انحراف ثمود قوم صالح (ع) -2

4- المعجزة:

اتهمت ثمود صالح (عليه السلام) بأنه من المسحرين! وطالبوه بآية إن كان من الصادقين.

 

وكان بعثه فيهم وهو غلام آية ولكنهم لم يتدبروها، ولقد طالبوه بإظهار العلامات كما ذكر المسعودي: ليمنعوه من دعائهم. وليعجزوه عن خطابهم(1) .. وكان صالح (عليه السلام) قد حضر جمعا لهم. فسألوه أن يأتيهم بمعجزة تجانس أملاكهم، وذلك بعد اتفاق آرائهم. وكان القوم أصحاب إبل.

 

وتقدم زعيم القوم وقال له: يا صالح إن كنت صادقا في قولك، وأنك معبر عن ربك، فاظهر لنا من هذه الصخرة ناقة (وكانت صخرة صماء عينوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر، يقال لها الكاتبة(2) وكانوا يعظمونها ويذبحون عندها في رأس كل سنة)(3) ولتكن هذه الناقة: وبراء، سوداء، عشراء، نتوجا حالكة، صافية اللون، ذا عرف وناصية وشعر ووبر(4).

 

كان القوم لهم سبعون صنما يعبدونها من دون الله، وحول كل صنم جماهيره تهتف: يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا من هذه الصخرة الناقة التي سألنا. لقد سأل الجبابرة معجزة من جنس ما يملكون وهتفت الجماهير هتاف الصخر الذي فيه يعملون. فقال لهم صالح (عليه السلام): "لقد سألتموني شيئا يعظم علي ويهون على ربي سبحانه وتعالى"(5) وعندئذ أوحى إليه الله تعالى: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ / وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ﴾(6) لقد أوحى سبحانه إليه بأنه سيرسل على طريق الإعجاز الناقة التي سألوها، امتحانا لهم، وأمره أن يصبر على أذاهم، وأن يخبرهم بعد إرسال الناقة. أن الماء مقسوم بين الناقة وبين القوم، لكل منهما نصيب من الشرب يحضر عنده صاحبه، فالقوم يحضرون عند شربهم والناقة عند شربها(7) وفي يوم عيد القوم، وقف صالح (عليه السلام) أمام الصخرة يستغيث بربه، فتحركت الصخرة وتململت، وبدا منها حنين وأنين، ثم انصدعت من بعد تمخض شديد، كتمخض المرأة حين الولادة. وظهر منها ناقة على ما طلبوا من الصفة، ثم تلاها من الصخرة سقب لها (ولد الناقة) مثلها في الوصف(8) وفي رواية ابن كثير "ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها كما سألوا"(9).

 

لقد خرجت الناقة بمشيئة الله، أوجدها سبحانه كخلق آدم وحواء من غير أب ولا أم .. أوجدها تعالى تأييدا لصالح وتصديقا لدعوته، وآية من مبرئ الأكوان وموجد الزمان والمكان، لتدل على وحدانيته سبحانه، وعندما خرجت الناقة وولدها من الصخرة آمن خلق كثير(10) وقال صالح (عليه السلام): ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ / وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾(11).

 

قال المفسرون: دعاهم أولا أن يعبدوا الله، وكانوا مشركين يعبدون الأصنام، وأخبرهم أنه قد جاءتهم من ربهم شاهد قاطع في شهادته، وهي الناقة التي أخرجها الله لهم من الصخرة. آية لنبوته بدعائه (عليه السلام) لربه، ثم أمرهم أن يتركوها تأكل من أرض الله، وحذرهم أن يمنعوها أو يمسوها بسوء كالعقر والنحر، فإن وبال ذلك عذاب أليم يأخذهم، ثم دعاهم إلى أن يوجهوا طاقاتهم التوجيه الصحيح، بأن يذكروا نعم الله عليهم، وذكرهم أن الله تعالى جعلهم خلفاء يخلفون أمما من قبلهم كعاد، وأن الله تعالى هو الذي مكنهم في منازلهم وكما أنه هو الذي أخرج لهم الناقة من بطن الصخرة فإنه تعالى هو الذي أعطاهم القوة ليتخذوا من السهول قصورا وينحتون من الجبال بيوتا. وهذا يدعوهم إلى ذكر آلاء الله فيهم، ولا يعثوا في الأرض مفسدين كان هذا توجيه صالح (عليه السلام) لهم، بعد أن أخرج الله الناقة من الصخرة الصماء، بين دهشة القوم، وتهليل وتكبير صالح عليه السلام والذين آمنوا معه.

 

5- مواجهات بين الحق والباطل:

بعد معجزة الناقة آمن الناس، وتوارى بعض من الملأ الذين أصروا على الاستكبار وراء جدر النفاق أو جدر الصخر. بعد أن كبر عليهم أن يصبحوا من رعايا الصراط المستقيم وتحت قيادة صالح عليه السلام الذي يصغرهم في السن ولا يمتلك ما يمتلكوه من مال وجموع، والاستكبار في كل زمان ومكان لا يرضى إلا بما يشبع نفسه الأمارة بالسوء وأهواءه التي استنقعت في الدنس، الاستكبار هو الاستكبار من يوم أن رفض الشيطان أن يسجد لآدم وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، كان الاستكبار في ثمود يتنفس برئة آباء معسكر الانحراف ولا يجد لنفسه وجودا إلا في هذا المعسكر، لذلك كان يعز عليهم أن يروا صالحا عليه السلام، وهو يحطم عقيدة وثقافة خيام الشذوذ والانحراف.

 

ولأن حياتهم فيما يحطمه صالح (عليه السلام)، فإنهم خاضوا العديد من المواجهات معه، منها ما حمل لافتات الترغيب وعرض المناصب القيادية، ومنها ما حمل لافتات التحقير والتشاؤم من الذين آمنوا، ومنها ما حمل الخناجر والسيوف لقتل صالح وقتل الناقة، وكان لكل لافتة زمان ورجال، فالزمن الذي عاصر معجزة الناقة أو سمع عنها كان المستكبرون يرفعون لافتة الصد المناسبة له، والزمن الذي لم ير ولكنه سمع كان له لافتة تناسبه، وفي جميع الأزمنة لم تخل الدائرة حول صالح (عليه السلام) من المؤمنين به وبرسالته.

 

1- الترغيب بدائرة الضوء:

بعد أن امتص المجتمع معجزة الناقة، رأى جبابرة ثمود أن وجود المستضعفين حول صالح (عليه السلام) فيه خطر عليهم، فعلموا من أجل امتصاص الدعوة، بمعنى أن يدخلوها تحت عباءاتهم حتى إذا خرجت لا تحطم طرقهم، وكان سبيلهم من أجل تحقيق ذلك هو التلويح بالمنصب الرفيع في ثمود لصالح إذا ترك آلهتهم وشأنها، وقد رويت أحاديث عديدة في محاولات ثمود هذه.

 

وفي كتاب الله تعالى إشارات تدل على عمليات التلويح بالمنصب. يقول تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ / قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ / قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ / وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾(12).

 

لقد بدأ حديثه ودعوته بقوله: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ وفي هذا تحطيم للأرباب والآلهة التي اتخذوها من دون الله.

 

ومنهج صالح (عليه السلام) في هذا لا يتبدل ولا يتغير، ثم ذكرهم بعد ذلك بنشأتهم من الأرض.

 

وبين لهم أن الله الذي أنشأهم من الأرض استخلفهم فيها، وعلى هذا فإنهم لا يفتقرون في وجودهم وبقائهم إلا إليه تعالى. لأنه تعالى هو الذي أنشأ وهو الذي استخلف، وبما أنه تعالى هو الذي يجب عليهم أن يعبدوه ويتركوا غيره، لأنه تعالى خالقهم والمدبر لأمر حياتهم، فيجب عليهم أن يسألوه أن يغفر لهم معصيتهم التي اقترفوها بعبادة غيره وأن يرجعوا إليه بالإيمان به وعبادته إنه تعالى قريب مجيب.

 

هذا معنى ما قاله صالح (عليه السلام). فماذا قال له رؤوس القوم الذين يحافظون على الانحراف؟ ﴿قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا﴾ والمعنى: أن ثمود كانت ترجو منك أن تكون من أفرادها الصالحين. تنفع بخدماتك مجتمعهم .. لما كانت تشاهد فيك من أمارات الرشد والكمال(13) كنا نرجوك في عقلك(14) ولكن هذا الرجاء قد خاب(15) لقد يئسوا منك، وسبب يأسهم منك اليوم أنك تنهاهم من إقامة سنة من سنن دولتهم، وتمحو أظهر مظاهر قوميتهم ﴿أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ كيف وإن اتخاذ الأوثان من سنن هذا المجتمع المقدسة، واستمرار إقامة السنن المقدسة من المجتمع دليل على أنهم ذوو أصل عريق ثابت. ووحدة قومية لها استقامة في الرأي والإرادة(16) ويقول صاحب الميزان: وقوله تعالى: ﴿أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ يدل على معنى العبادة المستمرة وذلك لاتصال عبادة الأبناء بعبادة الآباء.

 

عندما قالوا لصالح (عليه السلام): لقد كان لنا رجاء فيك، وكنت مرجوا فينا لعلمك ولعقلك ولصدقك ولحسن تدبيرك. عندما قالوا هذا كانوا يلوحون بالمنصب في حقيقة الأمر. وعندما لوحوا بالمنصب عرضوا مطالبهم عندما قالوا: فكل شئ يا صالح إلا هذا، وما كنا نتوقع أن تقولها. فيا لخيبة الرجاء فيك(17) وأمام الترغيب بالمنصب لوحوا بقبضتهم الحديدية في حالة رفض مطالبهم عندما أخبروه أنهم في شك مما يدعوهم إليه شك يجعلهم يرتابون فيه وفيما يقول: ﴿وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾.

 

وهكذا عرضت ثمود مطالبها. لقد أرادت الأصنام رمز وحدتها القومية، فوضعت ما أرادت على سهم حديدي، مقدمته رجاء إن أصاب هدفه تمت لهم السيطرة على الدعوة، وإلا فثقافة التشكيك في مؤخرة السهم الحديدي من شأنها أن تقضي على الدعوة وتعود بالقطيع إلى غابات الآباء.

 

أمام ثمود وقف صالح (عليه السلام) يرى معالم الضياع على وجوه القوم، هو يدعوهم إلى الطهارة وهم يعملون من أجل إقامة سنن دولتهم، وهو قد حذرهم من قبل أن لا يمسوا الناقة بسوء، وبايعوه على ذلك وها هو يرى علامات النكث ترى بين طيات فقه التشكيك الذي لوحوا به، فقال لهم ردا على ما أثاروه: ﴿يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِير﴾(18).

 

والمعنى: أخبروني. إن كنت مؤيدا بآية معجزة تنبئ عن صحة دعوتي. وأعطاني الله الرسالة وأمرني تبليغ رسالته. فمن ينجيني من الله ويدفع عني إن أطعتكم فيما تسألون ووافقتكم فيما تريدونه مني، وما يريدوه مني هو ترك الدعوة(19). إن حرصكم من أجل أن أترك الدعوة وأرجع إليكم لا يزيدني إلا خسارة. إن اللحوق بكم فيه غضب لله وحرماني شرف الرسالة وخزي في الدنيا وعذاب في الآخرة وهذا كله خسارة بعد خسارة.

 

فطريقكم لا شئ فيه إلا التخسير. وبعد أن رفض (عليه السلام) أطروحاتهم، وضع قضية الناقة أمام عيونهم، لأن رفضه لمطالبهم سيترتب عليه صد عن السبيل وهذا الصد إذا اقترب من ناقة الله فستكون الكارثة بالنسبة لهم، فقال لهم: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾(20) أخبرهم بوضوح شديد، أن الناقة تأكل في أرض الله محررة، وحذرهم أن يمسوها بسوء، بجرح، أو قتل أو حتى ضرب وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك أخذهم عذاب قريب معجل، وبرفضه (عليه السلام) لعرضهم احترقت ورقة الاستكبار التي رغب بها صالح (عليه السلام) للدخول في دائرة الضوء الثامودي.

 

2- حملات التشكيك:

قبل ظهور معجزة الناقة آمن بصالح (عليه السلام) أصحاب القلوب الصافية والعقول السليمة، وهؤلاء في الغالب من المستضعفين. آمنوا بمجرد أن دعا صالح إلى الله تعالى، كما هو الحال مع سائر الأنبياء والرسل، أما رؤساء القوم وشيوخهم فكانوا في شك من نبوة صالح (عليه السلام) ورسالته وصدقه في كل ما يدعيه وبعد معجزة الناقة وخروجها من الصخرة حسب طلبهم وبعد اتفاقهم على ذلك، آمنت منهم جموع كثيرة، ودخلوا في دائرة الاستبصار. ولكن الحال لم يستمر على هذا طويلا. فظهور الناقة أمامهم يوم شربها أصبح عادة كما أن العديد منهم ضاق ذرعا بالناقة نظرا لأن دوابهم كانت تخاف منها وتفر من طريقها رغم أن الناقة لا تؤذيها. ومع طول الأمد بدأ الاغواء الشيطاني وإغواء النفس الأمارة بالسوء، وتحرك الاستكبار من وراء الجدر ومن داخل الساحات العامة، وتحرك الملحدين الجفاة الغلاظ، وجروا معهم ضعاف الإيمان وجماهير الغوغاء أهل الطيش الهمج الرعاع أتباع كل ناعق يعمل لهم رغيفا.

 

كان يعيش على أرض ثمود من رأى معجزة خروج الناقة وسمع الوصية بها، ومن لم ير خروجها ولكنه سمع عنه وعن الوصية، ومن آمن بصالح (عليه السلام) سواء رأى المعجزة أو لم يرها. وبالإضافة إلى هؤلاء كان على أرض ثمود عمالقة الانحراف ومديري أجهزة الصد عن سبيل الله، ومن هذه الفئات جميعا تكون حزبين، أو فريقين: فريق مؤمن، وفريق استحب العمى على الهدى، وقام الفريق الثاني فريق الكفر باقتحام الساحة بشذوذه معلنا حملات التشكيك في رسالة صالح (عليه السلام) والناقة أمام عيونهم في الطرقات.

 

وبدأ معسكر الباطل في العدوان يقول تعالى في تحركهم: ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ / قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾(21).

 

لقد وقف الاستكبار أمام رقعة الاستضعاف. ووجه حديثه إلى الذين آمنوا بصالح. كي تصل رسالة الاستكبار بطريق غير مباشر إلى جموع المستضعفين في ثمود، وكانوا في الغالب الأعم يلجأون إلى صالح ويسمعون منه، ولقد دل سبحانه بيان قوله: ﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ بقوله: ﴿لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ على أن المستضعفين هم المؤمنون، وأن المؤمنين إنما كانوا من المستضعفين، ولم يكن يؤمن به أحد من المستكبرين(22) فأمام رقعة الاستضعاف وقف الذين استكبروا وطرحوا على المستضعفين سؤالا (أتعلمون أن صالحا مرسلا من ربه؟) إنه سؤال التشكيك بعد أن طال الأمد إلى حد ما وأصبحت معجزة الناقة تخضع للتراث، إن شاؤوا أضافوا إليه أساطير التشويه، وإن شاؤوا تركوه على حاله ولتفعل الأموال ما تريد فإن لم يكن فالسياط، وأمام السؤال كان الجواب قالوا: ﴿إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ إنه جواب الثقة بالنفس. جواب من لا يخاف التهديد والتخويف. لقد أعلنوا الإيمان بما أرسل به، وما أرسل به لا يخضع لأساطير التشويه لأنهم على يقين من أمرهم. ولا يهتز أمام السخرية والاستنكار، لأنه راسخ في أعماق الفطرة وأعماق الوجود، ولا يخاف من سياسات التجويع والتخويف، لأن من عرف الحق لا يجوع ومن تمسك بالصبر لا يخاف.

 

وأمام هذا المشهد ألقى الاستكبار بورقته التي تحمل شهوة الملك ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ لم تعد القضية قضية الناقة، لقد كفروا بالصراط المستقيم وفقهه وبأنبياء الله ورسله، وتمرغوا لأصنامهم ولأهوائهم في التراب، بعد أن كبر عليهم أن يصبحوا من رعايا الصراط المستقيم تحت قيادة صالح (عليه السلام)، الذي كان في منتهى الحزن من أجلهم لأنهم قومه وقبيلته وعشيرته، ولو أطاعوا ربهم لأصبحوا أحباءه.

 

وبعد المفاصلة بين الإيمان والكفر، بدأ أسلوب العصي الغليظة، وفي عالم العصي الغليظة تصبح الرحمة شذوذا. وبدأ أسلوب التشهير والتجريح والتحقير، وتحت ثقافة من هذا النوع تفقد الإنسانية إنسانيتها! لأنها فقدت غايتها، وبدأ فريق الاستكبار يقوم بتوسيع دائرة تشكيكه. ولم يجد هذا الفريق ورقة يلعب بها غير ورقة التشاؤم، فأظهروا ضيقهم بصالح وبالذين معه، تحت عنوان أنهم يرونهم شؤما عليهم، ويتوقعون الشر من ورائهم. يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ / قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ / قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾(23).

 

يقول المفسرون: لقد طرح صالح (عليه السلام) دعوته في حقيقة واحدة ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ فكانت النتيجة ظهور فريقان. فريق مؤمن وفريق كافر(24) فأما الفريق الكافر فلقد استثمر مشاكله التي جاءت نتيجة لأفعاله في الصد عن سبيل الله، وذلك عندما دعاهم صالح (عليه السلام) بأن يستغفروا الله لعله سبحانه أن يرحمهم. فقالوا له: ﴿اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ﴾ (أي ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيرا) لقد تشاءمنا بك وبمن معك ممن آمن بك، وبما أن قيامك بالدعوة وإيمانهم بك، قارن ما ابتلينا به من المحن والبلايا! فلن نؤمن بك ولن نستغفر(25)!

 

إنهم يشككون في صالح وأتباعه مستغلين أوضاعهم الاقتصادية في هذا التشكيك. أي يستثمرون مشاكلهم في الصد عن سبيل الله، طامعين أن يعود عليهم هذا الاستثمار بالنصر المظفر على صالح (عليه السلام) والذين آمنوا معه ﴿أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ﴾ إن منطق التشكيك باستثمار المشاكل منطق غير سليم لأنه بالنسبة لثمود وهي أول من دق وتده في المسيرة البشرية، يستند على قاعدة غير سليمة، وهي قاعدة التشاؤم، فالتطير والتشاؤم مأخوذ من عادات الأقوام الجاهلية التي تجري وراء الخرافات والأوهام، ولقد كانوا يتشاءمون كثيرا بالطير، ولذا سموا التشاؤم تطيرا. إنهم ليشككوا في الدعوة قالوا: (ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيرا)! إن هذا منطق أصحاب الجيوب المنتفخة والعقول المنتفخة. وأمام منطقهم العاجز الذي نبت في تيه الوهم والخرافة.

 

وقف صالح (عليه السلام). ليردهم إلى نور اليقين وإلى الحقيقة الواضحة، البعيدة عن الضباب والظلام "قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون" والمعنى: (طائركم الذي فيه نصيبكم من الشر عند الله، وهو كتاب أعمالكم، ولست أنا ومن معي ذوي أثر فيكم حتى نسوق إليكم هذه الابتلاءات، بل أنتم قوم تختبرون بهذه الأمور ليمتاز مؤمنكم من كافركم ومطيعكم من عاصيكم)(26).

 

وأمام منطق صالح (عليه السلام) وحججه الدامغة! بدأ الشيطان يقود قافلة الانحراف بعد أن دعاها ولبت نداءه. وبدأت القافلة تخطط إلى ما هو أبعد من التشكيك، كي تحتفظ بالقومية التي شيد آباؤهم خيامها في معسكر الانحراف.

 

6- نظرات في حركة الناقة:

لقد حافظ الانحراف في كل رمز من رموزه من أيام ابن آدم الأول قاتل أخيه. واحتوت خيامه على كل ثقافة للشذوذ وللتوثين تركها كفار قوم نوح وقوم هود. ولم تحفظ ذاكرة ثمود معجزة ناقة خرجت من الصخر بلا أب وبلا أم، ونسبها الله إلى نفسه وقال: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ لقد احتفظت ذاكرتهم بكل ما يبعدهم عن الله، وأبت عقولهم إلا أن تشرب من أوعية الدنس والعار التي تحتوي على ثقافة اتباع الهوى وطول الأمل .. تلك الثقافة التي خط الشيطان خطوطها الأولى.

 

فمن ثمود من شاهد الناقة وهي تخرج من الصخرة ومن ورائها يجري ولدها، وسمع بأم أذنيه تحذير صالح (عليه السلام) من مساسها بأي سوء، ومنهم من سمع ولم يشاهد. ولكن هذا وذاك في معسكر الانحراف. لا قيمة لسمعهم ولا قيمة لأبصارهم ولا قيمة في أولادهم ولا قيمة في أموالهم، لأنهم ركبوا بما يضمرون في أنفسهم قطار الاستدراج الذي ينتهي بهم إلى محطة الاستئصال، وهناك يقطع الله تعالى دابرهم فلا ترى لهم من باقية.

 

إن أتباع الانحراف لهم آذان لا يسمعون بها ولهم عيون لا يبصرون بها ولهم قلوب لا يفقهون بها، لأنهم يستعملون حواسهم فيما لا يعود عليهم وعلى الإنسانية بالسعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة، وهم ما فقدوا مقياس الاستعمال الصحيح لحواسهم إلا بعد أن نسوا أو تعاموا عن الدليل الحق الذي يقودهم إلى الطريق الحق، ومن كانت مقدمته النسيان أو التعامي عن الحق في أول الطريق تمرغ في نهاية الطريق على أرض السراب بحثا عن الماء ولن يجد الماء! لأن المقدمة كانت تقوم على نسيان الله ومن نسي الله في أول الطريق أنساه الله نفسه على امتداد الطريق وانتهى أمره إلى الهلاك والله غني عن العالمين.

 

وثمود نست وتعامت ففقدت الدليل، والدليل يحدثها من كل جانب. يقول لهم قولا واحدا: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ﴾ ويحذرهم تحذيرا واحدا ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(27) لقد كان لوجود الناقة بينهم حكمة، ومن وراء هذه الحكمة هدف، إن الناقة كانت شيئا ماديا يروه بأم أعينهم في طرقاتهم. كانت دابة على هيئة لم يألفوها، اختار عباقرتهم وفقهاؤهم أوصافها بأنفسهم وأخرجها الله لهم من الصخرة التي عينوها أيضا بأنفسهم، وهذا في حد ذاته دعوة للتدبر على امتداد أجيال ثمود، وإذا كانت الناقة وهيئتها هي الجزء المادي من المعجزة! فإن أفعالها هي الشطر الثاني من المعجزة وأفعال الناقة كانت حجة على الجميع من الطفل الرضيع وحتى الشيخ الفاني. كانت حجة على الذي رأى وسمع والذي لم ير ولم يسمع من ثمود.

 

وكما أن الناقة بهيئتها معجزة تقود إلى الله الحق فإن أفعال الناقة كانت أيضا معجزة تقود إلى الله الحق، وبما أن طريق الله الحق يبينه لثمود صالح (عليه السلام)! فإن معجزة الناقة المادية والفعلية هدفها أن تقف ثمود منصتة إلى الرسول الحق الذي يدلهم إلى الطريق الحق.

 

لقد كان عمل الناقة الوحيد أن تشرب يوما ولا يحضر شربها غيرها، وأن يشرب القوم يوما ولا يحضر شربهم غيرهم. وكانت الناقة إذا كان يوم شربها خرجت بلونها البهي الجذاب لكونها حمراء شقراء وبراء، وسارت في الطرقات بجسمها العظيم الضخم الذي تمتاز به عن غيرها من سائر نوق الدنيا، وتوجهت إلى الماء فتشرب حتى إنها لم تبق لهم شيئا من الماء يوم شربها. كما كانت تتوجه إلى المرعى فتأكل ما تشاء ولا يجوز لأحد منعها ومعارضتها، ثم تعود إلى حيث تبيت دون أن تضر أحدا في نفسه أو زرعه وشجره. تعود كما خرجت وهي في جميع تحركاتها لا تحتاج إلى حارس ولا سائس، وكانت سائر الدواب تخاف منها عندما تراها خارجة للذهاب إلى الماء والمرعى أو عائدة إلى ديارها، كانت سائر الدواب تخاف منها وتفر من طريقها وهي لا تؤذيها كما روي(28) أما في يوم شرب القوم فإنها لا تقرب الماء يوم شربهم ولا تزاحمهم، هكذا من نفسها، لأن واقع أمرها لا يدركه إلا الذي خلقها وسواها. وكانت عندما تعود لمبيتها يحلبونها، فلا يبقى في بلدتهم صغير ولا كبير إلا شرب من لبنها في ذلك اليوم. هكذا جرت عليهم الأيام. يشربون لبن الناقة في اليوم الذي لا يشربون فيه الماء. ولا تأخذ الناقة منهم شيئا في اليوم الذي لا يحق لها أن تشرب من الماء.

 

إن فقدان الماء في يوم وخاصة في عالم الصحراء. وبالأخص في عالم ثمود الذي يقوم فيه العمال والجنود بنحت الصخور. يكون أمرا شاقا على مستوى الفرد وعلى مستوى الدولة التي تريد أن تنفذ خطتها وفق أطروحة الآمال الطويلة، وهو أمر شاق أيضا على سير التجارة وانتقال القوافل من هنا إلى هناك، لأن نقطة بدء الرحلة يتحدد يومها وفقا للقسمة بين الناقة وبين القوم. كي تتزود القوافل بالماء اللازم في اليوم المحدد لها. هذا إذا توفر لها الماء فعلا، نظرا لأن الناقة في يومها كانت إما تشربه جميعا أو تشرب معظمه، وليس الماء فقط بل نبات المراعي أيضا الذي تتزود منه القوافل ليكون زادا لدوابهم. باختصار كان في فقدان الماء ليوم واحد فقط خطورة عظيمة تهدد أركان ثمود، وبما أن الماء في يد القدرة الإلهية فكان أمام ثمود حلا واحدا لا بديل له. وهو الإيمان بالله وعبادته وفقا لهذا الإيمان. وخطوط هذه العبادة تكمن في طاعتهم لصالح (عليه السلام) لأن طاعته من طاعة الله.

 

وثمود عندما كانوا في دائرة الاستبصار بعد خروج الناقة من الصخرة، كانت الناقة لا تشرب من الماء إلا قليلا، وكلما ابتعدت ثمود عن دائرة الاستبصار، كلما شربت الناقة، من الماء بقدر ابتعادهم، حتى جاء اليوم الذي انهار فيه اقتصادهم. وتشاءموا من صالح (عليه السلام). لقد كانوا يبتعدون. والناقة بأفعالها تدعوهم إلى دائرة الاستبصار. وصالح (عليه السلام) بأقواله وأفعاله يدعوهم إلى الهدى والطريق المستقيم يقول تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا﴾(29).

 

قال المفسرون: (مبصرة) صفة للناقة. أي تدل ثمود إلى الطريق الحق، وبأفعالها تدل على وحدانية من خلقها، وصدق رسوله الذي أجاب الله دعاؤه فيها .. فالناقة كانت مبصرة، ومعجزتها ظاهرة البينة، لقد كانت تتعامل مع الماء بحكمة فيها إعجاز تلتفت إليه ثمود، ولكن ثمود ركبت دواب استعجال السيئات، ولم ينصتوا لصوت الحكمة الذي تبثه الناقة، ولا لصوت العقل الذي يبثه صالح (عليه السلام). لقد طالبهم بأن لا يستعجلوا بالسيئة قبل الحسنة. لأن حضور السيئة يبعد عنهم الماء. وأمرهم بأن يستغفروا الله، لأن مع الاستغفار يكون الماء. وبما أن الله تعالى جعلهم خلائف من بعد عاد، فصالح (عليه السلام) لم يقل لهم إلا ما قاله هود لعاد: ﴿يَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا﴾(30) ولم يقل لهم إلا ما قاله نوع لقومه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا / يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا﴾(31) إن الناقة على الأرض مقياس للماء. ولله في خلقه شؤون. ولكن أصحاب الأدمغة الفارغة، والأحلام التافهة، لم يفقهوا حقيقة الأمر، ورفضوا الاستغفار واستثمروا أوضاعهم الاقتصادية المنهارة. التي يرجع سببها الرئيسي لكفرانهم بالنعمة ولصدهم عن سبيل الله .. استثمروها في مربعات التشكيك بصالح والذين معه، قائلين له: ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيرا! ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ / قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾(32).

 

لقد كانت الناقة دعوة للتأمل والتدبر. فخلقها عظيم مهيب، وكانت دعوة للشكر، لأن على لبنها عاش القوم، وكانت دعوة للاستغفار من الذنوب. لأنها مقياس للماء على أرض ثمود صاحبة الأعلام والجنود، كانت الناقة إشارة للذين يحفرون الصخور طلبا للخلود. إشارة تقول إذا كان هناك قوم قد أهلكوا بالطوفان! فليس بالضرورة أن يكون هلاك آخرين به. وقد يكون الهلاك في عدم وجود ماء. ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ﴾(33) إن ذاكرة ثمود لم تع الحدث العظيم، لأنها استنقعت في أبوال إبل آباء معسكر الانحراف، وعندما تناسوا أو تعاموا عن الحدث وحكمته ابتعدوا عن دائرة الاستبصار، واقتربوا من دوائر الفتن، التي يجري على الهالك فيها قانون الاستدراج وهو قانون يضرب كل مفتون وكل جبار يرفض التوبة والاستغفار. لقد كانت الناقة علما بذاتها. علما يحمل لهم الخير. خيرا يدخل في أجوافهم.

 

وخيرا يدخل عقولهم لو تدبروا. وكانت الناقة جدارا يحميهم من الفتن لأنها تردهم إلى صالح. لأنهم إذا سقطوا في الفتن بلا دليل. فلا أمل في نجاتهم.

 

وصالح (عليه السلام) حذرهم من الفتن التي ليس فيها دليل يقود حين قال لهم: ﴿طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾(34) إن النجاة في عالم الفتنة لا تكون إلا لأصحاب البصائر الذين يعلمون أن طائرهم عند الله، ولأنهم يبدأون طريقهم من الله! فإنهم على امتداد الطريق تكون همتهم بالله وشغلهم فيه وفرارهم إليه، وثمود قامت بحملات الترغيب والترهيب والتشكيك من أجل الصد عن سبيل الله، وقال الذين استكبروا للذين آمنوا: ﴿َتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ / قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾(35) وثمود لم يسمعوا للدليل الذي بعثه الله فيهم ليقودهم إلى الطريق المستقيم. لم يسمعوا له حين قال لهم: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ / وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ / الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾(36) ولقد عصوا الله وأطاعوا أمر المسرفين لأن معهم مصالحهم وفي أوعيتهم أهواءهم. وعندما عصوا الله ورسوله ولم يتدبروا في معجزة الناقة كفرت ثمود. وفي عالم الكفر والظلام.

 

ركبت ثمود دواب المسرفين كي يصلوا بها إلى خيمة الآباء العتيقة في معسكر الشذوذ والانحراف، وبينما هم في رحلة الانحراف اتخذت ثمود أخطر قراراتها.

 

ألا وهو قرار قتل الناقة! الناقة التي تساعدهم كي يستغفروا، وتساعدهم كي لا يقعوا في بحور الفتن، وتدفعهم دفعا في اتجاه المبعوث فيهم. وبقرار ثمود قتل الناقة، يكونون قد دخلوا في حرب مع الله، لأن على الناقة تحذير، وهذا التحذير نقله إليهم صالح (عليه السلام): ﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾(37) ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ / وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾(38). لقد كانت الناقة لهم امتحان كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ﴾(39) فإذا كانت الناقة امتحان فإن الخروج عليها جريمة. ولما كانت الناقة لها علاقة بالماء والنبات والزمان! فإن الخروج عليها في حقيقة الأمر خروج على النظام الكوني الذي ترتبط أجزاؤه بعضها ببعض.

 

وعلى هذا يكون قرار ثمود جريمة ما بعدها جريمة. وما أكثر الجرائم التي ارتكبت في عالم الفتن وظن أصحابها أنها إنما وقعت على أرضية لا يفسد فيها للود قضية، هذا ظنهم ولكن الحقيقة أن هذه الجرائم من جنس الجريمة التي في ملف ثمود ويترتب عليها بصورة أو بأخرى ما أصاب ثمود.

 

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- مروج الذهب ج2 / ص47.

2- ابن كثير ص228.

3- الميزان ج10 / ص315.

4- مروج الذهب ج2/ ص47.

5- الأنبياء -العاملي- ص105.

6- سورة القمر / 27-28.

7- الميزان ص19.

8- مروج الذهب ج2 / ص47.

9- ابن كثير ج2 / ص228.

10- مروج الذهب ج2 / ص47، ابن كثير ج2 / ص228.

11- سورة الأعراف / 73-74.

12- سورة هود / 61-64.

13- الميزان ج10 / ص312.

14- ابن كثير ج2 / ص451.

15- في ظلال القرآن ج2 / ص1907.

16- الميزان ج10 / ص312.

17- في ظلال القرآن ج2 / ص1907.

18- سورة هود / 63.

19- الميزان ج10 / ص313.

20- سورة هود / 64.

21- سورة الأعراف / 75-76.

22- الميزان: 182 / 8.

23- سورة النمل / 45-47.

24- ابن كثير ج3 / ص367، البغوي ج6 / ص290.

25- الميزان ج15 / ص373.

26- الميزان ج15 / ص373.

27- سورة الأعراف / 73.

28- ابن كثير ج2 / ص228.

29- سورة الإسراء / 59.

30- سورة هود / 52.

31- سورة نوح / 10-11.

32- سورة النمل / 46-47.

33- سورة الملك / 30.

34- سورة النمل / 47.

35- سورة الأعراف / 75-76.

36- سورة الشعراء / 150-152.

37- سورة هود / 64.

38- سورة الشعراء / 155-156.

39- سورة القمر / 27.