انحرافات قوم شعيب (ع) -1

﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء﴾(1)

 

الأيكة ولهيب تحت الظلال

إنحراف الكيل والميزان

 

مقدمة:

تقع قرية مدين في طريق الشام من الجزيرة(2) ورأس قبيلة مدين هو مدين بن إبراهيم خليل الله (عليه السلام)(3). وكان أهل القرية وما حولها منعمين بالخصب ورخص الأسعار والرفاهية، فشاع الفساد بينهم برفع الأسعار والتطفيف بنقص المكيال والميزان، وكان القوم يعبدون الأصنام، فبعث الله تعالى إليهم شعيبا (عليه السلام) وأمره أن ينهاهم عن عبادة الأصنام وعن الفساد في الأرض ونقص المكيال والميزان. وشعيب تأتي قصته مع قومه في كتاب الله بعد قصة لوط. وكان لسانه ولسان قومه عربيا. والله تعالى لم يبعث من العرب إلا خمسة أنبياء هم: هود، وصالح، وإسماعيل، وشعيب ومحمد (صلى الله عليهم أجمعين) ولبث شعيب في قومه مائتين واثنين وأربعين سنة، اشتهر فيها بينهم بالعلم والحكمة والصدق والأمانة، وعندما دعاهم إلى ما أمر الله به وذكرهم بما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط، لم يزدهم ذلك إلا طغيانا وكفرا وفسوقا ولم يؤمن به إلا فئة قليلة، ورماه قومه بالسحر وبالكذب، وأخافوه بالرجم، وهددوه بالإخراج من قريتهم!

 

وروي: "أن الله تعالى ما بعث نبيا مرتين إلا شعيبا. مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحة. ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة"(4) وروى ابن عساكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا النبي (عليه السلام)"(5) وروى البغوي أن شعيبا أرسل مرتين(6) وروي في جوامع الجامع: "أن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة"(7).

 

وقال بعضهم إن مدين والأيكة أمة واحدة، وأن شعيبا لم يرسله الله إلا مرة واحدة، ولم يقدموا حديثا واحدا يثبت ما يقولون، وإنما اعتمدوا على أن شعيبا وعظ هؤلاء وهؤلاء بوفاء المكيال والميزان فدل ذلك على أنهما أمة واحدة، وما ذهب إليه أصحاب هذا القول لا يلازم الحقيقة، لأن الأيكة كانت بالقرب من مدين وكانت مشهورة بترفها الزائد نظرا لأنها كثيرة المياه والأهوار والأشجار والحدائق الملتفة. والأيكة هي على ما قيل شجر ملتف كالغيضة، وكان يسكنها طائفة من كبار التجار. أما مدين فكانت تمتاز بكثافة سكانية. وكان لأصحابها حظ من الترف ولكنه لا يقاس بترف أصحاب الأيكة .. ويمكن القول بأن الأيكة كانت قمة للترف ينساب الترف عبر قنواتها ليغذي مدين. وأصحاب الأيكة أهلكوا بعذاب الظلة أما أهل مدين فأهلكوا بالرجفة وهناك فرق بين الذين يهلكون تحت سحاب ظلة يحمل حرا ونارا، وبين الذين يأتي عليهم الصباح وقد ضربتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. كما أصبح أهل ثمود في ديارهم جاثمين من قبل. إن شعيبا (عليه السلام) بعد أن دمر الله مدين توجه إلى أصحاب الأيكة فوعظهم بمثل ما وعظ به أهل مدين لأن الجميع كانوا على رقعة تجارية واحدة عامودها الفقري: الجشع والطمع والإفساد في الأرض، وشعيب عندما بعثه الله إلى مدين قال سبحانه: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ أما عندما بعثه الله إلى أصحاب الأيكة الغيضة الملتف شجرها، كان أجنبيا عنهم، ولذلك قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ﴾ ولم يقل: أخوهم شعيب بخلاف هود وصالح فقد كانا نسيبين إلى قومهما. وكذا لوط فقد كان نسيبا إلى قومه بالمصاهرة ولذا عبر عنهم سبحانه بقوله: ﴿أَخُوهُمْ هُودٌ﴾ ﴿أَخُوهُمْ صَالِحٌ﴾ ﴿أَخُوهُمْ لُوطٌ﴾.

 

وتضارب الأقوال في أن شعيبا كان له قوم به أو قوم واحد، لا يغير النتيجة عند التأمل، فالنتيجة واحدة هنا وهناك وتحمل قولا واحدا هو أن الله تعالى أهلك الذين بعث فيهم شعيب ودمرهم بسبب تمردهم على الله وعلى رسوله وتكذيبهم له. وشعيب (عليه السلام) واجه تجار الجشع والطمع على أرض مدين والأيكة بمعارف وعلوم وأدب رفيع وأقام عليهم الحجة في أتم ما يكون، وكان (عليه السلام) في زمرة الرسل المكرمين. وقد أشركه الله فيمن أثناهم به من الثناء الجميل في كتابه. وقصص شعيب. ذكر الله تعالى طرفا منها في كتابه الكريم في سور: الأعراف، هود، الشعراء، القصص، العنكبوت وكان شعيب (عليه السلام) معاصرا لموسى (عليه السلام). وقد زوجه إحدى ابنتيه على أن يأجره موسى ثمان حجج وإن أتم عشرا فمن عنده، فخدمه موسى عشر سنين، ثم ودعه، وسار بأهله إلى مصر.

 

1- من خيام الانحراف:

فطر الله تعالى الإنسان على فطرة تهديه إلى الحق، ولأن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة في الأرض فإنه تعالى فطره على الاجتماع، فطره على أن تكون حياته في مجتمع. لهذا قام الإنسان في البداية بتأسيس المجتمع المنزلي أولا ثم اتسع عالم الاجتماع الإنساني شيئا فشيئا حتى صار مجتمعا مدنيا تقوم عليه حضارات واسعة.

 

والإنسان في خطوته الأولى زوده الله تعالى بالحرية، فله أن يختار جانب الفعل وله أن يختار جانب الترك، فأي فعل يقف عليه له مطلق العنان في أن يختار جانب الفعل. وله أن يختار جانب الترك، وإلى جانب هذه الحرية.

 

فإن للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرق الحياة ويعمل بما شاء من العمل. وليس لأحد من بني نوعه أن يستعلي عليه فيستعبده ويمتلك إرادته وعمله ويحمله على ما يكرهه فهذه الحرية ضمن عجينة الفطرة التي فطر الله الناس عليها. كي يقيم الإنسان المجتمع على الأرض.

 

والإنسان على الأرض أحاطه الله سبحانه بعلل وأسباب كونية تحيط به من جميع الجهات، لا حرية له أمامها، والإنسان أمام هذه العلل والأسباب الكونية لا يأخذ إلا ما أذنت فيه هذه العلل والأسباب، وليس كل ما أحبه الإنسان وأراده بواقع، ولا هو في كل ما اختاره لنفسه بموفق له، ولكي يستقر المجتمع الذي شيده الإنسان على الأرض، لا بد وأن يستقيم مع خط هذه العلل والأسباب حتى لا يحدث التصادم، والاستقامة مع خط العلل لا يكون إلا بالخضوع التام لخالق العلل والأسباب وخالق الإنسان والأرض، وخالق العلل والأسباب التي تحيط بالإنسان من جميع الجهات ولا حرية له أمامها لأنها تملكه وتحيط به. هو الله تعالى. فهو سبحانه الحاكم على الإطلاق والمطاع من غير قيد وشرط.

 

والله تعالى كما ذكرنا فطر الإنسان على الاجتماع، فالإنسان مدني بطبعه، وما دام هناك مجتمع فلا بد أن يكون هناك قانون، لأن المجتمع لا يقوم له صلب دون أن يجري فيه سنن وقوانين يتسلمها الأفراد، فأفراد بلا قانون لا يقيمون مجتمعا، وعدم إقامة المجتمع يكون خروجا عن الفطرة، لأن الفطرة تدعو لإقامة مجتمع إنساني يكون الإنسان فيه خليفة في الأرض، وإذا حدث وأقيم مجتمع ما على قانون يستند على أهواء أفراده. فإن هذا أيضا يكون خروجا عن الفطرة، لأن الأفراد الذين يضعون القانون لا حرية لهم أمام العلل والأسباب الكونية التي تحيط بهم من جميع الجهات. فكيف يضع العاجز قانونا يحمي به الأفراد في حين أنه لا يملك حماية نفسه إن الاجتماع لا يتم إلا بقانون من أخذ به نزلت عليه بركات من السماء ومن خرج عليه أحاطت به النكبات والمعيشة الضنك من كل الاتجاهات.

 

والاجتماع لا يتم من الفرد إلا بإعطائه للأفراد المتعاونين له حقوقا متقابلة محترمة عنده، ليعطوه بإزائها حقوقا يحترمونها، وذلك بأن يعمل للناس كما يعملون له، وينفعهم بمقدار ما ينتفع بهم، والاجتماع لا يتم إلا بوضع حدود وعلامات، فليس للإنسان أن ينطلق ويسترسل في العمل على حساب الآخرين، وليس له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، بل هو حر فيما لا يزاحم حرية الآخرين(8) بهذا وبغيره يقوم المجتمع. ولا يوجد قانون ينظم العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان وبين الإنسان والطبيعة من جهة أخرى إلا قانون خالق الإنسان والطبيعة سبحانه وتعالى.

 

وشعيب (عليه السلام) بعث في قوم يعملون كأحرار. كان منهم من يعمل بالزراعة، فيتعامل مع الحبوب معاملة اللص. يبذرها في أرض الله. ليس من أجل أن يفيض الخير ويعم الناس الرخاء، ولكن من أجل أن يسرع الخطى إلى مزيد من المال ليشيد بها أصنام الهوى داخل نفسه. وكان منهم من يعمل بالتجارة فيتعاملوا مع الثمار معاملة قطاع الطرق الذين لا يخشون من اللصوص في أي موقع كانوا، فهم يسرقون وفي نفس الوقت في جيوبهم دليل براءتهم. ومجتمع مثل هذا لا يتاجر إلا في القوت، ومتاجرته هذه لا تشيع إلا الفساد .. لا يمكن بحال أن يكون مجتمعا مستقيما مع فطرة الكون. ولكن يعود هذا المجتمع إلى رحاب الفطرة التي تدعو لإقامة مجتمع لا يفعل فيه الإنسان ما يشاء ويحكم ما يريد.

 

بث شعيب (عليه السلام) دعوته في عالم عبد الأصنام ونقص الكيل والميزان فأفسد في الأرض.

 

يقول صاحب الميزان: إن الاجتماع المدني الدائر بين أفراد النوع الإنساني مبني على المبادلة حقيقة، فما من مواصلة ومرابطة بين فردين من أفراد النوع، إلا وفيه إعطاء وأخذ، فلا يزال المجتمعون يتعاونون في شؤون حياتهم، يفيد فيه الواحد غيره ليستفيد منه ما يماثله أو يزيد عليه، ويدفع إليه نفعا ليجذب منه إلى نفسه نفعا، وهو المعاملة والمبادلة، ومن أظهر مصاديق هذه المبادلة: المعاملات المالية، وخاصة في الأمتعة التي لها حجم أو وزن مما يكتال به أو يوزن، فإن ذلك من أقدم ما تنبه الإنسان لوجوب إجراء سنة المبادلة فيه.

 

فالمعاملات المالية وخاصة البيع والشراء من أركان حياة الإنسان الاجتماعية، فالإنسان يقدر ما يحتاج إليه في حياته الضرورية بالكيل أو الوزن، وما يجب عليه أن يبذله في مقابلة من الثمن. ثم يسير في حياته بانيا لها على هذا التقدير والتدبير، فإذا خانه الذي يعامله ونقص المكيال والميزان من حيث لا يشعر هو، يكون بذلك قد أفسد تدبيره وأبطل تقديره، ويختل بذلك نظام معيشته من الجهتين معا.

 

من جهة ما يقتنيه من لوازم الحياة بالاشتراء. ومن جهة ما يبذله من الثمن الزائد الذي يتعب نفسه في تحصيله بالاكتساب. فيسلب بهذا إصابة النظر وحسن التدبير في حياته. ويتخبط في حياته خبط العشواء وهو الفساد، وإذا شاع ذلك في مجتمع. فقد شاع الفساد فيما بينهم. ولم يلبثوا دون أن يسلبوا الوثوق والاطمئنان واعتماد بعضهم على بعض. ويرتحل بذلك الأمن العام من بينهم وهو النكبة الشاملة التي تحيط بالصالح والطالح والمطفف والذي يوفي المكيال والميزان على حد سواء. ويصبح بذلك اجتماعهم اجتماعا على المكر وإفساد الحياة، لا اجتماعا على التعاون لسعادتها قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(9).

 

فشعيب (عليه السلام) جاء لقوم احترفوا الفساد، وركبوا التجارة وساروا بها في اتجاه النكبة الشاملة التي تحيط بالصالح والطالح، وذلك لأن جشعهم امتد إلى غد الإنسان. فهم سرقوه في يومه، والذي سرق منه جزء يقيم صلبه، ولكي يسترده لا بد له من أن يضاعف من عمله كي يأتي بالثمن، وعندما يذهب ليشتري ما يقيم صلبه، يدفعه أهل الطمع والجشع والاحتكار إلى يوم آخر يتعب فيه ليس من أجل نفسه ولكن من أجلهم، ومع اللهب يأتي الفساد ويسود الاضطراب وترفع أعلام العسف والطغيان، وتفقد الإنسانية إنسانيتها، وشعيب (عليه السلام) جاء إليهم بمشعل الهدى الذي به يقيمون المجتمع الصالح الذي يعرف الإنسان فيه ما له وما عليه، وبين لهم أن القضية لم تكن يوما من أجل أن يمتلك هذا أو ذاك المال الوفير، لأن العلل والأسباب في كون الله لا تسمح لأحد من إنقاذ ثروته إذا جاء أمر الله.

 

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- سورة هود / 87.

2- الميزان ج10 / ص377.

3- مروج الذهب ج2 / ص161.

4- تفسير ابن كثير وقال فيه إسحاق بن بشر وهو ضعيف ج3 / ص345.

5- المصدر السابق وقال غريب وفي رفعه نظر ج3 / ص345.

6- الميزان ج15 / ص313.

7- الميزان ج10 / ص371.

8- المصدر السابق ج10 / ص365.

9- سورة الإسراء / 35.