انحرافات قوم شعيب (ع) -2

2- مواجهة الانحراف:

يقول تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ / وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ / بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾(1).

 

قال المفسرون: يقول تعالى ولقد أرسلنا إلى مدين، وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون بين الحجاز والشام. قريبا من معان. بلاد تعرف بهم يقال لها مدين. فأرسل الله إليهم شعيبا وكان من أشرفهم نسبا ولهذا قال: "أخاهم شعيبا"(2) فأمرهم شعيب (عليه السلام) بعبادة الله وحده لا شريك له ناهيا لهم عن الأوثان التي افتروها واختلقوا لها أسماء الآلهة. ثم خصص نقص المكيال والميزان من بين معاصيهم بالذكر، دلالة على شيوعه بينهم وإقبالهم عليه، وإفراطهم فيه. بحيث ظهر فساده وبان سئ أثره. فأوجب ذلك شدة اهتمام به من داعي الحق. فدعاهم إلى تركه بتخصيصه بالذكر من بين المعاصي. ثم قال لهم: ﴿إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ﴾ أي أشاهدكم في خير. وهو ما أنعم الله تعالى عليكم من المال، وسعة الرزق والرخص والخصب. فلا حاجة لكم إلى نقص المكيال والميزان، واختلاس القليل اليسير من أشياء الناس. طمعا في ذلك من غير سبيله المشروع وظلما وعتوا، وعلى هذا فقوله: ﴿إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ﴾ تعليل لقوله: ﴿وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾.

 

ويمكن تعميم الخير. بأن يراد به، أنكم مشمولون لعناية الله، معنيون بنعمه، آتاكم عقلا ورشدا ورزقكم رزقا، فلا مسوغ لأن تعبدوا الآلهة من دونه وتشركوا به غيره. وأن تفسدوا في الأرض بنقص المكيال والميزان، وعلى هذا يكون تعليلا لما تقدمه من قوله: ﴿­اعْبُدُواْ اللّهَ﴾ إلخ وقوله: ﴿وَلاَ تَنقُصُواْ﴾ إلخ. فمحصل قوله: ﴿إِنِّيَ أَرَاكُم﴾ إلى آخر الآية: أن هناك رادعين يجب أن يردعاكم عن معصية الله:

 

أحدهما: أنكم في خير ولا حاجة لكم إلى بخس أموال الناس من غير سبيل حلها.

 

وثانيهما: أن وراء مخالفة أمر الله يوما محيطا يخاف عذابه، ومعنى كون اليوم -وهو يوم العذاب- محيطا .. أنه لا مخرج منه ولا مفر ولا ملاذ من دون الله، فلا يدفع فيه ناصر ولا معين، ولا ينفع فيه توبة(3)، وبعد أن أنار عليه السلام لهم الطريق بمشعل الهداية، قال: ﴿َيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾ لقد دعاهم أولا في صدر حديثه إلى الصلاح بالنهي عن نقص المكيال والميزان، ثم عاد ثانيا فأمر بإيفاء المكيال والميزان ونهى عن بخس الناس أشياءهم، إشارة إلى أن مجرد التحرز عن نقص المكيال والميزان لا يكفي في إعطاء هذا الأمر حقه (وإنما نهى عنه أولا: لتكون معرفة إجمالية. هي كالمقدمة لمعرفة التكليف تفصيلا) بل يجب أن يوفي الكائل والوازن مكياله وميزانه، ويعطياهما حقهما ولا يبخسا ولا ينقصا الأشياء المنسوبة إلى الناس بالمعاملة، حتى يعلما أنهما أديا إلى الناس أشياءهم. وردا إليهم مالهم على ما هو عليه(4).

 

ثم نهاهم (عليه السلام) عن الفساد في الأرض. ثم قال: ﴿بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾ والبقية بمعنى الباقي.

 

والمراد به الربح الحاصل للبائع، وهو الذي يبقى له بعد تمام المعاملة والمعنى: أن الربح الذي هو بقية. هداكم الله إليه من طريق فطرتكم. هو خير لكم من المال الذي تقتنونه من طريق التطفيف. ونقص المكيال والميزان إن كنتم مؤمنين، فإن المؤمن إنما ينتفع من المال المشروع الذي ساقه الله إليه من طريق حله، وأما غير ذلك مما لا يرتضيه الله ولا يرتضيه الناس، بحسب فطرتهم. فلا خير له فيه ولا حاجة له إليه.

 

وبعد أن قال لهم إن كنتم مؤمنين علمتم صحة قولي، إن بقية الله خير لكم، قال: ﴿وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾ أي: وما يرجع إلى قدرتي شئ مما عندكم من نفس أو عمل أو طاعة أو رزق أو نعمة، فإنما أنا رسول ليس عليه إلا البلاغ، لكم أن تختاروا ما فيه رشدكم وخيركم، أو تسقطوا في مهبط الهلكة من غير أن أقدر على جلب خير لكم. أو دفع شر منكم(5) فهو كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾(6).

 

هكذا تحدث نبي الله شعيب (عليه السلام)، هكذا دعا قومه إلى طريق الصواب، وبين لهم العديد من حقائق المعارف التي غفلوا عنها، فماذا كان رد قومه؟ لقد كان ردهم هو رد اللصوص في كل زمان ومكان. رد الذين تخصصوا في سلب كل فرع وكل غصن وكل زهرة وكل ورقة وكل عشب في أرض الله الواسعة، ليبيعوها إلى الناس ليسلبوا منهم كل قرش وكل حبة عرق وكل نفس، ليحل الشقاء بأي إنسان ولتظل جيوبهم منتفخة وبطونهم منتفخة وعقولهم أيضا ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾(7) قال في الميزان: مغزى مرادهم: إنا في حرية فيما نختاره لأنفسنا من دين، أو نتصرف به في أموالنا، ولست تأمرنا بكل ما أحببت، أو تنهانا عن كل ما كرهت. فإن ساءك شئ مما تشاهد منا بما تصلي وتتقرب إلى ربك. وأردت أن تأمر وتنهى. فلا تتعد نفسك. لأنك لا تملك إلا إياها.. وقد أدوا مرادهم هذا في صورة مشوبة بالتهكم واللوم معا، ومسبوكة في قالب الاستفهام الإنكاري وهو: إن الذي تريده منا من ترك عبادة الأصنام. وترك ما شئنا من التصرف في أموالنا. هو الذي بعثتك إليه صلاتك. ولست تملكنا أنت ولا صلاتك. لأننا أحرار في شعورنا لإرادتنا، لنا أن نختار أي دين شئنا، ونتصرف في أموالنا أي تصرف أردنا من غير حجر ولا منع، ولم ننتحل إلا ديننا، الذي هو دين آبائنا. ولم نتصرف إلا في أموالنا. ولا حجر على ذي مال في ماله. فما معنى أن تأمرك إياك صلاتك بشئ، ونكون نحن الممتثلون لما أمرتك به؟ وبعبارة أخرى: ما معنى أن تأمرك صلاتك بفعلنا القائم بنا دونك؟ فهل هذا إلا سفها في الرأي؟ وإنك لأنت الرشيد والحليم. لا يعجل في زجر من يراه مسيئا. وانتقام من يراه مجرما. حتى ينجلي له وجه الصواب. والرشيد لا يقدم على أمر فيه غي وضلال فكيف أقدمت على مثل هذا الأمر السفهي. الذي لا صورة له إلا الجهالة والغي؟

 

وقد ظهر بهذا البيان:

أولا: أنهم إنما نسبوا الأمر إلى الصلاة. لما فيها من البعث والدعوة إلى معارضة القوم في عبادتهم الأصنام ونقصهم المكيال والميزان.

 

وهذا هو السر في تعبيرهم عن ذلك بقولهم: ﴿أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ﴾ دون أن يقولوا: أصلاتك تنهاك أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ مع أن التعبير عن المنع بالنهي عن الفعل أقرب إلى الطبع من التعبير بالأمر بالترك، ولذلك عبر عنه شعيب بالنهي فيما بعد في جوابه عن قولهم إذ قال: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ ولم يقل: إلى ما آمركم بتركه، والمراد على أي حال: منعه إياهم عن عبادة الأصنام والتطفيف. فافهم ذلك.

 

ثانيا: أنهم إنما قالوا: ﴿أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ دون أن يقولوا: أن نترك آلهتنا، أو أن نترك الأوثان. ليشيروا بذلك إلى الحجة في ذلك. وهي أن هذه الأصنام. دام على عبادتها آباؤنا، فهي سنة قومية لنا، ولا خير في الجري على سنة قومية. ورثها الخلف من السلف. ونشأ عليها الجيل بعد الجيل. فإنا نعبد آلهتنا وندوم على ديننا. وهو دين آبائنا. ونحفظ رسما مليا عن الضيعة.

 

ثالثا: أنهم إنما قالوا: ﴿أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا﴾ فذكروا الأموال مضافة إلى أنفسهم. ليكون في ذلك إيماء إلى الحجة. فإن الشئ إذا صار مالا لأحد، لم يشك ذو ريب في أن له أن يتصرف فيه، وليس لغيره ممن يعترف بماليته له، أن يعارضه في ذلك، وللمرء أن يسير في مسير الحياة، ويتدبر في أمر المعيشة، بما يستطيعه من الحذق والاحتيال، ويهديه إليه الذكاء والكياسة.

 

رابعا: إن قولهم: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ مبني على التهكم والاستهزاء. إلا أن التهكم في تعليقهم أمر الصلاة شعيبا على تركهم ما يعبد آباؤهم. وكذا في نسبة الأمر إلى الصلاة لا غير، وأما نسبة الحلم والرشد إليه. فليس فيه تهكم. ولذلك أكد قوله: ﴿إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ بإن واللام وإتيان الخبر جملة اسمية، ليكون أقوى في إثبات الحلم والرشد له، فيصير أبلغ في ملامته والإنكار عليه. وأن الذي لا شك في حلمه ورشده، قبيح عليه أن يقدم على مثل هذا الأمر السفهي. وينتهض على سلب حرية الناس واستقلالهم في الشعور والإرادة(8).

 

كان هذا بيان التجار وأعوانهم والمستكبرين وأشياعهم: بيان رفض الصلاة، وتمسك بعبادة الآباء ونسب الأموال إلى أنفسهم باعتبارهم أحرارا لهم الحق المطلق في اختيار الدين الذي يرون وفي تدبير أمور معيشتهم كما يريدون.

 

فماذا كان رد شعيب (عليه السلام) على هذا البيان؟ لقد دفع إليهم في حاضرهم ببينة ربه التي تثبت صدق رسالته، ثم دفع ذاكرتهم إلى الوراء حيث قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط. لقد وضعهم بين البينة وبين العقاب لعلهم يعيدوا التفكير على أسس صحيحة. ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ / وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ / وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾(9).

 

قال المفسرون: المراد بكونه على بينة من ربه. كونه على آية بينة. وهي آية النبوة والمعجزة الدالة على صدق النبي في دعوى النبوة، والمراد بكونه رزق من الله رزقا حسنا: أن الله آتاه من لدنه وحي النبوة، المشتمل على أصول المعارف والشرائع، والمعنى: أخبروني إن كنت رسولا من الله إليكم، وخصني بوحي المعارف والشرائع وأيدني بآية بينة تدل على صدق دعواي، فهل أنا سفيه في رأيي؟ وهل ما أدعوكم إليه دعوة سفهية؟ وهل في ذلك تحكم مني عليكم أو سلب مني لحريتكم؟ فإنما هو الله المالك لكل شئ، ولستم بأحرار بالنسبة إليه، بل أنتم عباده، يأمركم بما شاء وله الحكم وإليه ترجعون(10).

 

لقد رفض بيانهم ما سمعوه من شعيب. عندما دعاهم إلى ترك عبادة الأصنام والتطفيف. بحجة أن الدعوة مخالفة لما هم عليه من الحرية التي تسوغ لهم أن يعبدوا من شاؤوا ويفعلوا في أموالهم ما شاؤوا، فبين لهم شعيب أنهم ليسوا بأحرار بالنسبة إلى الله هم عبيد. وأخبرهم: بأن الذي يدعوهم إليه ليس من قبل نفسه. حتى ينافي مسألتهم ذلك حريتهم. ويبطل به استقلالهم في الشعور والإرادة. بل هو رسول من ربهم إليهم، وله على ذلك آية بينة. والذي آتاهم به من عند الله الذي يملكهم ويملك كل شئ، وهم عباده لا حرية لهم قباله، ولا خيرة لهم فيما يريده منهم، ثم ذكر لهم أنه يريد إصلاح مجتمعهم بالعلم النافع والعمل الصالح على مقدار ما له من الاستطاعة التي يوفقه الله تعالى إليها.

 

ثم أخبرهم محذرا: احذروا أن يترتب على مخالفتكم ومعاداتكم لي عذاب مثل عذاب قوم نوح وهو الغرق، أو قوم هود وهو الريح العقيم، أو قوم صالح وهو الصيحة والرجفة ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ﴾ أي لا فصل كثير بين زمانهم وزمانكم، وكانت الفاصلة الزمانية بين القومين أقل من ثلاثة قرون، وقد كان لوط معاصرا لإبراهيم (عليهما السلام)، وشعيب معاصرا لموسى (عليهما السلام)(11) وقيل المراد نفي البعد المكاني، والإشارة إلى بلادهم الخربة، قريبة منكم لقرب مدين من سدوم، بالمعنى: وما مكان قوم لوط منكم ببعيد، تشاهدون مدائنهم المخسوفة وآثارهم الباقية الظاهرة.

 

وبعد أن أخبرهم بما أخبرهم، وحذرهم بما حذرهم، أمرهم أن يستغفروا الله من ذنوبهم وأن يرجعوا إليه بالإيمان به وبرسوله، إن الله ذو رحمة ومودة يرحم المستغفرين التائبين ويحبهم، فماذا كان ردهم على البينة التي تحتوي على صدق الرسالة وتشتمل على أصول المعارف؟ ماذا كان ردهم عندما طالبهم بأن يرجعوا بذاكرتهم إلى الماضي حيث الطوفان والريح والصيحة والحجارة؟ ماذا كان ردهم عندما طالبهم بالاستغفار والتوبة؟ لقد كان ردهم عجيبا: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾(12) يقول صاحب في ظلال القرآن: فهم ضيقوا الصدور بالحق الواضح لا يريدون أن يدركوه، وهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة، فلا وزن عندهم للحقيقة، القوية التي يحملها شعيب ويواجههم بها، وفي حسابهم عصبية العشيرة، لا عصبية الإعتقاد، وصلة الدم لا صلة القلب، ثم هم يغفلون عن غيرة الله على أوليائه فلا يضعونها في الحساب.

 

وحين تفرغ النفوس من العقيدة القومية والقيم الرفيعة والمثل العالية، فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا، فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة، ولا لحقيقة كبيرة، ولا تتحرج عن البطش بالداعية، إلا أن تكون له عصبة تؤويه، وإلا أن تكون معه قوة مادية تحميه، أما حرمة العقيدة والحق والدعوة، فلا وزن لها، ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية(13).

 

﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ قال صاحب الميزان: لما حاجهم شعيب (عليه السلام)، وأعياهم بحجته لم يجدوا سبيلا دون أن يقطعوا عليه كلامه من غير طريق الحجة فذكروا له أولا: أن كثيرا مما يقوله غير مفهوم لهم، فيذهب كلامه لغي لا أثر له، وهذا كناية عن أنه يتكلم بما لا فائدة فيه.

 

ثم عقبوه بقولهم: ﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا﴾ أي لا نفهم ما تقول، ولست قويا فينا حتى تضطرنا قوتك على الاجتهاد في فهم كلامك والاهتمام بأخذه، والسمع والقبول له، فإنا لا نراك فينا إلا ضعيفا لا يعبأ بأمره ولا يلتفت إلى قوله، ثم هددوه بقولهم: ﴿وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾ أي ولولا هذا النفر القليل، الذين هم عشيرتك لرجمناك، لكنا نراعي جانبهم فيك، وفي تقليل العشيرة إيماء إلى أنهم لو أرادوا قتله يوما قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته، وإنما كفهم عن قتله نوع احترام وتكريم منهم لعشيرته.

 

ثم عقبوه بقولهم: ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ تأكيدا لقولهم: ﴿وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾ أي لست بقوي منيع جانبا علينا، حتى يمنعنا ذلك من قتلك بشر القتل، فإنما يمنعنا رعاية جانب رهطك، فمحصل قولهم إهانة شعيب، وأنهم لا يعبأون به ولا بما قال، وإنما يراعون في ترك التعرض له جانب رهطه(14).

 

لقد قال لهم إنه على بينة من ربه، وإنه يريد إصلاحهم كي ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة، ثم ذكرهم بالأمم السابقة الذين كذبوا رسل الله وما حل بهم من عذاب، ثم دعاهم إلى الاستغفار والتوبة، فكان الرد عليه بلادة في الفهم وحجر في اليد، رفعوا الحجر أمام الكلمة، ولماذا لا يرفعون الحجر؟ إن الساحة من حولهم تعج باللصوص، والأشرار يحومون في كل مكان، والجميع على استعداد لحمل الحجارة ويلقون بها على كل من حاول أن يهدي إلى الحق، لأن الحق الذي يعرفونه هو الذي مسمره الشيطان على جسر الانحراف الذي عبروا عليه إلى عالم الصم البكم العمي الذين لا يفقهون، وعندما واجهوا شعيبا (عليه السلام) هذه المواجهة، رد (عليه السلام): ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ / وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾(15).

 

قال المفسرون: أي كيف تعززون رهطي وتحترمون جانبهم، ولا تعززون الله ولا تحترمون جانبه؟ وإني أنا الذي أدعوكم إليه من جانبه؟ فهل رهطي أعز عليكم من الله؟ وقد جعلتموه نسيا منسيا، وليس لكم ذلك، وما كان لكم أن تفعلوه. إن ربي بما تعملون محيط، بما له من الإحاطة بكل شئ، وجودا وعلما وقدرة ثم هددهم أشد التهديد: فأخبرهم بأنه على وثوق مما يقول، لا يأخذه قلق ولا اضطراب من كفرهم به وتمردهم على دعوته، فليعملوا على ما لهم من القوة والتمكن، فلهم عملهم وله عمله، فسوف يفاجئهم عذاب مخز، يعلمون عند ذلك من هو الذي يأخذه العذاب. هم أو هو؟ ويعلمون من هو كاذب؟ فليرتقبوا وهو معهم رقيب لا يفارقهم(16).

 

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- سورة هود / 84-86.

2- تفسير ابن كثير ج2 / ص455.

3- الميزان ج10 / ص362.

4- الميزان: ج10 / ص362.

5- الميزان:، ج10 / ص306.

6- سورة الأنعام / 104.

7- سورة هود / 87.

8- الميزان ج10 / ص366.

9- سورة هود / 88-90.

10- الميزان ج10 / ص367.

11- الميزان ج10 / ص373.

12- سورة هود / 91.

13- في ظلال القرآن ج4 / ص1922.

14- الميزان ج10 / ص375.

15- سورة هود / 92-93.

16- الميزان ج10 / ص375.