أحكام الارتداد في الإسلام .. بحث عقلائي

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

 

العقل هو حُجَّة من حجج الله تعالى على الإنسان، وبه يُثاب الإنسان أو يُعاقب، وله يتوجه الأمر والنهي، وبه يصحُّ التكليف. تلك هي مكانة العقل في الإسلام كما أرشدنا أهل البيت (عليهم السلام).

 

فللعقل مكانة خاصة متميزة في هذه المدرسة، وهو أحد شعاراتها البارزة في مجالي العقيدة والفقه، فمن القواعد الكبرى أن (الشرع لا يناقض العقل) بتاتا، وأن (الشارع المقدَّس هو سيِّد العقلاء)، وتتجلى هذه القاعدة في جميع مسائل الدِّين، فلا تناقض مع فطرة وعقل، وأيُّ حكم يناقض الثابت في العقل الفطري فإنه يُرفض ولا يُؤخذ به؛ فليس ذلك من الدِّين.

 

والعقل له مساحة من الإدراك بطبيعة الحال، فهو لا يدرك كل شيء في الوجود، ولا ينكر هذه الحقيقة إلا مكابر، فهناك مساحة محدودة للعقل، ولذلك فهو لا يستغني عن إكمال نقصه ببقية الحجج الإلهية، عن الإمام موسى ابن جعفر الكاظم (عليه السلام): "إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وأما الباطنة فالعقول".

 

وإذ نبحث في (أحكام الارتداد) بحثا عقلائيا فلا يعني ذلك أنا ندّعي بأن دين الله تعالى يُنال بالعقول، وأنَّ العقل قادر على إدراك علل الأحكام التي بسببها تم تشريع هذا الحكم أو ذاك، فهذا مما اختص الله سبحانه بعلمه، إلا أن ذلك لا يلغي إمكانية أن يدرك العقل بعض وجوه الحكمة، فالأحكام الشرعية كلها من أجل مصلحة الانسان، وبطبيعة الحال سيدرك الانسان ويتلمّس بعض وجوه المصلحة والنفع التي تعود عليه.

 

لذلك فإن هذا المقال يبحث في تلك المساحة المتاحة للعقل أن يتلمَّسها أو يقيم الدليل والبرهان عليها، فمثلا: العقل يدرك ما هو (التناقض)، ومتى يكون الحكم مناقضا للعقل ومتى لا يكون، ولذا سيرتكز البحث على هذا الإدراك العقلي بالتحديد، وأما العلل التامة للأحكام الشرعية فعلمها عند ربي عز وجل.

 

أسأل الله تعالى التوفيق والسداد، والشكر الجزيل لشيخنا الأستاذ سماحة العلامة الشيخ محمد صنقور البحراني (حفظه الله تعالى) على توجيهاته لبحث مثل هذه المسائل، وما تفضل به من ملاحظات قيِّمة على هذا المقال.

 

متى يكون الشيء عقلائيا؟

لا يصح نسبة فكرة أو فعل إلى العقل والعقلاء إلا أن يتوفّر على شرطين أساسيين، وهما:

1- أن (لا يتناقض) هذا الفعل أو هذه الفكرة مع حكم ثابت عند العقل.

2- أن تجري سيرة البشر العقلاء على اعتماد هذا الفعل أو الفكرة في مختلف الأزمنة والأمكنة.

 

فمثلا: (تعمد قتل الإنسان البريء، مع علم القاتل ببراءة المقتول)، هذا الفعل يعتبر عملا غير عقلائي؛ لأنه:

أولا: هذا الفعل يناقض حكما عقليا ثابتا يقضي ب (قبح الظلم).

وثانيا: إن سيرة العقلاء في كل زمان وكل مكان جارية على اعتبار هذا الفعل ظلما شنيعا ومرفوضا بشدة، ولذلك تجرّم كل القوانين مرتكب هذا الفعل، بل وتنزل بحقه أقصى العقوبات.

 

تنويه:

ويجب أن نتنبّه لمسألة أساسية، وهي أن العقلاء لا يرفضون شيئا لمجرد أن عقولهم لا تدرك حقيقة ذلك الشيء وكُنهه، وإنما يرفضونه فقط إذا (تناقض) مع حكم عقلي ثابت، فهم لا يلغون الأفكار ولا ينكرون الأفعال لمجرد أن العقل لا يحيط بها علما، وإلا فما أكثر ما يجهله الانسان ولا يحيط بفلسفته ورغم ذلك يتركه في حيِّز الإمكان، حتى يأتيه عليه قاطع البرهان.

 

فمثلا: العقلاء لا ينكرون ولا يستسخفون فكرة وجود مخلوقات فضائية حيّة على كوكب المريخ لمجرد أنهم لا يعلمون بوجودها ويجهلون حقيقة الفكرة، وإنما يقولون هكذا: طالما أن الفكرة لا تُناقض حكما عقليا فهي ممكنة، فلا نستسخفها ولا نرمي صاحبها بالجهل وعدم العقلانية، ولكن أيضا لا نقبل بكلامه ولا نقول بأنها فكرة صحيحة، وطالما أن الفكرة لا تناقض حكم العقل فقد تكون صائبة وقد تكون باطلة، ولا يصح قبولها إلا بدليل، كما لا يصح إنكارها إلا بدليل.

 

وبالنتيجة: لا يحكم العقلاء بعدم عقلانية شيء لمجرد أن عقولهم لا تدرك حقيقة ذلك الشيء.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:

هل أحكام الإرتداد منطقية وعقلائية؟

أعتقد أن الجدل الدائر حول أحكام الردة ناشيء عن النظر للموضوع خارج سياقاته، واقتطاع المسألة -بقصد، أو بغير قصد- عن المنظومة المتصلة بها، والأساس الذي ترتكز عليه.

 

وحتى لا نقع في الخطأ الذي وقع فيه الكثير ممن بحث القضية، علينا أن نستجلي منشأها وأساسها، ثم نضعها في سياقها الأصلي لنقرأها قراءة صحيحة، ومن ثم نحكم عليها بالسلب أو الإيجاب، ونرى هل أنها أحكام عقلانية، أم أنها أحكام مرفوضة عقلا، وخارج سياق المسيرة البشرية العقلائية.

 

الأساس

أساس الموضوع أن هناك في كل مجتمع، وكل دولة، وكل أمة، يوجد (أساس) يرتكز عليه بنيان وكيان ووجود أفراد ذلك المجتمع، وتلك الدولة، وهاتيك الأمة.

 

وقد اختلفت الشعوب والأمم في نوعية ذلك الأساس الذي يجب أن يؤسسوا عليه بُنيانهم، فبعض المجتمعات البدائية قامت على أساس (شيخ القبيلة) فهو أساس وحدة المجتمع، وعنوان انتمائه، وأساس كل شرعية فيه، وصمام الأمان لأفراد القبيلة، والدرع الحصينة، وهكذا كان (الامبراطور، والملك، والسلطان، ووو)، ثم في العصر الحديث طُرحت بدائل أخرى كـ (الوطن والمواطن)، فهو أساس الانتماء والشرعية والوحدة، ولأجله تقوم الحرب أو تقعد.

 

اختلفت الشعوب في نوعية (الأساس والعمود) الذي يجب أن يشيدوا عليه بنيانهم؛ وهذا راجع لتفاوت الوعي والنضوج، لكنهم اتفقوا قاطبة بلا استثناء على أنه لابد من (عمود) تقوم عليه خيمتهم، ويتوحد حوله المجتمع أو الدولة أو الأمة، وإلا فيستحيل لهم الحياة والبقاء والنهوض، كما اتفقوا على أن ذلك الأساس هو أخطر شيء في حياتهم، وأن المساس به يوجب أقصى أنواع العقوبة، ولو تصفحنا التاريخ والواقع المعاصر سنجد هذه الحقيقة كالشمس الساطعة، وسنشير فيما يأتي لبعض النماذج.

 

السِّياق

لا تكتمل الرؤية بمجرد معرفة الأساس العقلائي الذي ترتكز عليه أحكام الارتداد، بل لابد من استيعاب السياقات الاسلامية التي تُطبق فيها هذه الأحكام، لنتعرف على مدى انسجام هذا السِّياق مع الأساس العقلي والمنطق العقلائي.

 

أولا: لابد أن نعرف أن (دين الاسلام) في معتقد جميع المسلمين هو (الأساس) الذي تقوم عليه كل حياتهم الفردية والأسرية والاجتماعية، وكذا تقوم عليه دولتهم وأمتهم وكل كيانهم، فهو ليس دينا معزولا عن الحياة كما في بعض الديانات، فمن أصغر شؤون المسلمين الشخصية كآداب الأكل والشرب، إلى أخطر مسائل النظام والدولة والقانون والحرب والسلم، كلها تبتني على أساس الاسلام. فالنظام لا يكون شرعيا، والحاكم ليس له حق في الحكم، ولا يكون القضاء والقانون شرعيا، إلا أن يكون كل ذلك قائما على أساس الدين، كما أن الجيش والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية كلها تقوم على أساس عقيدة واحدة وهي الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن الاسلام والمسلمين. فالدين يمثل الأساس لكل شيء في حياة المسلمين.

 

ثانيا: لو تأملنا في أحكام الاسلام وتشريعاته الجزائية، سنجد أن أخطر الأمور فيه هي: نفس الانسان وعرضه، وماله، ولذا تجد الاحكام مشددة فيما يتصل بها، ولكن كل ذلك يرخص ويهون في سبيل حفظ (الدين)، فاذا تزاحم حفظ النفس مع حفظ الدين مثلا فإن الُمقدَّم هو حفظ الاسلام مهما كلف الثمن، لذلك فإن الجهاد مثلا قائم على هذا الأساس، وكذلك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كل الأحكام الشرعية مركزها إعلاء كلمة الله والدين.

 

النتيجة

هذا هو موقع الدين عند جميع مذاهب المسلمين -ولا عليك من الحكومات المنتسبة للاسلام كذبا وزورا- فالدين بإجماع كل الطوائف الاسلامية وأئمتها هو في قمة الهرم، وهو الأساس الذي تبتني عليه كل حياتهم في الدنيا والآخرة.

 

وفي ظل هذا السياق هل يُعقل أن يسمح الإسلام بالمساس بالأساس الذي يقوم عليه وجود المسلمين كأفراد ومجتمع ودولة وأمة؟! طبعا، سيكون خارج السياق العقلائي وخارج المنطق والعقل لو فعل ذلك.

 

فهل سيبقى سلمٌ أهلي، أو عقد اجتماعي، أو أسرة مستقرة، وأساس كل ذلك غير مصون بإحكام؟ وهل سيبقى نظام إذا كان الأساس الذي يقوم عليه النظام غير محفوظ، ومتروك لمن شاء أن يعلن -جهارا نهارا- الخروج عنه؟ وهل عاقل يسمح بإعلان الخروج عن أساس القانون ومصدر شرعيته، ثم يأمر أتباعه باحترام القانون والالتزام به؟ وهل سيدافع الجيش -مثلا- عن كيان المسلمين إذا سمح لأفراده بإعلان الخروج عن الدين وهو يمثل العقيدة القتالية الأساس؟

 

وهل تقبل دولة حديثة مثلا لمواطنيها بأن يجاهروا بأفكار من شأنها أن تهدم (أساس) الروح المعنوية والقتالية لجيوشها وحراس النظام فيها، وهل هذا يدخل في حرية التعبير مثلا؟

 

وأي عقلاء سيسمحون لوزراء دولتهم، أو رئيس حكومتهم، أن يعلن تحويل ولائه إلى ولاء آخر خارج عن الأساس الذي قامت عليه دولتهم وكيانهم؟ وأي قضاء سيبقى إذا كان القضاة يجاهرون بخروجهم عن الأساس الذي به يحكمون وعلى أساسه يقضون؟

 

إنها الفوضى بعينها، والعقل يرفضها بكل وضوح، وسيرة العقلاء قائمة على خلافها في كل زمان ومكان. فهل يُطلب من الإسلام الذي يطرح نفسه أساسا تقوم عليه كل حياة الفرد والمجتمع والدولة أن يفعل ذلك؟! إنها قمة السخافة واللاعقلانية.

 

كيف نستكشف الأساس في أي مجتمع أو أمة؟

إذا أردت معرفة عمود الخيمة في أي مجتمع أو دولة فارجع إلى ثلاثة أشياء:

١- الدستور.

٢- قوانين العقوبات.

٣- المنهجية العملية في الردع والعقوبة.

 

وابحث عن المركز الذي تتمحور حوله أشد العقوبات، ولا تخدعك الشعارات الاعلامية فإنها للاستهلاك الاعلامي فقط، فقد تتشدّق هذه الجماعة أو تلك الدولة بأن (الوطن والمواطن) هو عمود خيمتها مثلا، ولأجله تُسيَّر الجيوش، ولكن (دستورها، وواقعها العملي، وقوانينها الجزائية) تقول غير ذلك، فتجد أن ذات (الملك) مصونة لا تُمس، وتنزل أقصى العقوبات بحق من يمسها من قريب أو بعيد، في حين أن التشريعات والقوانين لا تحمي المواطن، بل تُضيِّق عليه في كل شيء، وتُذيقه الذلَّ والهوان!

 

وتجد في الواقع العملي أنَّ سيادة واستقلال كثير من الأوطان العربية -مثلا- تُباع وتُشترى بأبخس الأثمان لمجرد أن يبقى السلطان على كرسي الحكم، مع أن شعاراتهم البراقة على خلاف ذلك كله! وهذا يكشف أن عمود الخيمة لهذه الانظمة القبلية هو (شيخ القبيلة)، وماعدا ذلك فهو كذب ودجل.

 

أما في الدول الغربية فعمود الخيمة في كثير من دولها وأنظمتها هو (المال والسلاح)، والذي يُعبر عنه في الشعارات الاعلامية المنمَّقة بـ (الأمن القومي)، فدساتيرها، وقوانينها، ومنهجيتها العملية، قائمة على إنزال أشد العقوبات بحق أي أحد يشكل خطرا على قدرتها العسكرية ومصالحها الاقتصادية، فمثلا تجد أن قوانينها قد تتسامح مع كل طعن في سياساتها المتقلبة والمزدوجة على الدوام، وتجدها تفتح الباب على مصراعيه لكل دين وعقيدة وكل نحلة حتى لو كانت عبادة الشيطان -، فذلك لا يعني لها شيئا؛ لأن كيانها قائم على أساس آخر -، ولكنها لا تتسامح أبدا مع أي شيء يمكن أن يمثل تهديدا لوضعها الاقتصادي والعسكري وكيانها الرأسمالي، بل ستوجه ضربة (استباقية) ضد أي خطر محتمل يتهدد ذلك (الاساس) الذي قامت عليه امبراطورياتها، ولا يهم بعد ذلك أن تقتل وتشرد مليون انسان بريء، وتدمر أمة بأكملها، وتحطم شعوبا بكل مقدراتها، والمهم أن لا يتعرض أساسها وأمنها الاقتصادي للخطر، فلا يخرج (النفط) عن سيطرتها -حتى لو كان النفط في غير أرضها، ولا حق لها فيه-، فهو مصدر المال والثروة بالنسبة لها، وكيانها قائم على هذا الاساس، فهو سر وجودها، ولولاه لم تستقر مجتمعاتها التي طالما تناحرت فيما بينها، فلم تهدأ إلا بعد أن امتلأت الجيوب من أموال الشعوب، وهكذا شيدت كياناتها المتعملقة.. ولذلك ترى أن كل شؤونها متمركزة بيد أصحاب الثروات الضخمة، وأرباب الشركات العابرة للقارات، وتجار السلاح، فهم الأساس في رسم السياسات العامة، وهم في الحقيقة الذين يعيِّنون رئيس الدولة بأموالهم ونفوذ سلطتهم، ومجلس الشيوخ واللوردات إنما هو منهم، وأما البرلمان والشعب فلا يخرج عن الخطوط العريضة التي يرسمها أرباب المال والسلاح. بل وتجد أن تلك العصابات قد دجّنت الشعوب الغربية، ورسخت فيها الثقافة المادية النفعية، وجعلتهم لا يحركون ساكنا إلا إذا تعرض وضعهم الاقتصادي للخطر، وماعدا ذلك فليس له أهمية تذكر.

 

وأما اذا بحثنا في الكيان الإسلامي فسنجد أن أساس وجوده هو (الدين) بكل ما يشتمل عليه من عقيدة وشريعة وقيم ومباديء وأخلاق.

 

فلو بحثت في (الدستور -القرآن الكريم-، وقوانين العقوبات، والمنهجية العملية)، فستجد أن حفظ الدين والدفاع عنه هو أهم شيء وفي قمة الهرم، ولأجله تُبذل الأرواح والأموال وكل غال ونفيس، وستجد أن أخطر ما في الدين بحيث تتشدد العقوبة فيه هو التعدِّي على مقدَّسات الدين، وعلى رأسها ذات الله عز وجل، ثم الاعتداء على نفس الانسان، وعرضه، وأمواله.

 

فكل الحدود والتعزيرات الشديدة مركزها ذلك، فمن يقتل إنسانا ظلما وعدوانا فعقوبته القتل، ومن يعتدي على عرض المرأة وشرفها فعقوبته تبدأ من الجلد إلى القتل أو الرجم، ومن يسرق مال انسان تُقطع يده، ومن يقطع طريق الناس ويرهبهم، يُقتل بأشدِّ قتلة.. وهكذا بالنسبة للمقدسات، فإن من يسُبَّ الله -عز وجل- يُقتل.

 

وبناء على ذلك:

فالارتداد ليس مجرد تغيير فكرة، أو تبديل عقيدة، بل هو إعلان ومجاهرة بالخروج على أخطر أساس يبتني عليه حياة الأفراد والمجتمع والأسرة والكيان والنظام والدولة، وكلَّ شيء في الحياة والمصير بالنسبة للمسلمين.

 

والخطأ الذي يقع فيه الكثير هو أنه لم يستوعب موقعية الدين في حياة المسلمين، وراح يقيس الدين الاسلامي ببعض الديانات والايديولوجيات التي تعتبر الدين شأنا فرديا، ومسألة شخصية معزولة عن الحياة والنظام والدولة والمجتمع والأسرة، أو هكذا يعتقد البعض ويريد أن يفرض فكرته على الإسلام فرضا، ولكن الحقيقة والواقع ليس كذلك.

 

أحكام الارتداد في التشريع الإسلامي

والآن ندخل إلى صُلب البحث، لنتعرف على أحكام الارتداد في الإسلام، لنرى مدى انسجامها مع العقل وسيرة العقلاء، فنبدأ بالسؤال التالي:

 

١- من هو المرتد؟ وماهي أحكام الإرتداد؟

المرتد: هو من كان (مسلما)، ثم أعلن وجاهر بخروجه عن الإسلام.

 

وأحكام الردة: -إجمالا- هي عقوبات مشددة تختص بحفظ النظام الداخلي للأمة الإسلامية، وتُطبَّق على من كان مسلما ثم ارتد، ولا تشمل أتباع الديانات الأخرى كالمسيحية واليهودية، ولا غيرهم من الكفار والملحدين بالأصل.

 

وهي أحكام خاصة بمن (يعلن ويجاهر) بارتداده، وأما الذي يخرج عن الإسلام ويحتفظ بعقيدته لنفسه، ولا يجاهر بها فلا تشمله أحكام الردة.

 

٢- هل من الثابت وجود أحكام للردَّة في الإسلام؟

أثار بعض المثقفين هذا السؤال، للتشكيك في وجود أحكام الارتداد في الدين الإسلامي، بعد أن تاهوا في الشبهات المثارة حول الموضوع، وفي الحقيقة لا يسع الباحث إلا الإذعان بأن جميع الطوائف الاسلامية، وأئمتها، ومراجعها المعتمدون، هم متفقون على ثبوت العقوبة المشددة على المرتد، وغاية الأمر أنهم يختلفون في بعض التفاصيل التي لا تنفي أصل المسألة، فالمسألة محل إجماع.

 

ولأن منهجيتنا في البحث عقلية، فلن ندخل في الأدلة الشرعية، فلقد طرحها الفقهاء بالتفصيل، وإنما نطرح دليلا عقليا جليَّا على ثبوت هذه العقوبة في الإسلام:

 

الدليل العقلي

إن العقل يقضي بثبوت (الخبر) جزما، إذا نقله عدد كبير من الاشخاص أو الجهات التي يستحيل اجتماعها على الكذب في نقل هذا الخبر.

 

فمثلا: لو قيل لك أن الإنسان قد وصل إلى سطح القمر، وأن أول مركبة فضائية كانت أمريكية، ثم جاء شخص يشكك في ثبوت هذه القضية، وقال أنني لم أرَ بعيني ذلك، وأنها قضية مُختلقة، وتمَّت صناعتها في استوديوهات هوليود!

 

فماذا يقول العقل هنا؟ سيقول: صحيح أنني لم أشاهد بعيني ذلك، ولكن القضية حقيقية والخبر ثابت بلا ريب، لماذا؟ لأن الذين أخبروا به يستحيل اجتماعهم على الكذب هنا، فجميع الدول الصناعية تقر بصدقية هذا الخبر رغم الاختلاف الشديد بينهم، بل تجد أن دولة كبرى منافسة كـ(روسيا) تقر بهذه الحقيقة، ولا تنكرها رغم العداوة الشديد مع أمريكا على أساس السعي للسلطة والنفوذ، ولا شك أن هذا الأمر يمنح الخصم نفوذا وتفوقا، ورغم ذلك لم يختلف الطرفان بل كل الدول المتنافسة على ثبوت الخبر، فالعقل هنا يحكم باستحالة اجتماعهم على الكذب بملاحظة كل هذه الحيثيات، وبالتالي يحكم بثبوت هذا الحدث، وأنه حقيقة لا يمكن التنصُّل عنها.

 

وهكذا لو جئنا إلى مسألة الارتداد، فهل هي ثابتة في الإسلام، وهل أخبر بها رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟

 

هنا قد يشكك البعض، ويقول أنه لم يسمع رسول الله (ص) يقول ذلك، وأنها قضية مختلقة، وتمت صناعتها في استوديوهات السياسة!

 

ولكن العقل يجد أن الطوائف الاسلامية قد أجمعت على نقل هذا الخبر عن رسول الله (ص)، رغم أنها مختلفة عقائديا وسياسيا إلى درجة يستحيل اجتماعها على الكذب في هذه المسألة بالخصوص؛ فقد قامت بينها حروب على خلفية هذه المسألة، فكانت بعض الحكومات السياسية قد استغلت هذه الأحكام بصورة سيئة ضد معارضيها من الطوائف الأخرى، ورغم ذلك لم يُنكرها أحد من كلا الجانبين، بل نقلتها كل الطوائف كما هي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل التي لا تلغي أصل الحكم.

 

والعجيب أن الطائفة المستهدفة بحروب الردة -وهي بالتحديد (الطائفة الشيعية)- تؤمن بثبوت أحكام الارتداد على طول التاريخ، بل هي أشد في بعض التفاصيل.

 

وهذه الحقيقة تُعد بحسب المقياس العقلي دليلا بحدِّ ذاته على ثبوت أصل أحكام الارتداد في الإسلام.

 

٣- هل تنسجم تفاصيل أحكام الارتداد مع العقل؟

إذن فالمسألة ثابتة في الاسلام بلا ريب -كما اتضح-، ولكن ما هي تفاصيل أحكام الردة، وهل هذه التفاصيل منسجمة مع العقل؟

 

أجمع فقهاء المسلمين بمختلف مذاهبهم على أصل واحد وهو: (العقوبة القصوى) ضد المرتدين. وبعد ذلك اختلفوا في بعض التفاصيل التي لا تخرج في الحقيقة عن أصل التشديد في العقوبة.

 

فمثلا: اتفقوا على أن المرأة لا تُقتل، بل تحبس حتى تتوب أو تموت في السجن، واختلفوا بالنسبة للرجل هل يُستتاب قبل أن يقتل.

 

واختلفوا في التفريق بين ارتداد المسلم الأصلي (الفطري)، وبين ارتداد (الملي) وهو من كان غير مسلم، ثم استبصر ودخل في الاسلام، ثم ارتد عنه، فبعض المسلمين يُفرِّق بينهما، فيتيح الفرصة لاستتابة المرتد الملي، ولا يتيحها للمرتد الفطري، وبعض المسلمين يستتيب الاثنين، ولكن لم يختلف الجميع في أنهما إن لم يتوبا في مدة محددة فإنهما يُقتلان.

 

وهكذا لو بحثت في موارد الخلاف بين أئمة المسلمين وفقهاء مذاهبهم، فلن تجد أحدا ينكر حقيقة وجود أحكام خاصة بالمرتد، وأنها أحكام مشددة بلا ريب.

 

والسؤال الذي يهمنا في المقام:

هل تفاصيل هذه الاحكام منسجمة مع العقل وسيرة العقلاء؟

تبيَّن سابقا أن أصل (العقوبة القصوى) يحكم بها العقل، وجرت عليها سيرة العقلاء في كل مكان وزمان، ونضيف هنا بأن العقل يقضي بأن تكون العقوبة متفاوتة بحسب ملابسات الجرم، ومختلفة تبعا لاختلاف الموضوع، فالعقل لا يحكم بالمطلق إذا وجد فوارق بين الموضوعات، ولو تأملنا فيما نحن فيه سنجد الفوارق واضحة جليَّة:

 

فالمرأة بحسب منظومة التشريعات الاسلامية لها عناية خاصة من الله تبارك وتعالى، فبرحمته ولطفه بالمرأة لم يكلِّفها بالمهام الشاقة التي لا تناسب طبيعتها، وتتنافى مع مسؤولياتها وواجباتها، فالمرأة ليست مُكلَّفة بالقتال في الجيش، كما أنها غير مُكلَّفة بالمواقع الخطيرة في الكيان الإسلامي، ولذلك فإنَّ خطرها ليس كخطر الرجل الذي يتسلَّم تلك المواقع.

 

فالعقل رغم أنه يقضي بشدة العقوبة، وعدم التهاون سواء مع المرأة أو الرجل، فالمرأة نصف المجتمع، وهي صانعة الرجال ومربية الأجيال، فموقعها حسّاس للغاية، إلا أن عقوبة المرأة يجب أن تكون مختلفة، وأقل شدَّة؛ نظرا لما أوضحناه. وفي المقابل يقضي العقل بأنَّ من يتاح له تسنُّم تلك المواقع الخطيرة وهو الرجل، يجب أن يُعاقب ويردع بأقصى درجات العقوبة.

 

وهكذا لو تأملنا سنجد فرقا جليًّا في (المرتد الملِّي) وهو الذي كان سابقا على غير الإسلام، فإنه في الغالب تبقى لديه رواسب وشُبهات بعد دخوله الإسلام، فمثل هذا الشخص إذا ارتد يكون حاله مختلفا عن المسلم الأصلي (المرتد الفطري) الذي لم يعتقد سابقا بغير الإسلام، بل وُلد على الفطرة، ونشأ وترعرع على الدِّين.

 

وهذه الفوارق كلها قد راعتها أحكام الارتداد وأخذتها بعين الإعتبار، فكانت العقوبة متفاوتة ومختلفة بحسب اختلاف الموضوع، ولذلك كانت منسجمة مع العقل والمنطق.

 

الجريمة والعقاب

إذا تعمقنا في البحث سنجد أن إعلان المرتدين لارتدادهم هو في الحقيقة ليس فقط مجرد تعبير عن عدم الاعتراف بأساس النظام القائم، وكل شيء مبتن على ذلك الأساس، -مع أن ذلك ممنوع بشدة، ولا تجد وطنا مثلا يسمح بمجاهرة أحد مواطنيه بأنه لا يعترف بالوطن أساسا-، ولكن القضية أكبر من ذلك بكثير، فإن اعلان الخروج عن الدين هو نفسه إعلان الدخول في خندق أعداء الدين، فإن خروج المسلم عن الدين هو بعينه (الكفر) بالدين، وليس ثمة شيء أكثر عداءً للدين من الكفر به، فهو في الحقيقة إعلان تحوّل إلى صفِّ الأعداء، ولا يختلف أحد من العقلاء على أن التحوّل إلى صف العدو يوجب أقصى العقوبات.

 

كما أن نفس المجاهرة بالإرتداد هو ممارسة عملية عدائية، فبأي شيء سيجاهر المرتد؟ طبعا سيجاهر بعقائد الكفر والإلحاد، وهي لبُّ العداوة للدين وإضلال المسلمين، فهو لن يتحدث مع نفسه فتلك ليست مجاهرة، فإذن هو بمجاهرته يعمل عمل العدو في أوساط المسلمين، وهو عمل حربي بامتياز؛ لأنه يضرب العقيدة التي تمثل حجر الزاوية في الوجود الإسلامي، وهنا يتفق العقلاء على أن من ينتمي إلى جماعة أو نظام ثم يتحول إلى صف العدو، ولا يكتفي بذلك بل يمارس أفعال العدو، فإنه يستحق أقصى العقوبات، بحسب قوانين تلك الجماعة التي كان ينتمي إليها.

 

مضافا إلى ذلك فإن الارتداد الموجب للعقوبة ليس مجرد المجاهرة بتغيير فكرة أو تبديل عقيدة ذات بعد شخصي، بل هو الإعلان والمجاهرة بالخروج على أخطر أساس يبتني عليه حياة كل فرد في المجتمع، وعلى كل شيء في حياة ومصير المسلمين كأمة وكيان واحد، وهذا الفعل حين يصدر من عضو من أعضاء ذلك الكيان فإن العقلاء يرون ذلك بنفسه (محاربة داخلية) ضد أصل وجود المسلمين وأساس كيانهم ومجتمعهم ودولتهم وأمتهم، وإن اخطر ما يهدد أي كيان بالزوال والفناء ليس هو المحاربة الخارجية، بل على العكس فإنها غالبا ما تسهم في تقوية الكيان ورصِّ صفوفه أكثر لمواجهة ما يتهدده من الخارج، وحتى لو تغلَّب العدو الخارجي في الظاهر فإن ذلك الكيان سيبقى محفوظا في باطن نفوس أتباعه، متوثِّبا للنهوض مرة أخرى، وإنما التهديد الداخلي هو الخطر الذي يؤدي لزوال الكيان وتقويض وجوده بنظر العقلاء، فإذا وجد العقلاء خطرا يؤدي لهذه النتيجة -زوال الوجود- واجهوه بأقصى العقوبة، واجتثوا بذرته قبل أن تنمو. وإعلان الارتداد هو ثغرة تؤدي لهذه النتيجة بلا شك، ولذلك فمنذ صدر الإسلام قد إلتفت أعداؤه لهذه الثغرة، وحاولوا النفوذ منها عبر ضرب الدين من داخله، وخلخلة أساسه من الداخل، فإنه السلاح الأمضى في هدمه، فطالما أنَّ كل شيء قائم على أساس (الاعتقاد بالدين)، فإذن الطريقة المثلى لهدمه هو التظاهر باعتناق تلك العقيدة، ثم إعلان الارتداد عنها، وتسخيفها والمجاهرة بين المسلمين بذلك، وهكذا تداعى أعداء الاسلام منذ البداية لهذه المكيدة، قال تعالى: ﴿وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(1)، ولكن الاسلام وقف في وجههم بكل حزم، فكانت أحكام الارتداد هي السدّ المنيع أمام اختراق الأعداء للعقيدة والدين.

 

وإلا تخيَّلوا لو لم تُسدّ هذه الثغرة، إذن فليعلن الفرد في الأسرة ارتداده، ولتخرج مجموعة في القرية والمجتمع ولتكوِّن لها حزبا أو قناة إعلامية، وكل ذلك يستهدف هدم أساس بنية الأسرة والمجتمع -ولا يخفى مدى ارتباط ذلك بالسلم الأهلي والأمن القومي- فأي فتنة ستحدث؟ إنها بلا شك من أخطر الثغرات التي لابد من سدِّها بأقصى درجات الإحكام والحزم والصرامة والردع، حفاظا على المجتمع والدولة والأمة المسلمة، فهو كيان عقائدي بكل ما للكلمة من معنى، والفتنة العقائدية فيه تؤدي لأنهار من الدماء.

 

وإن فتنة اعلان الارتداد بما تسببه -بلا شك- من احتراب داخلي دموي، هي أشد -بألف مرة- من قتل المتسبب في الفتنة، والفتنة أشد من القتل.

 

الارتداد والحرية

كل المجتمعات البشرية العقلانية، وجميع الانظمة والدول في الماضي والحاضر، تقول بأن الانسان لا يستغني عن (القانون والنظام)، وهذا بحدِّ ذاته ملازم لتقييد الحريات بمختلف أنواعها بحدود وضوابط معينة، وأساسا يستحيل أن تتحقق الحرية بصورة مطلقة، ومن دون قيود، في هذه الحياة المحدودة بطبيعتها التكوينية..

 

نعم يجب أن تكون القوانين والقيود غير ظالمة، ولكن كيف نعرف ذلك؟

نستطيع أن نعرف أن هذا القانون أو القيد ليس ظالما إذا وجدنا جميع العقلاء في كل زمان ومكان يعملون على أساسه، فهذا يكشف عن أن العقل لا يراه فعلا قبيحا وظلما، وإلا لما توافق عليه العاقلون جميعا؛ فالعقلاء لا يجتمعون ولا يتفقون على حكم يناقض العقل، والظلم مناقض للعقل بلا ريب، بل حتما سيختلفون لو كان الأمر كذلك، ولو تبنَّى بعض العقلاء حكما ظالما مناقضا للعقل بوضوح، فإن ذلك حتما سيمثل حالة شاذة، ولن يكون حالة متفق عليها عند العقلاء.

 

فمثلا: وأد البنات -كما كان في الجاهلية-، هذا الفعل يناقض حكم العقل بقبح قتل الطفل البريء فهو ظلم بيِّن، ولذلك هو مرفوض عند جميع العقلاء، وحتى الذين مارسوا هذا الفعل لم يمارسوه من منطلق القناعة العقلية والبرهان العقلي، بل تحت ضغط الفقر وغلبة الجهل، فهناك عوامل تؤدي الى اضمحلال العقل وغياب سلطته، ولكن متى ما رجع الانسان إلى عقله وجد أن هذا الفعل منكر وقبيح وظلم، ولذلك مثل حالة شاذة في المسيرة البشرية.

 

وأما مسألتنا فهي ليست كذلك، فهي ليست حالة شاذة، بل إن جميع العقلاء متفقون على ضرورة سن قانون بالعقوبة القصوى ضد من يعتدي على (أساس) النظام، بل يرون ذلك حقا أصيلا لحماية الوجود والحياة، وحيث ان ذلك يستلزم بالضرورة تقييد الحرية في هذا المجال، فنستكشف من ذلك كله أن لا ظلم في الحكم بالعقوبة القصوى للمرتد، وأيضا لا ظلم في أصل تقييد الحرية بالنسبة لمجاهرته بالارتداد.

 

نعم قد ترى أن هذا (الأساس) لنظام هذه الجماعة أو تلك باطل فتواجهه، وتجاهر بخروجك عنه، ومحاربتك له، ولكن عليك أن لا تتوقع منهم إلا العقوبة القصوى في قوانينهم، لأنهم حتى وإن أخطؤوا الأساس الذي يجب أن يبنوا عليه حياتهم، إلا أنهم ماداموا يعتقدون به فلا تنتظر منهم غير ذلك. فإن كنت على حقٍّ فستمضي شهيدا، وإن كنت على باطل فقد ذهب دمك هدرا، وفي جميع الأحوال يستحيل أن تُقنع أحدا من العقلاء بأن لا يقف بكل شدة وبأقصى ما يملك ضد ما يهدد أساس وجوده وحياته -بحسب نظره-، فذلك حقٌّ أصيل، يقضي به عقله، وتدفعه إليه فطرته، وكل غرائزه.

 

ثم إن أحكام الارتداد في الحقيقة مرتبطة بضبط حرية التعبير العلني، وكل الكيانات العقلائية لها قوانين لضبط حرية التعبير. فإذا كان إعلان كلمة، أو المجاهرة بفعل، يهدد أساس النظام في أي كيان، فإن ذلك يُمنع بأشد الموانع والروادع.

 

فالهدف من هذه الأحكام ليس إكراه الناس على الإعتقاد بالدين، وفي الحقيقة لا أحد يملك أن يُكره إنسانا على اعتناق عقيدة معينة، فذلك مستحيل وغير ممكن عقلا، فالاعتقاد أمر قلبي يستحيل أن يثبت في النفس أو يتبدّل من دون إرادة الإنسان نفسه، كما لا يمكن لأحد غير الله تعالى أن يطلع على باطن الانسان ومعتقده الحقيقي، ولذلك فلا يمكن التفتيش عن عقائد الناس فذلك عبث غير عقلاني، وإنما يحاسب الناس بعضهم البعض بما ظهر من قول أو فعل، وأما المعتقد فيستحيل عليهم معرفة حقيقته، فكيف يحاسبونه، أو يصدرون حكمًا ضدَّه؟!

 

إنما الهدف من معاقبة المرتدين هو المنع والردع عن المجاهرة بارتدادهم، وفي ذلك حفظ للنظام الداخلي للمسلمين، فهي أحكام خاصة بمن كان مسلما ثم ارتد، ولا علاقة لها بغير المسلمين أساسا، ولقد كان ولازال اتباع الديانات الأخرى كالنصارى واليهود يعيشون بين المسلمين، ويمارسون عقائدهم وطقوسهم بكلِّ حرية، بل حتى الكفار والزنادقة والملحدين الذين لم يدينوا مسبقا بدين الإسلام لا يشملهم حكم الإرتداد؛ فهم لم يُسلموا أصلا حتى يرتدُّوا، ولذلك لا يتعرَّض لهم المسلمون بسوء طالما أنهم لم يتآمروا على الدين، ولم يُقاتلوا المسلمين.

 

سؤالان:

سؤال١:

هل التشدد في عقوبة الإرتداد يُعبِّر عن حالة من الخوف والضعف لدى الإسلام؟ فهل الإسلام ضعيف أمام المرتدين؟ وهل المسألة مرتبطة بالزمن السابق، حين كان الاسلام في بدايته، وكان عدد المسلمين قليلا؟ وهل ارتفعت الحاجة لأحكام الارتداد بعد أن تجاوز عدد المسلمين مليارا ونصف؟

 

الجواب:

المسألة لا ترتبط بخوف أو ضعف، بل هي مرتبطة بمفهوم (الحزم)، فالعقل والعقلاء يعتمدون مبدأ الحزم في القضايا الحساسة والخطيرة، ويعتبرون الحزم فضيلة، ودليلا على رجاحة العقل، وليس دليلا على الخوف والضعف، بل على العكس يرون أنَّ التهاون في القضايا المصيرية والوجودية يعكس حالة من الضعف والهوان، فمثلا إذا جاء شخص ليقتلك، ثم لم يرَ منك حزما وشدة في مواجهته، فإن هذا دليل على أنك ضعيف وخائف.

 

وهذا الحزم لا علاقة له بعدد المسلمين كثيرا كان أم قليلا، بل إن العقل يقضي بالحزم والشدة حين يتعلق الأمر بأساس وجود الفرد، أو الكيان، أو النظام، مهما كان حجم الكيان وعدد أفراده.

 

ولذلك مثلا تجد دولة كبيرة كأمريكا، رغم أنها تسيطر على العالم بقوة السلاح والمال في هذا الزمان، إلا أنها لا تسمح مطلقا بالمساس بالعمود الذي يرتكز عليه كيانها وامبراطوريتها، فهي إلى اليوم تحكم بالإعدام في (الجرائم الخطيرة للغاية ذات الطبيعة العسكرية) "نص المادة رقم٢ من بروتكول الاعدام"، فهل أمريكا دولة ضعيفة وتخاف عندما تعدم شخصا يجرم بحق أساس كيانها؟ طبعا لا، ولكن من الطبيعي أن تكون حازمة وشديدة في هذا المورد الحساس والمصيري.

 

سؤال٢:

لماذا تُكرهون الشخص على اعتناق الإسلام، فهو قد لا يقتنع به ويرى الصواب في دين آخر، أو في الإلحاد؟

 

الجواب:

الإسلام لا يُكره أحدا على اعتناقه، ولا يُجبر الإنسان على الاعتقاد به، قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(2)، بل يستحيل ذلك عقلا -كما اوضحنا-، فالعقيدة أمر قلبي باطني لا يحصل من دون إرادة الإنسان واختياره.

 

فليعتقد بما شاء، فالإسلام لا يعاقبه بحدٍّ أو تعزير لمجرد ذلك، ولقد عاش المنافقون بين المسلمين مع أنهم مرتدِّين في باطنهم، نعم الإسلام يمنع مَن كان مِن أتباعه فقط -ممن كان مسلما ثم خرج عن الدين-، يمنعه من المجاهرة والتعبير علنا بخروجه عن الاسلام، وهذا بطبيعة الحال فيه تقييد لحرية التعبير، وكلُّ العقلاء يضعون قيودا لحرية التعبير لكيلا تحصل الفوضى، ويتشددون حين يكون التعبير والتصريح العلني مؤديا للإخلال بنظام المجتمع أو الدولة، ويتشددون أكثر اذا تعلَّق الأمر بـ(أساس) النظام -كما تقدم بالتفصيل-، ولن تجد حكما شرعيا واحدا في الدين كله يجبر الإنسان ويكرهه على اعتناق الدين الإسلامي، نعم هناك في الإسلام حرب ضد الكفار والمشركين، باعتبار أنهم العدو، وهي لدفع شرهم وكيدهم بالدين والمسلمين، وليس لإرغامهم على دخول الإسلام كما يروج بعض المستشرقين الذين لم يفهموا من الدين حرفا، ولا يختلف أحد من العقلاء في وجوب محاربة العدو.

 

وهي حرب يحكمها العقل والمنطق أيضا، وليست منفلته كما يفعل الآخرون، فهي قائمة على أسس منطقية بل وأخلاقية، منها: قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾(3)، وكذا قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(4).

 

فمن يعتدي علينا نرد عليه بالمثل، ونتقي الله تعالى من أن نعتدي بأكثر مما يجب فنكون من الظالمين، ومن لا يحاربنا في الدين ولا يقاتلنا ولا يعتدي علينا ليس فقط نعامله بالقسط والعدل، بل نُحسن إليه ونبرُّه، هكذا أمرنا الله تعالى، وفي المقابل لاحظوا كيف يتعامل أدعياء الحرية والإنسانية، فالحجاب مثلا كمسألة شخصية -كما يقولون هم بأنفسهم- لا يهدد كيانهم وليس فيه عدوان على أحد، لكنه يمنع بشدة وتجبر المرأة المتدينة على التخلي عن أحكام دينها والانصياع لعقائدهم وايديولوجياتهم في التفسخ والتعري! ويحدث هذا في أعرق الدول التي تتشدق بالحرية والديموقراطية! ولاحظوا كيف يتعاملون مع من يشكك في حدث تاريخي كمحرقة اليهود (الهولوكوست)، من يجرأ على إنكارها في مجتمعاتهم؟ إنها أعظم من إنكار وجود الله سبحانه وتعالى! لماذا يرغمون الناس على أفكارهم البائسة في مجرد حدث تاريخي، أو لباس شخصي؟! صحيح أنهم يعادون الإسلام، ويعبدون أموال اليهود المُرابين، ولكن هذا المستوى من العداء خارج عن كل مقاييس الإنسانية والعقلانية والمنطق. إن من حقهم أن يجتثوا (النازية) من جذورها، ولا يسمحوا لمتنفِّس بإسم النازية، لما تمثله من خطر مدمر لمجتمعاتهم، ثم لا يكون للإسلام ذات الحق في اقتلاع غدد الارتداد السرطانية من جسده! الحديث يطول ويطول، والمجتمع المسلم يعي جيدا كم يكذب هؤلاء في دعاواهم، وكم يخادعون ويراوغون.

 

 

فلسفة العقوبة القصوى وقتل المرتد

(العقوبة القصوى) عند كل البشر تتفاوت ما بين السجن لسنوات طويلة جدا والإعدام، وقد تضاف لها بعض العقوبات، كالأعمال الشاقة أو القتل بطريقة شديدة. هذا هو المعمول به في كلِّ تاريخ البشرية إلى يومنا هذا، والدِّين باعتباره سيِّد العقلاء، فهو متَّفق مع أصل الفكرة التي لم يشذَّ عنها عاقل، ولكنه ضبط العقوبة عن الانفلات إلى نزعات الانتقام الشخصي، والحقد والتشفِّي، وغيرها من الجهالات التي أضافها البشر ظلما إلى قوانينهم، فالدِّين بكل أحكامه وتشريعاته وتعاليمه ودستوره إنما يهدف لهداية الناس، وتربيتهم وتزكيتهم، وردعهم عمَّا يُفسد آخرتهم ودنياهم لا غير، وكل ذلك من أجل أن يحيوا (الحياة الطيبة).

 

ثم إن العقوبة القصوى تبتني على عدَّة فلسفات بنظر العقلاء، ومن أهمها فلسفة (الردع) و (الجزاء)، والدِّين لا يعارض أصل هذه الفلسفات العقلية، ولكنه يؤطرها بإطار (العدل)، ويبث فيها روح (التزكية والتربية والتطهير) للمجرم والمجتمع معا.

 

وإلى مثل هذه الجذور ترجع عقوبة القتل للمجاهر بالإرتداد، وهذا يحتاج لبحث مُوسَّع، ولكن نوجز جانبا منه في صورة إجمالية، فنقول:

 

إن (الحياة) في الفلسفة العقلية الدينية ليست مجرد أيام معدودة في الدنيا وتنتهي، بل هي شيء مقدس للغاية، ومستمر لما بعد الموت، فهي حياة خالدة، وما الموت إلا انتقال من دار إلى دار، وعلى ذلك أدلة وبراهين عقلية دامغة ليس هذا محل بحثها، فالحكم بقتل المرتد في فلسفة الدين ليس نهاية للحياة، بل قرار إلهي بنقله من هذه الدار الدنيا، وفي ذلك مصالح تعود لحياة الناس، بل ولحياة المرتد نفسه، وهنا قد نتلمس بعض وجوه الحكمة، فمثلا نجد الصلاح لحياة المرتد نفسه قبل أن يقع في المزيد من الإفساد الذي لا يُغتفر، ولا تجدي معه التوبة، وما يستتبعه ذلك من مضاعفات العذاب الذي لا يُخفَّف في حياته الأخروية الخالدة، فهذه العقوبة في الواقع (رحمةٌ في عين الشِدَّة)، فالله سبحانه وتعالى في عين أنه شديد العقاب هو أرحم الراحمين.

 

ولو تأملنا أكثر لوجدناها رحمة خاصة بمن كان مسلما ثم ارتد، فالله تعالى إذا اشتد غضبه على مخلوق فإنه يتركه ولا يعاجله بعقوبة دنيوية، ويُملي له ليزداد إثما وعذابا، قال تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾(5)، ولقد اشتد غضبه تعالى على إبليس فتركه ليتضاعف عليه عذاب الآخرة، وما أدراك ما عذاب الآخرة، وأما المسلم إذا ارتد فقد تجاوز الخط المدمِّر لحياته الخالدة، فيبادره الله تعالى بالعقوبة الدنيوية ليتوب إن كانت التوبة مُجدية، أو يأمر بنقله من الدنيا قبل أن يزداد عذابا فوق العذاب، وقبل أن يدمر حياته أكثر، ويدمر حياة عباد الله من حوله. قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ﴾(6).

 

خاتمة

الإنسان رغم إدراكه بأن لابد من أساس يقيم عليه بُنيانه، وهذا حقٌّ لا ريب فيه، إلا أنه ظل يبحث عن هذا الأساس، وكثيرا ما ضلَّ الطريق إليه، فأقام بنيانه على أسس زائلة لا تمكث طويلا حتى تزول وينهدم كلّ ما بناه عليها، فأين فرعون، وأين امبراطورية روما، وأين الاتحاد السوفييتي، وأين وأين؟!

 

حريٌّ بالإنسان أن يبحث عن الأساس الدائم الذي لا يزول، ولو تأمل قليلا لوجد أن نظام الكون من حوله هو ثابت ومستقر، وهو نظام في منتهى الدقة والعظمة والإنضباط والروعة، وأنَّ الذي خلق هذا النظام لابد وأن عنده الحلّ لهذه المعضلة، وهو وحده القادر على صياغة نظام دقيق للبشر، وهو العالم بالأساس الثابت المستقر والدائم الذي يمكن أن يشيد الناس عليه بُنيانهم، ويضمن لهم السعادة مدى الحياة. ذلك هو الله عزّ وجلّ، ولا أحد سواه سبحانه وتعالى، هو الدائم السرمد، وكل بناء لا يقوم على أساسه فهو زائل.

 

والحمد لله رب العالمين

 

سماحة الشيخ سعيد المادح

1 / محرم / 1436هـ

26 / 10 / 2014م


1- سورة آل عمران / 72.

2- سورة البقرة / 256.

3- سورة البقرة / 194.

4- سورة الممتحنة / 8.

5- سورة آل عمران / 178.

6- سورة البقرة / 179.