التمثيل الثاني - سورة البقرة
قال سبحانه: ﴿أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِينَ / يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أضَاءَ لَهُمْ مَشَوا فِيهِ وَإذَا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأبْصَارِهِمْ إنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِير﴾(1).
تفسير الآيات:
الصيّب: المطر، وكلّ نازل من علوّ إلى أسفل، يقال فيه: صاب يصوب، وهو عطف على قوله ﴿كَمَثَلِ الّذي استوقَدَ ناراً ﴾، ولما كان المثل الثاني أيضاً مثلاً للمنافقين، فمقتضى القاعدة أن يقول "وكصيّب" مكان (أو كصيّب) ولكن ربّما يستعمل "أو" بمعنى "و" قال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدراً ** كما أتى ربّه موسى على قدر
ويحتمل أن يكون "أو" للتخيير، بأن مَثل المنافقين بموقد النار، أو بمن وقع في المطر.
والرعد: هو الصوت الذي يُسمَع في السحاب أحياناً عند تجمعه.
والبرق: هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالباً، وربما لمع في الأفق حيث لا سحاب، وأسباب هذه الظواهر اتحاد شحنات السحاب الموجبة بالسالبة كما تقرر ذلك في علم الطبيعيات.
والصاعقة: نار عظيمة تنزل أحياناً أثناء المطر والبرق، وسببها تفريغ الشحنات التي في السحاب بجاذب يجذبها إلى الأرض.
والإحاطة بالشيء: الإحداق به من جميع الجهات.
والخطف: السلب والأخذ بسرعة، ومنه نهي عن الخطفة بمعنى النهبة.
قوله: ﴿وَإذَا أظْلَمَ﴾ بمعنى إذا خفت ضوء البرق.
إلى هنا تمّ تفسير مفردات الآيات، فلنرجع إلى بيان حقيقة التمثيل الوارد في الآية، ليتضح من خلالها حال المنافقين، فانّ حال المشبه يعرف من حال المشبه به، فالمهم هو التعرّف على المشبه به.
والإمعان في الآيات يثبت بأنّ التمثيل يبتدأ من قوله: ﴿أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ وينتهي بقوله: ﴿وَإذَا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾.
وأمّا قوله: ﴿وَاللهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِينَ﴾ جملة معترضة جىء بها في أثناء التمثيل، وقوله بعد انتهاء التمثيل: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأبْصَارِهِمْ﴾ يرجع إلى المشبه.
هذا ما يرجع إلى مفردات الآيات وكيفية انسجامها، والمهمّ هو ترسيم ذلك المشهد الرهيب.
فلنفترض أنّ قوماً كانوا يسيرون في الفلوات وسط أجواء سادها الظلام الدامس، فإذا بصيّب من السماء يتساقط عليهم بغزارة، فيه رعود قاصفة وبروق لامعة تكاد تخطف الأبصار من شدتها وصواعق مخيفة، فتولاّهم الرعب والفزع والهلع ممّا حدا بهم إلى أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم خشية الموت للحيلولة دون سماع ذلك الصوت المخيف، فعندئذٍ وقفوا حيارى لا يدرون أين يولّون وجوهم، فإذا ببصيص من البرق أضاء لهم الطريق فمشوا فيه هنيئة، فلما استتر ضوء البرق أحاطت بهم الظلمة مرة أُخرى وسكنوا عن المشي.
ونستخلص من هذا المشهد أنّ الهول والرعب والفزع والحيرة قد استولى على هؤلاء القوم لا يدرون ماذا يفعلون، وهذه الحالة برمَّتها تصدق على المنافقين، ويمكن تقريب ذلك ببيانين:
البيان الأوّل: التطبيق المفرق لكلّ ما جاء من المفردات في المشبه به، كالصيّب والظلمات والرعد والبرق، على المشبَّه، وقد ذكر المفسرون في ذلك وجوهاً أفضلها ما ذكره الطبرسي تحت عنوان الوجه الثالث.
وقال: إنّه مثل للإسلام، لأنّ فيه الحياة كما في الغيث الحياة، وشبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر، ومافيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد وخوف القتل، وبما يخافونه من وعيد الآخرة لشكّهم في دينهم، وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم، وما فيه من الصواعق كما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل. ويقوى ذلك ما روي عن الحسن (عليه السلام) انّه قال: "مثل إسلام المنافق كصيّب هذا وصفه"(2).
وربّما يقرّر هذا الوجه بشكل آخر، وهو ما أفاده المحقّق محمد جواد البلاغي (المتوفّى1352هـ) فقال: الإسلام للناس ونظام اجتماعهم كالمطر الصيّب فيه حياتهم وسعادتهم في الدارين وزهرة الأرض بالعدل والصلاح والأمن وحسن الاجتماع، ولكن معاندة المعاندين للحق وأهله جعلت الإسلام كالمطر لا يخلو من ظلمات شدائد وحروب ومعاداة من المشركين ورعود قتل وقتال وتهديدات مزعجات لغير الصابرين من ذوي البصائر والذين ارخصوا نفوسهم في سبيل الله ونيل السعادة، وفيه بروق من النصر وآمال الظفر واغتنام الغنائم وعزّ الانتصار والمنعة والهيبة. فهم إذا سمعوا صواعق الحرب أخذهم الهلع والحذر من القتل وشبهت حالهم في ذلك بأنّهم ﴿يجعلون أصابعهم في آذانهم من ﴾أجل ﴿الصواعق حذر الموت﴾ وخوفاً من أن تخلع قلوبهم من هول أصواتها، وسفهاً لعقولهم أين يفرون عن الموت وماذا يجديهم حذرهم والله محيط بالكافرين(3).
وهذان التقريران يرجعان إلى التطبيق المفرّق كما عرفت.
البيان الثاني: التطبيق المركّب، وهو إنّ الغاية من وراء هذا التمثيل أُمور ثلاثة ترجع إلى بيان حالة المنافقين.
وقبل أن نستوعب البحث عنها نذكر نص كلام الزمخشري في هذا الصدد.
قال الزمخشري: والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطّونه أنّ التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به وهو القول الفصل والمذهب الجزل(4).
إذا عرفت ذلك، فإليك البحث في الأمور الثلاثة:
الأوّل: إحاطة الرعب والهلع بالمنافقين إثر انتشار الإسلام في الجزيرة العربية ودخول القبائل فيه وتنامي شوكته، مما أوجد رعباً في قلوبهم وفزعاً في نفوسهم المضطربة، ويجدون ذلك بلاءً أحاط بهم كالقوم الذين يصيبهم الصيّب من السماء فيه ظلمات و رعد وبرق وإليه أشار قوله سبحانه: ﴿أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾.
الثاني: انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا كان يخبرهم عن المستقبل المظلم للكافرين والمدبرين عن الإسلام والإيمان خصوصاً بعد الموت صار ذلك كالصاعقة النازلة على روَوسهم فكانوا يهربون من سماع آيات الله ويحذرون من صواعق براهينه الساطعة، مع أنّ هذا هو منتهى الحماقة، لأنّ صمّ الآذان ليس من أسباب الوقاية من أخذ الصاعقة ونزول الموت وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: ﴿يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِينَ﴾.
الثالث: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعوهم إلى أصل الدين ويتلوا عليهم الآيات البيّنة ويقيم لهم الحجج القيّمة، فعنئذٍ يظهر لهم الحق، فربّما كانوا يعزمون على اتّباعه والسير وراء أفكاره، ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما يعودون إلى تقليد الآباء، وظلمة الشهوات والشبهات، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: ﴿أيَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أضَاءَ لَهُمْ مَشَوا فِيهِ وَإذَا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾.
إلى هنا تمّ التطبيق المركب لكن في مقاطع ثلاثة.
ثمّ إنّه سبحانه أعقب التمثيل بقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأبْصَارِهِمْ إنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ قَدِير﴾ أي انّه سبحانه قادر أن يجعلهم صمّـاً وعمياًحتى لا ينجع فيهم وعظ واعظ ولا تجدي هداية هادٍ.
وذهاب سمعهم وأبصارهم نتيجة أعمالهم الطالحة التي توصد باب التوفيق أمامهم فيصيرون صمّـاً وبكماً وعمياً.
ثمّ إنّ الآيات القرآنية تفسر تلك الحالة النفسانية التي كانت تسود المنافقين في مهجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كانوا في حيطة وحذر من أن تنزل عليهم سورة تكشف نواياهم، كما يشير إليه قوله سبحانه: ﴿يَحْذَرُ المُنافِقُونَ أن تُنَزَّل عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُون﴾(5).
ومن جانب آخر يشاهدون تنامي قدرة الإسلام وتزايد شوكته على وجه يستطيع أن يقطع دابرهم من أديم الأرض، يقول سبحانه: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمُرجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إلاّ قَلِيلاً / مَلْعُونينَ أيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتّلُوا تَقْتِيلاً﴾(6).
هذا بعض ما يمكن أن يقال حول التمثيل الوارد في حق المنافقين، ولكن المهمَّ تطبيق هذا التمثيل على منافقي عصرنا، فدراسة حال المنافقين في عصرنا هذا من أهم وظيفة المفسّر، فانّ حقيقة النفاق واحدة، ترجع إلى إظهار الإيمان وإبطان الكفر لغاية الإضرار بالإسلام والمسلمين، وهم يقيمون في خوف ورعب، وفي الوقت نفسه صم بكم عمي فهم لا يرجعون.
1- سورة البقرة / 19ـ20.
2- مجمع البيان ج1 / ص57.
3- آلاء الرحمن:1 / ص74.
4- الكشاف ج1 / ص162-163.
5- سورة التوبة / 64.
6- سورة الأحزاب / 60-61.