نوحٌ يدعو على قومه بالضلال!!

المسألة:

ما معنى: ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلَالًا﴾(1)؟ أهو دعاء بالضلال؟ أم أنَّ للآية معنىً آخر خفي (آية متشابهة)؟ أليس جديرًا بنا كمسلمين أن ندعو للظالمين بالهداية إلى سواء السبيل وترك سمة الظلم بدلاً من الدعاء عليهم بزيادة ضلالهم عمّا هم عليه في الأصل؟ تكرّرت هذه الآية في الكثير من (الأدعية) وخصوصًا تلك القرآنيّة، ما حملني على الاستغراب!

الجواب:

المصحِّح لاستعمال لفظ الضلال:

هذه الفقرة من دعاء نوح (ع) على قومه وقعت منه بعد أن دعاهم إلى الله عزّ وجلّ ألف سنة إلاّ خمسين عامًا، وكان منشأ دعائه عليهم هو ما أفاده تعالى في صدر الآية الشريفة ﴿وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلَالًا﴾ يعني أنّ منشأ الدعاء عليهم هو أنّهم لم يكتفوا بضلال أنفسهم بل أضلّوا كثيرًا من الناس، وليس المراد من الدعاء عليهم بالضلال هو المقابل للهداية بل المراد منه الدعاءُ عليهم بمجازاتهم بالعذاب على كفرهم وفسقهم.

فالمراد من الضلال المدعو به عليهم هو العذاب، ومنشأ استعمال لفظ الضلال بدلاً من العذاب أو شبهه هو ما يُعبَّر عنه في علم البديع بالمشاكلة والمزواجة في الكلام، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(2) وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾(3) ففي الآيتين أسند القرآنُ المكر والخداع لله تعالى رغم أنَّ الله جلَّ وعلا منزَّهٌ عن المكر والخديعة، فهو إنَّما أراد من ذلك مجازاتهم على المكر والخديعة، وإنَّما عبَّر عن المجازاه بذلك للمشاكلة والمزاوجة في الكلام، فلأنَّه تعالى وصف فعلهم بالمكر والخداع لذلك ناسَب أنْ يصف مجازاتهم بجنس فعلِهم للتعبير عن خيبة مسعاهم وأنَّهم سيقعون فيما منه حاذروا، وأنَّ محاذرتهم لن تُجديهم نفعًا.

وكذلك هو الحال في قوله: ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا﴾(4) فإنَّ الضلال المقابل للهداية لا يصدر عن الله جلَّ وعلا وانَّما يصدر عنه الجزاء على الضلال لذلك ناسبَ وصف جزائهم بالضلال، وللتعبير أيضًا عن انَّ ما كانوا يتوَّهمونه منجيًا لهم من العذاب ومنشأً لسعادتهم ومِنعتهم سوف يكون هو السبب لتعاستهم وعذابهم.

فهم كانوا يعبدون يغوثَ ويعوق ونسرا وغيرها من الأصنام بتوهُّم انَّ ذلك هو ما سيُقرِّبهم من الله زلفى وهو مصدر سعادتهم ومِنعتهم، وكانوا كلَّما دعاهم نوح (ع) الى التوحيد واجهوا دعوته بتحريض أتباعهم على عدم ترك عبادتهم للاصنام، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا / وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا﴾(5).

الخلاصة:

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا﴾(6) هو الدعاءُ عليهم بمجازاتهم على إضلالهم بالخيبة في مسعاهم، فقد كان مسعاهم فيما يعبدون السعادةَ والمِنعةَ والنجاةَ فدعا عليهم أنْ يخيِّب الله مسعاهم ويُهلكهم.

فالدعاء بالضلال دعاءٌ بالعذاب والهلاك وهو في ذات الوقت يستبطن الإشارة الى أنَّ ذلك هو حصاد ضلالهم الذي كانوا عليه، فكأنَّ العذاب الذي سيقعُ عليهم هو عينه الضلال الذي كانوا عليه، فيكون ذلك من تسمية الشيء باسم سببه أي تسمية العذاب باسم الضلال باعتبار أنَّ الضلال كان هو سبب العذاب.

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- سورة نوح / 24.

2- سورة النمل / 50.

3- سورة النساء / 142.

4- سورة نوح / 24.

5- سورة نوح / 23-24.

6- سورة نوح / 24.