دوافع ونتائج الإنفاق

الآيتـان

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ / وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾(1).

 

التّفسير

دوافع الإنفاق ونتائجه:

في هاتين الآيتين نهي للمؤمنين عن المنّ والأذى عند إنفاقهم في سبيل الله، لأنّ ذلك يحبط أعمالهم. ثمّ يضرب القرآن مثلاً للإنفاق المقترن بالمنّ والأذى، ومثلاً آخر للإنفاق المنطلق من الإخلاص والعواطف الإنسانية.

يقول تعالى في المثال الأوّل: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ..﴾.

 

تصوّر قطعة حجر صلد تغطّيه طبقه خفيفة من التراب، وقد وضعت في هذا التراب بذور سليمة، ثمّ عرّض الجميع للهواء الطلق وأشعة الشمس، فإذا سقط المطر المبارك على هذا التراب لا يفعل شيئاً سوى اكتساح التراب والبذور وبعثرتها، ليظهر سطح الحجر بخشونته وصلابته التي لا تنفذ فيها الجذور، وهذا ليس لأنّ أشعة الشمس والهواء الطلق والمطر كان لها تأثير سيء، بل لأنّ البذر لم يزرع في المكان المناسب، ظاهر حسن وباطن خشن لا يسمح بالنفوذ إليه. قشرة خارجية من التربة لا تعين على نموّ النبات الذي يتطلّب الوصول إلى الأعماق لتتغذّى الجذور.

 

ويشبّه القرآن الإنفاق الذي يصاحبه الرياء والمنّة والأذى بتلك الطبقة الخفيفة من التربة التي تغطّي الصخرة الصلدة والتي لا نفع فيها، بل أنّها بمظهرها تخدع الزارع وتذهب بأتعابه أدراج الرياح. هذا هو المثل الذي ضربه القرآن في الآية الأولى للإنفاق المرائي الذي يتبعه المنّ والأذى(2).

 

وفي نهاية الآية يقول تعالى: ﴿وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ وهو إشارة إلى أنّ الله تعالى سوف يسلبهم التوفيق والهداية، لأنّهم أقدموا على الرياء والمنّة والأذى بأقدامهم، واختاروا طريق الكفر باختيارهم، ومثل هذا الشخص لا يليق بالهداية، وبذلك وضع القرآن الكريم الإنفاق مع الرياء والمنّة والأذى في عرض واحد.

 

مثال رائع آخر

في الآية التالية نقرأ مثالاً جميلاً آخر يقع في النقطة المقابلة لهذه الطائفة من المنفقين، وهؤلاء هم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بدافع من الإيمان والإخلاص فتقول الآية: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾.

 

تصوّر هذه الآية مزرعة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة تستقبل لنسيم الطلق وأشعة الشمس الوافرة والمطر الكثير النافع،وإذا لم يهطل المطر ينزل الطلّ وهو المطر الخفيف وذرّات الهباب ليحافظ على طراوة المزرعة ولطافتها، فتكون النتيجة أنّ مزرعة كهذه تعطي ضعف ما تعطي المزارع الأخرى، فهذه الأرض فضلاً عن كونها خصبة بحيث يكفيها الطلّ والمطر الخفيف ناهيك عن المطر الغزير لأيناع حاصلها، وفضلاً عن كونها تستفيد كثيراً من الهواء الطلق وأشعة الشمس وتلفت الأنظار لجمالها، فإنّها لوقوعها على مرتفع تكون في مأمن من السيول.

 

فالآية الشريفة تريد أن تقول: إنّ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله لتمكّن الإيمان واليقين في قلوبهم وأرواحهم هم أشبه بتلك المزرعة ذات الحاصل الوافر المفيد والثمين.

 

وفي ختام الآية تقول: ﴿وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فهو سبحانه يعلم ما إذا كان الدافع على هذا الإنفاق إلهيّاً مقترناً بالمحبّة والاحترام، أو للرياء المشفوع بالمنّة والأذى.

 

بحوث

1- إنّ عبارة ﴿لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى﴾ تفيد بأنّ بعض الأعمال يمكن أن تبدّد نتائج بعض الأعمال الحسنة، وهذا هو الإحباط الذي مرّ شرحه في ذيل الآية 217 من هذه السورة.

 

2- إنّ تشبيه العمل مع الرياء بالصخرة التي خطّتها قشرة ناعمة من التراب تشبيهٌ دقيقٌ جدّاً لأنّ المرائي له باطن خشن ومجدب فيحاول تغطيته بمظهر حسن وجميل، وهو حبّ الخير والإحسان للنّاس، فأعماله غير متجذّرة في وجوده وروحه وليس لها أساس عاطفيّ ثابت فما أسرع ما ينقشع هذا الحجاب بسبب الأحداث والوقائع في الحياة فيظهر باطنهم بذلك.

 

3- جملة ﴿ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ﴾ تبيّن دوافع الإنفاق الإلهي السليم، وهما دافعان: ابتغاء مرضاة الله، وتقوية روح الإيمان والاطمئنان في القلب.

 

هذه الآية تقول إنّ المنفقين الحقيقيّين هم الذين يكون دافعهم رضا الله وتربية الفضائل الإنسانية وتثبيتها في قلوبهم، وإزالة الاضطراب والقلق اللذين يحصلان في نفس المرء بإزاء مسؤوليته نحو المحرومين. وعليه فإنّ «من» في الآية تعني «في» أي في نفوسهم.

 

4- وجملة ﴿وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ المذكورة في آخر الآية الثانية تحذير إلى جميع الذين يريدون القيام بعمل صالح كي يأخذوا حذرهم لئلاّ يخالط عملهم ونيّتهم وأسلوب عملهم أي تلوّث، لأنّ الله يراقب أعمالهم.

 


1- سورة البقرة / 264-265.

2- صفوان: جمع مفرده صفوانة، وتعني الصخرة الصافية. والوبل: هو المطر الشديد الكبير والصلد: بمعنى الحجر الأملس. وضعف: تثنية الضعف ولكنه لا يعني أربع مرّات بل مرّتين مثل زوجين التي تعني طرفين، تأمّل بدقّة.