن أبي سلول بثلث القوم وخذل النبي. وتثاقلوا بعد ذلك في أكثر من غزوة وأرادوا بهذا الخذلان أن تأكل الحرب المسلمين ولم يكتف معسكر النفاق بانسحابه من المعارك بل استعان بخط ثان يتجسس لحسابه ويدعو إلى الخلاف والخذلان عن الجهاد. وعلى الرغم من اختراق النفاق لأكثر من ساحة. إلا أن الله رد كيدهم فلم يلحقوا بالدعوة في عهد النبوة أي ضرر. ولم يستطيعوا النيل من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رغم محاولاتهم العديدة لقضاء عليه. لم يستطيعوا هم أو غيرهم. لأن الله تعالى عصم رسوله منهم قال سبحانه: ﴿وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾(25) وتحدى سبحانه الناس أن يكيدوا لرسول الله وأن يضروه إن استطاعوا ولن يستطيعوا فقال جل شأنه: ﴿قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ﴾(26) لقد كانت عصمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حجة بذاتها على أجهزة الكيد التي تخدم خطوط الانجراف. فشلهم في كل مرة كان في حقيقة الأمر دعوة للتوبة والإيمان بالرسالة. ولكن أهل التذبذب والنفاق لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وتمادوا في طغيانهم ومكائدهم و سبحوا في التجاه المضاد لحركة الفطرة والكون. وهذه السباحة وهذا التوغل في الظلام جعلهم غرضا لضربات الكون.

 

وهذه الضربات كانت أيضا دعوة لهم كي يؤمنوا الإيمان الحق لكنهم لم يصححوا مسارهم نحو الاتجاه الصحيح يقول تعالى: ﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾(27).

 

قال المفسرون: اختلف أهل التأويل في معنى الفتنة التي ذكر الله في هذا الموضع. فقال بعضهم: ذلك اختبار الله إياهم بالقحط والشدة. وقال آخرون: بالسنة والجوع(28) ومعنى الآية: أي ما لهم لا يتفكرون ولا يعتبرون. وهم يرون أنهم يبتلون ويمتحنون كل عام مرة أو مرتين. فيعصون الله ولا يخرجون من عهدة المحنة الإلهية وهم لا يتوبون ولا يتذكرون. ولو تفكروا في ذلك انتبهوا لواجب أمرهم. وأيقنوا أن الاستمرار على هذا الشأن ينتهي بهم إلى تراكم الرجس على الرجس والهلاك الدائم والخسران المؤبد(29).

 

وطابور النفاق الذي خرج من معسكر الانحراف ليسير بين المسلمين.

جاهدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفقا لحركة الدعوة. فهو (عليه الصلاة السلام) كان يخشى أن يخرج معسكر الكفر بلافتات تقول بأن محمد يقتل أصحابه. فهذا القول في حد ذاته لن يكون بحال في صالح الدعوة وعلى الأخص في صدرها الأول. فالرسول جاهدهم وفقا لأمر الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾(30).

 

وقال المفسرون: المراد بجهادهم مطلق ما تقتضيه المصلحة من بذل غاية الجهد في مقاومتهم. فإن اقتضت المصلحة هجروا ولم يخالطوا ولم يعاشروا وإن اقتضت وعظوا باللسان وإن اقتضت أخرجوا وشردوا إلى غير الأرض(31).

 

والخلاصة: أن معسكر النفاق كان من أكبر الأخطار على الدعوة وعلى الفطرة الإنسانية. وتوعدهم الله تعالى بالعذاب في الدنيا وبالدرك الأسفل من النار في الآخرة. وهذا المعسكر سيكون لأبنائه الذين ساروا على طريقه وراء راية المسيح الدجال. الذي أخبرت الأحاديث الشريفة بظهوره آخر الزمان. وتحت قيادة الدجال سيتجرعون الذل تحت ضربات عذاب الاستئصال. لأنهم في الحقيقة تلاميذ الشيطان الذين يضعون العراقيل على الصراط المستقيم.

 

المصدر:

1- الانحرافات الكبرى

2- القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- سورة المنافقون / 4.

2- الميزان: 288 / 19.

3- سورة الأحزاب / 61-69.

4- سورة التوبة / 101.

5- ابن جري في تفسيره: 8 / 11.

6- سورة المنافقين / 3.

7- سورة المنافقين / 4.

8- الميزان: 281 / 19.

9- سورة التوبة / 56.

10- ابن جرير في التفسير: 107 / 10.

11- سورة التوبة / 96.

12- سورة الحشر / 11.

13- وفي رواية خمسة عشر رجلا.

14- سيرة المصطفى / هاشم معروف: 633.

15- مجمع الزوائد: 195 / 6.

16- سورة التوبة / 107.

17- ابن جرير في التفسير: 17 / 11.

18- سورة البقرة / 93.

19- الميزان: 123 / 1.

20- سورة التوبة / 110.

21- ابن كثير في التفسير: 391 / 2.

22- ابن كثير في التفسير: 388 / 2.

23- سورة التوبة / 47.

24- ابن كثير في التفسير: 361 / 2.

25- سورة المائدة / 67.

26- سورة الأعراف / 195.

27- سورة التوبة / 126.

28- ابن جرير: 54 / 11.

29- الميزان: 410 / 9.

30- سورة التوبة / 73.

31- ابن جرير: 126 / 10، الميزان: 339 / 6.