الأبعاد التربوية في سورة البقرة

﴿ألــم﴾

لا يمكن أن نستوضح درسا تربويا واضحا من خلال الحروف المقطعة، سوى درس التسليم بما جاء به الله تعالى والتعبد به، فنحن نقرأ هذه الأمور ونؤمن بقرآنيتها، وأنها تمثل جانبا من الإعجاز القرآني، على الرغم من أننا لا نفهم شيئا منها، وفي ذلك أكبر درس تربوي وهو التسليم الذي يمثل مستوى راق من المستويات والمقامات التي تربط العبد بالله، وهو أحد المقامات التي وصل إليها نبي الله إبراهيم (ع)، ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ.

 

ولعل في بعض ما يروى في تفسير معاني الحروف المقطعة من أنها إشارات إلى بعض أسماء الله الحسنى، أو اسمه الأعظم، ما يوجد حالة من التربية العرفانية بالله تعالى، على أساس أن قراءتها تمثل استحضارا لتلك الأسماء العظمى، واستحضارها استحضار لمعاينها، ومعانيها تحضر حالة التفاعل معها، الذي يعني حالة من التفاعل مع صاحبها الذي هو الله تعالى، وهو الذي يحقق جانبا من العلاقة المطلوبة بين العبيد والحق تعالى.

 

﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾

يمكن لنا أن نستجلي المعالم التربوية الآتية:

 

1- التربية المعرفية: من خلال عدم الاعتماد على غير العلم، فعندما تحدثت الآية عن الكتاب وصفته بأنه لا شك فيه، وبأي نحو فهمنا عدم الشك، أي إن فهمنا أن معنى الآية أن الكتاب هو هذا الذي لا شك في كونه هو الكتاب، أو فهمناه بأنه هو الذي لا شك في محتوياته وآياته، فعلى التقديرين كليهما، تتجلى الدعوة للتعامل مع الأشياء بدرجة من الوضوح الذي ينتفي معه كل شك وهو المستوى اليقيني.

 

2- التربية القرآنية: إذ جعلت الآية الكريمة القرآن هو الكتاب الذي يحقق الهداية للمتقين، فهو كتاب يهتدى به,ولذلك ينبغي أن يعظم ويبجل وهي الإشارة إليه بذلك.

 

3- تربية روح الهداية والاهتداء: وهذا هو المطلب الأساسي الذي من أجله أنزل القرآن وقد أشرنا لذلك في الفاتحة عند قوله تعالى"اهدنا الصراط المستقيم"، وذلك من خلال كون القرآن الذي يمثل المعرفة الحقة التي لا يخالطها الشك، يمثل الهادي للمتقين.

 

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾

هذه الصفات الثلاث تمثل مجموعة تربويات تتضح معالمها مما يلي:

 

1- التربية العقدية: وذلك من خلال الإيمان بالغيب الذي يمثل جانبا من الجوانب الذي تحاول الكثير من النظريات التربوية المعاصرة إغفاله، وأيا كان معنى الغيب الذي تريده الآية أعنى سواءا كان الإيمان بالله فقط، أو به وببقية العقائد الحقة الأخرى، فإنه يمثل جانبا تربويا تأسيسيا جعلته الآية الشريفة السمة الأولى للمتقين، الذين يسعون للوصول إلى الهداية القرآنية.

 

2- التربية العبادية، المتجسدة في الصلاة: والتي سيأتي الحديث عنها في الكثير من الآيات، اللاحقة في هذه السورة وغيرها، لما تمثله الصلاة من الارتباط الشديد بين العبد وبين الرب سبحانه وتعالى، وأنها بمعنى الصلة أو الاتصال أو الوصل او الصولة كما يحاول بعض العرفاء أن يفهمها.

 

3- التربية الإنسانية (الأخلاقية): حيث تتمثل في حالة من الإنفاق من رزق الله تعالى، لكل خلقه فإن حذف المنفق عليه كما هو ظاهر الآية يدل على عموم المنفق عليهم، ولذا نستجلي البعد التربوي الإنساني الذي يريد الإسلام أن يربيه في أتباعه، كما نستجلي من عموم الرزق كل ما يمثل خيرا منزلا من عند الله تعالى، وهو ما دلت عليه بعض الروايات.

 

4- التربية المستديمة، والمستمرة: وهي مدلول الأفعال المضارعة في يؤمنون، ويقيمون، وينفقون، الكاشفة عن كون التقوى لا تتحقق إلا بالاستمرار على هذه الصفات.

 

﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾

وأما هذه الآية ففيها من المعالم التربوية ما يلي:

 

1- التربية العقائدية مرة أخرى: فإنها أكدت على أن من المقومات للتقوى الإيمان بالرسالات السابقة على رسالة الإسلام، مع الإيمان به معا، فلا يجدي الإيمان بأحدهما دون الآخر، ولا يتحقق الإيمان بالرسالات الأخرى إلا من خلال الإيمان بالإسلام، والقرآن وذلك لأنه لا سبيل لمعرفة تلك الرسالات إلا القرآن والإسلام.

 

2- تربية روح اليقين: واليقين مقام من المقامات الراقية التي وصل إليها نبي الله إبراهيم (ع)، كما تشير الآية لذلك، حيث يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، كما أنه يمثل قيمة معرفية نهائية، وهي المعرفة الجزمية التي تمثل العلم بدون أي شك وتردد، وهي اعتماد اليقين في القضية العقدية، وهي الإيمان باليوم الآخر.

 

﴿أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾

وفي هذه الآية معالم تربوية تتجسد في:

 

1- تربية القدرة على إصدار الحكم من خلال تحقق مجموعة مواصفات: فإن المتقين الذين تقدم الحديث عنهم، إذا اجتمعت فيهم مواصفات معينة، فإن النتيجة الطبيعية التي تترتب على وجود هذه المواصفات فيهم هي أنهم على هدى من ربهم، وأنهم هم المفلحون.

 

2- تربية طلب الهداية من الله تعالى: على رغم أنها تتحقق بتحقق المواصفات المتقدمة، لكن مع ذلك فقد أكدت الآية على أن الهدى الذي هم عليه هو هدى من ربهم.

 

3- ترشيد حب الذات: من خلال تربية البحث عن الفلاح الحقيقي، فلا يوجد أحد من الناس إلا وهو باحث عن المصلحة جالب لها لنفسه، دافع للمفسدة مبعد لها عن نفسه، وقد اختصرت الآية الطريق على كل باحث عن ذاته يريد لها الفلاح والنجاح لها، وأوجزت له شروط الفلاح الدائم الذي هو منى كل عاقل في الوجود.

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾

تتجلى في هذه الآية تربية روح الوعي في التعامل مع الأصناف المختلفة في المجتمع، وأهم المعالم التربوية فيها هي:

 

1- التربية المجتمعية: أي تربية قدرة التعرف على المجتمع، وما فيه من العينات المتعددة والمختلفة والتي منها المتقين الذين تقدم الحديث عنهم وعن صفاتهم، والذين كفروا الذين هم مورد الحديث في الآية، والمتظاهرين بالإيمان كما سيأتي الحديث عنهم.

 

2- التعرف الهادف على الأصناف المجتمعية: فإن التقسيم المجتمعي قد يكون متعددا ومتكثرا، كالتقسيم للفقراء والأغنياء والأصحاء والمرضى، ولكن القرآن لما لم يكن له هدف بتلك التقسيمات وإنما كان هدفه بالتقسيم المرتبط بالهداية والضلال ذكر خصوص الأقسام الثلاثة.

 

3- تربية الاستفادة من الطاقات وتسخير الجهد والوقت فيما يمكن أن يتحقق معه الأثر: وأما ما لا أثر فيه، فلا ينبغي إضاعة الجهد أو الوقت فيه.

 

وربما يقال إن الآية دالة بإطلاقها على عدم الدعوة إلى الله إذا كان المدعوين من الذين كفروا، إلا أن هذا لا يمكن الالتزام به، لما ورد من النصوص الكثيرة كتابا وسنة على ضرورة الدعوة إلى الله سواء كان المدعوين كفارا أم غيرهم، لذلك لا بد أن نحمل الآية هنا على خصوص الذين نعلم مسبقا بعدم تأثرهم بالدعوة وتفاعلهم معها خصوصا، دون من نحتمل فيهم التأثر والتفاعل.

 

 

﴿خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾

للمفسرين في هذه الآية سيل عرم من البحوث اللغوية، والعقدية التي ترتبط بالجبر والتفويض، وغيرها، ولكن أهم معالم البحث التربوي فيها هي:

 

1- التربية العقلية التي تتعامل مع البرهان: على أساس أن الآية الشريفة تتحدث عن الدليل الذي من أجله لم تكن الدعوة للكافرين نافعة، وهو أنه ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وأن على أبصارهم غشاوة، فكأن الآية تريد أن تتحدث عن حالة من فقدان وسائل التأثر المعرفية لدى هؤلاء الكافرين، وهي أدوات الحس التي تمثل رأس المال لدى الإنسان الذي يريد أن يهتدي، لذلك نستفيد كما حملنا الآية السابقة على أن الدعوة تسقط عنا تجاه كل من أهمل الاستفادة من أدوات المعرفة التي أعطاها الله إياه، أو كان مصرا على عدم التأثر بالدعوة التي تأتيه من الله أو من عبيد الله، وهو البرهان الذي تقدمه الآية الشريفة على عدم جدوى الدعوة معه، وهو المعلم التربوي الواضح فيها.

 

2- التربية الاستدلالية: وهي أن الآية الكريمة تعلمنا أن نستدل على مطالبنا عندما نتحدث بها، وهو ديدن القرآن في كل دعاواه التي يدعو إليها، فلا يطلق الدعوى إلا معها دليلها الذي يثبتها.

 

3- تربية البصيرة: من خلال ذم هذه الحالة التي تتجسد في تعطيل كل الوسائل التي من شأنها أن تسخر في الوصول إلى أرقى حالات المعرفة.

 

4- تقويم الحواس: فيما يمكن أن يرقى بالإنسان في معرفة الله تعالى، وذلك على أساس أن الكافرين لم يعطلوا حواسهم عن الاستفادة إذ أنهم استفادوا منها، لكن لم تكن الاستفادة في الطريق الصحيح، لذلك يمثل هذا الذم لهم ذما لسوء الاستفادة منها، الأمر الذي يحتم على كل عاقل تقويم الاستفادة منها.

 

5- تربية روح الارتباط بالله والتوكل عليه: من خلال الدعاء بأن لا يكون الإنسان ممن ختم على أعضائه وجوارحه.