تفسير الآية 43 من سورة النور والآية 14 من سورة الحديد
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾(1).
﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾(2).
هذه الآيات تكملة لآية النور وكلها تبتغي غاية واحدة هي جعل كل الكائنات في العالم تستنير بنور الله وتدبر بإرادة حكيمة واحدة.
بينت الآية التي تناولنا تفسيرها في المجلس السابق أمرا عاما خافيا عن الأبصار، وذلك هو تسبيح الموجودات وحمدها لله. إلا أن هذه الآية والآية التي تليها تبيّنان لنا ظاهرتين واضحتين للعيان في العالم، ولا سيّما أن هذا التعبير ورود في آخر هذه الآيات، وهو إننا ننظر إليها بعين بصيرة نظرة اعتبار.
تتعلق إحدى هاتين الظاهرتين بالريح والسحاب والمطر والثلج أو ما يسمّيه العلماء القدماء بـ"الكائنات الجوية"، فيما تتعلق الثانية بعلم الحيوان وخلق الحيوانات. ومن الطبيعي أنّ القرآن يبتغي من وراء ذلك هدفا محددا يختلف عن الهدف الذي يسعى وراءه العام المختص بالأحياء أو بالأنواء الجوية. فالقرآن يستهدف من كلّ هذه الأمور إيضاح الجوانب المتعلّقة بالتوحيد ومعرفة الله والأبعاد المعنوية.
أتحدّث أولا بإيجاز عن الآية الأولى التي تصف الأنواء الجوي، هناك مجموعة من الأحداث التي تقع لا في الأرض ولا في السماء -بما تعنيه من حدود الشمس والقمر والنجوم- وإنّما في الجو المحيط بالأرض وتسمى بالأحداث الجوية، من قبيل تكاثف الغيوم في الجو، وحركة الريح، وهطول الأمطار، ونزول الثلج والبرد، والعواصف والأعاصير التي قد تكون أحيانا نعمة أو قد تكون بلاء، وهي على العموم أمور تتوقف عليها حياة الكائنات الحية ومنها الإنسان. فلو كان الهواء ساكنا سكونا مطلقا كالماء في حوض راكد لا يتعرض لأية هزة، هل يمكن للإنسان أن يعيش في أية نقطة من الأرض حتى وإن كانت معتدلة المناخ؟
من الواضح جدا انه لولا المطر لما كان هناك نبات أو حيوان أو إنسان. أنا لم أحصي الآيات بنفسي، لكي بعض من أحصوها يدّعون أنّ (105) آية من آيات القرآن تتحدث عن الريح والسحاب والمطر والثلج وما شابه ذلك. وقد تطور علم الأنواء الجوية تدريجيا شأنه شأن العلوم الأخرى وخاصة بعد اكتشاف الوسائل والأجهزة الحديثة التي لم تكن متوفرة في ما مضى، إذ أنّها سهلت كثيرا على العلماء فهم التغييرات التي تقع في الجو. كانت دراسة الغيوم- على سبيل المثال- عملا شاقا بالنسبة للعلماء قبل حوالي ألف سنة. وبما أنهم كانوا يلاحظون أحيانا أن الغيوم تهبط دون الجبال، كانوا يضطرون إلى صعود الجبال -يا لها من مهمة شاقة- لدراسة ورؤية الغيوم من هناك.
ذكر ابن سينا أنّه صعد مرّات عديدة إلى أماكن تكون السحب أسفل من الموضع الذي هو فيه. وتحدث في أحد كتاباته عما يتكون منه السحاب قائلا: اتضح لي كنه السحاب خلال إحدى جولاتي وتبين لي أنه يتكون أحيانا من الهواء نفسه -لأنهم قديما كانوا يعتقدون أن السحاب بخار فقط لا غير- لكن ابن سينا كان يعتقد أن الهواء نفسه يتحول إلى سحاب. وقد ثبت أن السحاب عامة عبارة عن هواء مشبع ببخار الماء. واليوم وبعد اختراع هذه الأجهزة صار بإمكانهم التحليق فوق السحاب بكل سهولة وبواسطة الطائرة العادية التي يركبها الناس وتطير بهم فوق السحب، حتى أن الإنسان ليظن إذا نظر منها أن كميات الناس وتطير بهم فوق السحب، حتى أن الإنسان ليظن إذا نظر منها أنّ كميات كبيرة من الثلج تراكمت على الأرض. وكذلك من بعد اختراع أجهزة الإذاعة كبيرة من الثلج تراكمت على الأرض وكذلك من بعد اختراع أجهزة الإذاعة والمخابرة وغيرها من الاختراعات الجديدة المفيدة في مجال الأنواء الجوية.
التعابير القرآنية في موضوع الرياح والسحاب والأمطار وما إليها، تعابير تثير الدهشة وخاصة بعد الاختراعات الجديدة في هذا المضمار، مع أن القرآن يسير في تعابيره هذه نحو الاتجاه الذي يهدف إليه. والقرآن يصب اهتمامه -في كل ما يعرضه- على موضوع التوحيد، لأجل إيجاد جسر يربط ما بين الإنسان وربه. إلا أن التعابير التي صاغها القرآن هنا تثير الدهشة والإعجاب لدى المطلعين على البحوث العلمية وخاصة في العصر الحديث، بل بدت لهم ضربا من الأعجاز.
وأؤكّد خاصة على الحضور الكرام وطلبة الجامعات على الأخص أن يطالعوا الكتاب الذي دون قبل عدة سنوات تحت عنوان "الرياح والأمطار في القرآن" ويقسم موضوع هذا الكتاب إلى بابين:
الأول عن حركة الرياح وتراكم السحب وهطول الأمطار والثلج وما شابه ذلك وفقا لآخر النظريات العلمية الحديثة.
ويأتي في الباب الثاني منه على ذكر الآيات القرآنية الخاصة بهذا الحقل الواحدة تلو الأخرى.
والحقيقة أن الإنسان إذا طالع هذا الكتاب تأخذه الدهشة والحيرة ويشعر قطعا أن معلوماته مستقاة من جهة علمية أخرى، ولا يمكن للرسول (صلى الله عليه وآله) باعتباره إنسانا أن يكون مطلعا على مثل هذه القضايا، بل إن الإنسان لم يكن على إطلاع بها حتى نصف القرن الأخير.
هناك آيتان في القرآن متشابهتان في المعنى وكأنهما آية واحدة، أو قل بينهما اختلاف ضئيل جدا. أحدهما هي هذه الآية (43) من سورة النور والتي نصها: ﴿أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾، والأخرى هي الآية (48) من سورة الروم ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾.
تقول الآية الواردة في سورة الروم: إن الله عز وجل هو الذي يرسل الرياح، وأشير هنا إلى نقطة هي أن القرآن يأتي تارة بكلمة ﴿الرِّيحَ﴾ مفردة، ويأتي بها جمعا تارة أخرى ﴿الرِّيَاحَ﴾ وبعد تقصي هذا المعنى تبين أن هذه الكلمة حيثما وردت مفردة فهي تحمل دلالة على الخراب والدمار والهلاك والعذاب. مثل قوله تعالى: ﴿أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾(3).
وحيثما أريد التبشير بالرحمة والخير تأتي الكلمة ﴿الرِّيَاحَ﴾. وقد اثبت العلم الحديث أن الرياح التي تحمل سحبا ممطرة لا تهب من جهة واحدة، بل من جهات عديدة وتتظافر سوية بهيئة خاصة فقط في الوقت التي تسبب فيه نزول الأمطار.
والأعجب من ذلك هذا المعنى الذي يستفاد من القرآن، صرح به حديث شريف، فقدر ورد في الدعاء: "اللهم اجعله لنا رياحا ولا تجعله لنا ريحا" أي حينما تهب على تلك الصورة فقط، لأنها على هذه الصورة فقط "رحمة" وحتى حينما سئل الأئمة (عليهم السلام) عن الفرق بين الريح والرياح أجابوا بنفس هذا الجواب وقالوا: متى ما كانت الريح ذات جناح واحد كانت عذابا، ومتى ما كانت الريح ذات جناح واحد كانت عذابا، ومتى ما كانت متعددة الاتجاهات كانت رحمة.
وفي حديث آخر شبه أمير المؤمنين (عليه السلام) الريح بطائرة له رأس وجناحان. وهذا التعبير نفسه استخدمه العلماء الأوربيون منذ حوالي خمسين سنة، وبينوا أن حركة الريح تسير أحيانا على هذه الصورة، ولو شاهد أحد أجنحتها ووضع حركتها لظن أن طائرا عظيما خيم على الأرض.
وبما أن القرآن يتحدث هنا عن رياح الرحمن فقد استخدم كلمة ﴿الرِّيَاحَ﴾ وأوصي هنا ثانية بمطالعة كتاب "الرياح والأمطار في القرآن" وخاصة المطلعين على العلوم الطبيعية الحديثة ولديهم القدرة على حل المعادلات.
﴿فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ الفعل " تثير" مشتق من المصدر "ثور" الذي يعني القلب والتغيير والعرب تسمي الثور ثورا لأنه يثير الأرض عن حرثها ويقلبها. وعلى هذا فإن كلمة الإثارة لا تعني التهييج فقط، بل تعني التهييج الذي ينطوي على قلب الشي. وقد ثبت أيضا أن الجو عند تراكم الغيوم تعتريه تقلبات وثورات واقعية الشيء. وقد ثبت أيضا أن الجو عند تراكم الغيوم تعتريه تقلبات وثورات واقعية وحقيقية وليست مجرد حركة عادية.
﴿فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ أي يمده كما تمد المائدة. ويقولون: أن السحاب مائدة يبسطها الله حيثما تقضي مشيئته. إلا أن السحب المبسوطة ليست منشأ للمطر. إلا بعد أن ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا﴾ أي يجمعه ويضغطه حتى يجعله في مرحلة أخرى ركاما أي متراكما.
يتضح من هذا أن الأمطار حينما تريد النزول لا بد وأن تقع سلسلة منتظمة من التغييرات في الجو، إذ لا بد أولا من وجود الريح .. ما إلى ذلك. وردت في الكثير من تعابير القرآن كلمة ﴿تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ وقد اتخذ هذا التعبير كدليل على إعجاز القرآن. لأن الإنسان يتصور حسب رؤيته الظاهرية أن الرياح تسير أفقيا، أي تتحرك باتجاه مستقيم على سطح الأرض. ولكن ثبت اليوم أن حركتها لولبية دوارة .. ويعود سبب هذه التغييرات طبعا إلى اختلاف درجة حرارة الجو من مكان إلى آخر.فالهواء الحار يكون أخف بينما البارد يكون اثقل. ويعزى أحد أسبابها إلى نور الشمس، إضافة إلى أسباب أخرى خارج المحيط الجوي. وعلى كل الأحوال تعتبر حركة الريح حركة تصريفية، أي دوارة ومتحركة.
وبعد هذا القول الآية الشريفة: ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ أي ترى قطرات المطر تخرج من بين ثناياه. هذا ما جاء في سورة الروم.
أما في آية سورة النور فقد وردت نفس تلك المعابير مع اختلاف ضئيل، فلم يأت هنا ذكر الريح، بل اكتفت الآية بالقول: ﴿أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾ أي أن الله تعالى يسوق السحاب. وينبغي هنا الالتفات إلى قضية مفادها أن كل ما ينسبه القرآن إلى الله لا يعني نفي الأسباب والوسائط، بل معناه أن الأسباب كلها تسير بإرادته. فإذا قال في موضع أنه يرسل الرياح لتسوق السحاب، أو قال في موضع آخر أنه يسوق الرياح، فلا تناقض في هذا. لأن الرياح إذا ساقت السحاب فمعنى ذلك أن الله ساقه، باعتبار أن الرياح ليست إلا سببا ووسيلة أوجدها تعالى.
﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ تطلق أحيانا على من يكتب كتابا كلمة "مؤلف" أو "مصنّف" أحيانا أخرى. بعض الكتّاب في الحقيقة مؤلّفون، أي أنّهم يجمعون مواضيع متفرّقة في مكان واحد ويجعلون بينها اتساقا وتآلفا. ولكن تستخدم كلمة المصنف في الحالات التي يكون فيها الكاتب قد ابتكر كل أو -على أدنى الاحتمالات- جلّ الكتاب.. ينقل أنّ أحد تلاميذ الشيخ المجلسي مازحه يوما وأخذ يثني أمامه على كثرة كتب ومصنفات العلامة الحلّي في مختلف العلوم والأبواب، وفي أنواع الفقه وبمختلف أوجهه المختصر منها والمفصل والاختلافات الواقعة عند الشيعة وعند السنة وما شابه ذلك مما كان مدعاة لإعجاب التلاميذ الحاضرين، فالتفت إليهم المجلسي وقال: وما كتبناه نحن لا يقل عما كتبه العلامة الحلي. فأجابه التلميذ مازحا: "ولكن بفارق أن ما كتبه كان تصنيفا وما كتبتموه كان تأليفا" إذن فالتأليف يعني جمع المسائل الموجودة سوية وإيجاد نوع من التآلف والانسجام بينها.
وقد وردت كلمة "التألف" في هذه الآية بمعنى أن الله تعالى يجمع السحب المتفرقة بواسطة الرياح، كالمؤلف الذي يؤلف بين مختلف المواضيع، ويجعل منه سحابا متراكما.. وجاء في الآية أنه ﴿يَجْعَلُهُ رُكَامًا﴾ ومرحلة الركام هذه مرحلة أعلى، أي ليست مجرد غيوم خفيفة متفرقة، بل تصبح متراكمة بعضها فوق بعض ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾، وهنا تقع نفس النتيجة التي ذكرت هناك، أي تخرج قطرات المطر من بين ثنايا تلك السحب.. ذكرت هذه الآية في سورة النور موضوعا لم يكن يحمل بالنسبة للعلماء القدماء سوى جانبا تعبّديا لا أكثر، وذلك هو: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ﴾ كلمة السماء تعنى كل ما هو فوق، وهي مشتقة من "سمو" أي العلو. وكل ما هو في الأعلى يسميه القرآن سماء بما في ذلك الشمس والنجوم، بل وحتى المطر يسمى أحيانا "سماء" وذلك قوله تعالى: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا﴾(4).
بما انه ينزل من الأعلى فهو سماء. وحتى الأمور الغيبية والملكوتية يسميها القرآن سماء لأنها من الوجهة المعنوية أعلى مقاما. ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾(5). وكل ما هو قاهر ومسلط علينا فهو سماء أيضا.
إذن يجب أن لا يقع أي وهم هنا، ففي كثير من الموارد -ومن جملة ذلك هذه الموارد الموجودة هنا- يقول القرآن نرسل من السحاب مطرا، أما هنا فيقول ننزل من السماء مطرا. والمراد من السماء هنا السحاب، والسحاب هو السماء. ﴿يُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ﴾ معناه ينزل من الأعلى. ﴿يُنَزِّلُ﴾ بمعنى يرسل تدريجيا. والفرق بين "الأنزال" و"التنزيل" هو أنّ الأول معناه الأرسال في مرة واحدة مثل ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾(6).
ويعني الثاني النزول التدريجي .. ومن الواضح أن كلمة ﴿يُنَزِّلُ﴾ استعملت هنا لأن المطر والحالوب ينزل بالتدرج .. وينزل من السماء معناه ينزل من الأعلى تدريجيا. ولكن ما معنى ﴿مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾؟ اكتشف العلماء حديثا أن الطبقات العليا من الجو حيث تتراكم الغيوم أحيانا فوق بعضها تصبح الحرارة منخفضة جدا وتتكون هناك تراكمات تشبع حقا جبلا من الثلج من ذا الذي كان يعلم بوجود مثل هذه الأمور ي تلك الطبقات الجوية العليا؟ ﴿وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ والمراد هو نزول البرد. وقد تكون ﴿مِنْ بَرَدٍ﴾ متعلقة بـ ﴿يُنَزِّلُ﴾ أي ينزل بردا من الجبال الموجودة هناك.
﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ﴾ لا يتوهم أحد أن إرادة الله نظير إرادة البشر فما أنّ يمرق السهم من القوس حتى يخرج أمره عن إرادة الرامي. وهذا يصدق على فعل البشر. أما فعل الله فلا يخرج بتاتا عن إرادته ومشيئته وسلطانه.
ثمّ يشير بعد ذلك إلى أنّه حينما يبرق البرق: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾. ويتابع القرآن هنا من خلال المعلومات التي يقدّمها والتي تتطابق تماما مع الحقائق الجوية التي بلغها علم الإنسان بعد ألف وأربعمائة سنة، هدفه الأساسي ليؤكد أن هذه كلها آيات إلهية دالة على وجود الله، وأنه تعالى هو الذي أبدع هذا النظم وجعل الكون يسير عليه، فلابد من وجود الشمس لتشع النور والحرارة، وحيثما تصل حرارتها ترتفع درجة حرارة ذلك الموضع والحرارة تؤدي إلى تمدد حجم الهواء، والهواء الحار يرتفع إلى الأعلى والبارد يبقى في الأسفل، ويضغط الهواء الحار من الأعلى على الهواء البارد، فيحاول الهواء البارد النفوذ بين ثنايا الهواء فتنتج عن ذلك رياح، وجعل ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾. ومن الطبيعي أن تعاقب الليل والنهار يجعل معدل الحرارة التي تصل إلى مختلف بقاع الأرض في حالة متغيرة، وهذا من أسباب حدود هذه الظواهر الجوية.. ولكن على كل الأحوال هذه من الأنظمة التي جعلها الله تسير وفقا لمشيئته، ولولا مشيئة الله وحكمته، لما كانت أمثال هذه القضايا تجري في الكون.
﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾(7). كلمة "التقليب" مأخوذة من المصدر "قلب" ويصطلح علماء الصرف على الكلمة التي يحصل فيها تغيير في تقديم وتأخير حروفها ويقولون حصل فيها "قلب" أو "اقلاب" وسمي القلبُ قلبا لأنه في حالة تقلّب دائم أي في حركة وخفقان متواصل. ويطلق على روح الإنسان خاصة اسم القلب لأنها تتقلب بين الحين والآخر من حال إلى حال، ومن فكر إلى فكر.
وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثلا لطيفا في هذا المجال قال فيه: "إنما مثل هذا القلب كمثل ريشة في فلاة يقلبها الريح ظهرا لبطن". أي انه يتقلّب بين مختلف الخواطر والأفكار، فمرة يحب ومرّة يكره، ومرّة في راحة ومرّة في ضيق.
الله سبحانه وتعالى: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ يذهب الليل ويأتي بالنهار، ويذهب النهار ويأتي بالليل. وهذا العملية ينتج عنها طبعا أن الكرة الأرضية تكون دوراة ذات حركة سنوية تدور في كل 365 يوما دورة واحدة حول الشمس، وتدور حركة دائرية أخرى حول ذاتها. ومثل الأرض مثل تفاحة يرميها شخص في الهواء ولكن يرميها بشكل يجعلها تدور حول ذاتها.
وبما أنّ الأرض تدور حول ذاتها فقد نتج عن هذه العملية تعاقب الليل والنهار، وكما اسلفت القول فإن العلماء يقولون: أن توالي الليل والنهار يعد من أسباب حدوث الظواهر الجوية، لأنه يؤدّي بطبيعة الحال إلى اختلاف ضغط الهواء الذي ينتهي بدوره إلى حدوث حركة الرياح، التي تقود بدورها إلى تغييرات كثيرة أخرى.
ويبدو أنّ سر ذكر القرآن لهذا الموضوع بعد الحديث عن السحب وهطول الأمطار هو الإشارة إلى تأثير تعاقب الليل والنهار في حدوث التغييرات الجوية.
فهو تعالى يقلب الليل والنهار من أجل أن تكون: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً﴾ فيه عبرة لأولي الأبصار، وكلمة "عبرة" مشتقة من "العبور" من المعروف ان النظر يقسم إلى نوعين: الأول سطحي لا يرى إلا ظواهر الأشياء، كنظر الحيوان، أو الإنسان الذي في مستوى الحيوان، هذان يلاحظان ظاهر الأمور فحسب، ولا يستنبطان ما وراءها. ولأضرب مثلا على هذا الأمر من حياتنا. فقد تحصل في الأسعار تقلبات أحيانا كأن يرتفع سعر السلعة اليوم ويرخص غدا، أو بالعكس (وأن كانت السلعة في أجوائنا إذا غلت لا ترخص بعدها أبدا) والناس عادة لا تلاحظ الأسباب الأساسية التي تؤدي إلى ارتفاع سعر السلعة أو انخفاضه، ولكن يأتي شخص ينظر الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة.
ونسوق مثلا آخر عن توجه الشبان نحو الدين أو أعراضهم عنه. فقد يكتفي البعض بالقول أن الشّبان اصبح لديهم اقبال على الدين، أو بالعكس، من غير أن ينظر الأسباب والدوافع التي حدث بهم إلى الإقبال أو الأدبار. بينما يأتي شخص آخر ويتعمق في النظر إلى العوامل التي أدت بالشباب إلى التوجه نحو الدين أو أدبارهم عنه. ومثل هذا الشخص الذي ينظر إلى الأسباب والعوامل الأساسية يكون له تسلط على الحوادث وقدرة على استنباطها.
وكذلك الحال بالنسبة للهزيمة التي تلحق بقوم أو النصر الذي يحرزه قوم آخرون، إذا لم ينظر المرء في أسباب تلك الهزيمة وعوامل هذا النصر فلا يجدي مجرد الأخبار شيئا، ولا تسقى منه الدروس والعبر. ولكنه إذا درس اسباب وعوامل كلّ من النصر والهزيمة قد يتسنّى له التسلّط على الوقائع والأحداث والتحكّم بها، فيتمكّن المهزوم أن يوفر لذاته أسباب النصر ويحوّل هزيمته تلك إلى انتصار. هذه أمثلة مبسطة وصغيرة من حياتنا.
القرآن يريد لنا أن نتأمّل في كلّ أحداث ووقائع الكون ونكتشف أسبابها وسرّها وحكمتها. وأن لا نكتفي بمجرّد القول أنّ الأمطار والثلوج في هذه السنة كانت قليلة، وفي السنة السابقة كانت أكثر، بل لا بدّ من التعمّق في النظر إلى ما فيها من حكمة. وأن لا تكون نظرتنا نظرة عابرة. يريد لنا فهم سرها، وإدراك سر الأسرار الكامن وراءها، ولنعي في آخر الأمر أنّ الكون كلّه في يد قدرة واحدة ومشيئة واحدة، وتلك القدرة هي سر الأسرار، أي أنّنا كلّما أزحنا حجابا يظهر لنا من ورائه شيئا، وإذا ما أزحناه نرى وراءه شيئا آخر، والقرآن يدعونا إلى عدم الاكتفاء بهذا، بل يأمرنا بالسير قدما لنطّلع على وجود يد مقتدرة، ومشيئة وإرادة وعلم وحكمه تدير الكون بأكمله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً ِلأَوْلِي الأَبْصَارِ﴾.
1- سورة النور / 43.
2- سورة الحديد / 14.
3- سورة الذاريات / 41.
4- سورة نوح / 11.
5- سورة الأنعام / 18.
6- سورة القدر / 1.
7- سورة النور / 44.