الأبعاد التربوية في سورة الحمد

﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ / الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ / مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ / إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ / اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ / صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾(1).

 

قد يكون من المناسب أن نتحدث عن الدروس والأبعاد التربوية في السورة في مرحلتين، الأولى مرحلة التجزئة، والثانية مرحلة التركيب، ونقصد بمرحلة التجزئة أننا نأتي لكل آية من آياتنا لنقف عندها ونستجلي ما فيها من التربويات، بلحاظ كل آية بافرادها، وأما المرحلة الثانية وهي مرحلة التركيب، فالمقصود منها أن ننظر واحدة للسورة لنرى ماذا تريد أن تربي في الإنسان المتعاطي معها.

 

المرحلة الأولى: مرحلة التجزئة (التفكيك)

﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

تمثل البسملة معلماً تربوياً عظيماً، يربي الإنسان على الارتباط بالله تعالى في كل أعماله، بأن يقترن ابتداء كل عمل لديه بالله تعالى، كما أن فيها إيجاد عميقاً بالمرحلة الإلهية التي ينبغي لأن تنعكس على القارئ للبسملة.

 

فالآية في أبعادها التربوية تربي القارئ لها عليها:

 

1- الابتداء دائما باسم الله تعالى، وهو أمر يعطي شعوراً بالنقص في العمل ما لم يبدأ فيه الإنسان باسم الله تعالى.

 

2- الاستعانة بالله تعالى، وهو أمر يعطي شعوراً بالضعف.

 

3- استشعار الرحمة بأوسع مضامينها لما أنها تكررت مرتين بصيغة المبالغة فيهما معا.

 

4- استشعار الذوق الإجمالي لما في التعبير باسم الله الذي هو أجمل الأسماء.

 

وعلى هذا فإن النواحي التربوية في الآية تتمثل في:

 

1- التربية الروحية: المتجلية في الذكر الدائم لله تعالى، حيث تسمو الروح إلى آفاقها الراقية.

 

2- التربية النفسية: التي تحقق حالة من الاطمئنان لدى الذاكر حيث أن بذكره تطمئن القلوب والنفوس.

 

3- التربية السلوكية: التي تجعل من سلوك الإنسان سلوكاً سوياً من خلا دوام الارتباط بالله.

 

4- التربية الأخلاقية: التي تتمثل في أخلاقية الرحمة بأرقى صورها.

 

5- التربية الجمالية والذوقية: التي تجعل من ذكر الله والابتداء باسمه حالة جمالي في كل شيء.

 

﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

أوضح معلم تربوي في الآية الشريفة هو معلم الشكر لله، والحمد له بما أنه رب العلمين ، والجهة التربوية فيه اه0ي الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم شكر المنعم، ومعرفته التي هي مقدمة لشكره، وقد عرفته الآية بأنه رب العلمين، أي مدبرهم ومربيهم.

 

والمعالم التربوية في الآية هي:

1- التربية العقلية: حيث ألفتت إلى شكر المنعم، وهو أمر عقلي يجزم به العقل، على أساس أنه عدل أو يجزم به على الأقل العقلاء في سيرتهم وآراءهم المحمودة، من خلال الحسن والقبح.

 

2- التربية العبادية: فإن الشكر والحمد- بغض النظر عن الفروق الدقيقة والفنية بينهما- يمثلان عبادة من أرقى العبادات التي تحقق خضوع العبد لربه.

 

3- التربية الجمالية: التي توحي في النفس إيحاءً أخاذاً بأن كل ما يمكن أن يتصور من عوالم في هذا الوجود على سعته، فهي مربوبة لرب كامل مستجمع لجميع صفات الكمال والجمال والجلال، من خلال ما تعطيه كلمة لفظ الجلالة.

 

4- التربية الروحية: المتمثلة في حالة الانقطاع لله تعالى دون سواه، من خلال ما تعطيه كلمة الحمد التي عرفت بلام الاستغراق لتشمل كل حمد وكل شكر، وتخصمهما بالله دون سواه.

 

5- التربية الفكرية: من خلا التجوال في رحاب العالمين التي هي جمع للعالم، حيث يتم التأمل في كل عالم من العوالم التي توصلت إليه قدرات البش واكتشافاتهم.

 

﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾

ليس خفي ما في التأكيد على الرحمة من خلال تكرارها مرتين، الأولى في نفس البسملة، والأخرى في آيات من آيات السورة نفسها، وأهم المعالم التربوية في هاتين المفردتين:

 

1- التربية الفقرية: بما يستشعر الإنسان معها الفقر الشديد لرحمة الله تعالى بكلا شقيها الرحمانية والروحية.

 

2- التربية الاجتماعية: في تعليم الإنسان حالة الرحمة في تعامله مع الناس كأصل من أصول التعامل التي هي من الصفات الإلهية الجلية حيث يقرأها في كل صلاة أكثر من مرة.

 

﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾

من الواضح أن الآية تتحدث عن يوم القيامة الذي عرفته بأنه يوم الجزاء، وهو أسلوب تربوي مهم وأساسي في تقويم الفرد والمجتمع، وهو أسلوب الجزاء ثواباًِ، أو عقاباً، ولذلك فإن أوضح المعالم التربوية في هذا النص هي:

 

1- التربية العقائدية: وهي الإيمان والاعتقاد باليوم الآخر، والاعتقاد بتفاصيل الجزاء فيه.

 

2- التربية السلوكية: بتقويم السلوك، من خلال ما يعطيه الإيمان باليوم الآخر من الإقدام على الطاعة والإحجام عن المعصية.

 

3- تربية الاتزان الشخصي: بإيجاد حالة من الخوف والرجاء، في ضوء الإيمان باليوم الآخر الذي يمثل حالة من التوسط في الخوف من الله تعالى في ذلك اليوم مع رجاء رحمته خصوصاً أن الآية قد جاءت من بعد قوله تعالى: "الرحمن الرحيم".

 

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾

في هذه الآية مجموعة معالم تربوية تتمثل في:

1- تربية الانقطاع الخالص لله: من خلال تكرار إياك مرتين وتقدمها الدال على الانحصار كما يقرره علماء العربية.

 

2- التربية العبادية: وهي واضحة من خلال التعبير بإياك نعبد.

 

3- تربية الخلوص لله: من خلال حالة الاستعانة به حتى في العبادة التي هي له.

 

﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾

تجسد الآية الشريفة الهداية التي هي روح التربية ومن أجلها أنزل القرآن بأكمله، بل جاءت كل الرسالات لتحقيقها، والذي تعطيه الآية من معالم تربوية ما يلي:

 

1- تربية الروح الجماعية: وجعل الأفراد المتفرقة وحدة واحدة، وذلك من خلال الدعاء للمجتمع المؤمن بكل آحاده من خلال التعبير بضمير الجمع في اهدنا.

 

2- تربية الناس على اختيار الكمال: وذلك من خلال البحث عن الصراط المستقيم الذي هو عبارة عن الطريق الواضح الذي لا اعواج فيه.

 

3- تربية الإنسان على تلمس الهداية من الله: لأنه -أي الإنسان- قاصره بمفرده عن البلوغ إليها.

 

4- التربية الجمالية: من خلال التأكيد على قضية الاستقامة، في مقابل الاعوجاج والانحراف الذي هو خلاف الجمال والزينة في الأشياء الجميلة.

 

﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ..﴾

من المعالم التربوية الواضحة في هذه الآية ما يلي:

1- التربية المعرفية: حيث أن الآية جعلت الاستقامة متجسدة في تجربة المنعم عليهم، فلا بد من التعرف عليهم، من خلا البحث والمعرفة.

 

2- التربية التكاملية: وذلك من خلال الحث على تحصيل المواصفات التي تحققت في المنعم عليهم حتى يكون الشخص المتعاطي مع الآية منهم.

 

3- تربية الشعور بالفقر تجاه المنعم الذي هو الله تعالى: وذلك باستجداء النعمة منه، إذ هو المنعم لا غيره.

 

4- تربية حالة الرجاء في الشخص المؤمن: من خلال رجائه أن يكون من المنعم عليهم، وبطبيعة الحال لن يكون الرجاء حقيقياً ما لم يكن مسنداً بالعمل لتحقيق المرجو.

 

﴿.. غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾

في هذه الآية نتلمس حالة من الخوف تدعونا أن لا نكون من أحد فرديها- الآية- وأهم معالمها التربوية هي:

 

1- التربية الفكرية: من خلال التعرف على كل ما من شأنه أن يحقق غضب الله على العبد، أو يؤدي إلى ضلاله وانحرافه.

 

2- تربية الحصانة (الفردية والمجتمعية) عن الوقوع في الانحراف الموجب لأحد الأمرين من الغضب الإلهي أو الضلال.

 

3- البحث عن ما يرفع الضلال ويحقق خلافه، وكذا البحث عن ما يحقق الرضا الإلهي.

 

 

المرحلة الثاني: مرحلة التركيب

من خلال النظرة الكلية للسورة المباركة نتمكن أن نستجلي المعالم التروية التالية:

 

1- التربية الدينية: فإن السورة بعد أن كانت منهجًا تعليميًا للمؤمن في كيفية حديثه مع الله تعالى الذي يمثل أرقى أنواع الحديث، من خلال التدرج في ذلك الحديث ابتداءًا بالذكر ثم الشكر، والثناء، وبعدده الاستعالة والعبادة، ثم طلب الهداية للاستقامة المتمثلة في المنعم عليهم، فإن تمثل حالة من تحقيق التجربة الدينية كما يسميها البعض التي هي عبارة عن انعكاس التفاعل مع الله من خلال آليات الذكر والشكر والعبادة والدعاء في واقع الإنسان، وهذه التجربة الدينية يمكن للمؤمن أن يوظفها لتحقيق أرقى الحالات العرفانية مع الله تعالى، كما نستوحيه من الرواية الواردة عن الإمام الصادق (ع)، في قوله تعالى: "إياك نعبد وإياك نستعين، أنه (ع) يقول لا زلت أكررها حتى ظننت أني أسمعها من منزلها.

 

2- التربية المنهجية: فإن السورة على رغم قصرها وقلة آياتها، إلا أنها تمثل المنهج العام للدين الذي يتمثل في المبدأ، والمعاد، وما بينهما، وذلك من خلال الحديث عن الله تعالى وعن يوم القيامة (يوم الدين) وعن الرسالات المدلول عليها  بقوله صراط الذين أنعمت عليهم، وما اكتنفها من إرهاصات ومواجهات من قبل المغضوب عليهم والضالين، وهو أمر يستفيده المتربي في تعاطيه مع السورة منها.

 

3- التربية العرفانية: فإن السورة تعلم من يتعامل معها كيف يتعامل مع الله عندما يريد أن يتحدث معه ويناجيه، فتعلمه كيف يدعو وأي شيء يدعو، فالكيفية من خلال الخطوات المترتبة في الدعاء على بعضها البعض من الذكر والشكر والثناء والاستعانة والعبادة، ثم تقديم المطلوب، وأما ماذ1 يدعو فإن السورة قصرت الدعاء على خصوص الهداية لتحصيل الاستقامة.

 

4- التربية العشقية: وهذا ما نلمسه من نفس الخطاب الذي تشتمل عليه السورة، وكيف يكشف عن حالة من العلاقة الحبية بين العبد والمعبود.

 

--------------------

1- سورة الفاتحة.