الوفاء بالنذر وجزاؤه الأخروي
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا / وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا / إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾(1).
تتحدث هذه الآيات الشريفة عن مسألة الوفاء بالنذر وتقوى الله وحبه، وأن المؤمن الذي يعيش أجواء الإيمان بكل تفاصيلها ودقائقها يكون كل عمله خالصًا لله تعالى وكل حياته ذوبانًا في ذاته، وأنه يصنع لنفسه زادًا ليوم مليء بالأهوال وصفته الآيات بأن شره كان مستطيرًا، أي منتشرًا في كل جهة ومكان، ولأنَّهم -أي المؤمنون- على علم ويقين بحجم هذا الأمر وأهوال القيامة فإن ذلك قد جعل عندهم حافزًا ودافعًا للعطاء والبذل والتضحية والقيام بالصالحات، وبالتالي الفوز بالمقامات العالية، ومن بين الأعمال الكفيلة بنيل الرضوان هو الإيفاء بالنذر، وهنا تكمن مسألة مهمة، وهي أن النذر هو أمر قد أوجبه الإنسان على نفسه طاعة وقربة لله تعالى، فإذا هو وفّّى بما فرضه على نفسه فإنه حتمًا يكون قد وَفَّى بما أوجبه الله عليه.
والآية الشريفة لم تكتف بالإشارة إلى الوفاء بالنذر والخوف من شر ذلك اليوم العظيم فحسب، بل وضحّت نقطة في غاية الأهمية وهي لا تحصل لأيّ إنسان، ألا وهي قصة الإيثار الذي بلغ أقصى درجاته عند من خصتهم الآية الشريفة وهم أهل بيت الرسالة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، حيث تصدقوا بما لديهم على المسكين واليتيم والأسير طاعة وقربة لله تعالى، فهم قد أوفَوا نذرهم وزادوا عليه بتصدقهم بطعام إفطارهم الذي لا يملكون غيره بحسب الروايات الواردة.
وقد نقلت كتب التفاسير قصة هذه الآية وسبب نزولها، وقد جاء في ذلك أن الحسن والحسين (عليهما السلام) قد مرضا فعادهما رسول الله ومعه أناس فقالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر علي وفاطمة وفضة وهي جارية وخادمة للزهراء (عليها السلام) إن شافاهما الله ليصوموا ثلاثة أيام، فشفيا (عليهما السلام)، ولم يكن عند المولى أمير المؤمنين (ع) شيء، فاستقرض ثلاثة أصوع -الصاع يصل إلى ثلاثة كيلوجرام تقريبًا- من شعير من شمعون اليهودي، فطحنت فاطمة (عليها السلام) في اليوم الأول صاعًا من الشعير وصنعت منه خمسة أقراص على عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا، فإذا سائل يطرق الباب فآثروه على أنفسهم ولم يفطروا إلا على الماء، ثم في اليوم الثاني صنعت الزهراء (عليها السلام) خمسة أقراص أخرى وما أن حان وقت الفطور وإذا باليتيم يطرق الباب يطلب طعامًا فآثروه وتصدقوا بطعامهم وأفطروا على الماء وواصلوا صومهم، وفي اليوم الثالث صنعت الزهراء (عليها السلام) مثل اليومين الماضيين وما أن حانت لحظة الإفطار وإذا بطارق يطرق الباب وهو الأسير الذي أشارت إليه الآية الشريفة فآثروه بطعامهم.
ولما أصبحوا أخذ علي (ع) بيد الحسن والحسين (عليهما السلام) ودخلوا على رسول الله ، فلما رآهم رق لحالهم حيث الضعف الشديد وانطلق معهم إلى بيت فاطمة (عليها السلام) وإذا هي في محرابها وقد أضعفها الجوع، وتأثر الرسول الأعظم لهذا المشهد، وإذا بجبرائيل (ع) يهبط على رسول الله ويقول له: "خذها يا محمد هنّاك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة".
وفي الآيات إشارات لطيفة منها:
1- أن الأبرار يتصفون بصفات عظيمة كالخوف من الآخرة وأهوالها ورجاء رحمة الرب ورضوانه، وأنهم كذلك يتقربون إلى الله بتحمل المسؤوليات الاجتماعية تجاه الضعفاء وأهل الحاجة بالرغم من حاجتهم الماسة.
2- الضمير في (حبه) قد يعود على الله تعالى ليؤدي معنى: أن الإطعام على حب الله تعالى خالصًا لوجهه الكريم، ولكن قربه للطعام يدل أنه يشير إلى معنى حاجتهم للطعام فعلى حبه أي على حب الطعام وحاجتهم إليه، وفي هذا المعنى تكمن مسألة الإيثار والإخلاص العظيم، فإنَّ الأبرار الكرام لا يطعمون المحتاج من فاضل الطعام، بل يطعمونه خصوص طعامهم الذي عندهم بحيث ينفقونه مع الحاجة والحب، وفي هذا أرفع مراتب التضحية والعطاء.
3- إن الإنفاق أحيانًا قد يتخذ صورة التكبر والتعالي والتسلط على الآخرين كما أنه قد يكون إنفاقَ مَنٍّ وأذى، أما إنفاق الأبرار فإنه يكون خالصًا لوجه الله تعالى غير متوقف على أجر ولا يراد منه إلا رضا الله سبحانه وتعالى وإلى ذلك أشارت الآيات الشريفة.
ومن الأعاجيب أن الفخر الرازي وهو الفيلسوف والمفسر الكبير أورد هذه القصة في معرض تفسيره للآيات الشريفة، إلا أنه أردف عليها بأنه لا يمكن تخصيص هذه الآيات بشخص واحد أو جماعة معينة كما قيل أنها في حق علي وأولاده (عليهم السلام)، واستدل على قوله بسياق الآيات الذي يخالف هذا التخصيص وإنه إذا خصص فسد نظم الآيات، بل هي عامة تشمل جميع الأبرار والأتقياء والمطيعين من الصحابة والتابعين.
إلا أنَّ قول الرازي لا يمكن قبوله وذلك لأسباب:
1- إن الذين نزلت فيهم الآيات قد تصدقوا بطعامهم لثلاثة أيام متتالية وطووا صائمين وكانوا في أشد الحاجة، وهذا أمر عظيم لا يمكن أن يصدر إلا من عظماء قد ذابوا في حب الله وليس كالذين كانوا يلمزون الرسول في الصدقات.
2- لم يتحدث التاريخ ولم ينقل عن أحد لا فرد ولا عائلة قد تصدقوا بكل ما يملكون من طعام وهم في أمس الحاجة إليه حتى ولو كان ذلك ليوم واحد، وحتى هو نفس صاحب الادعاء لم يتمكن من إثبات هذا الأمر ولم ينقل إلا قصة أهل البيت (عليهم السلام) الذين كانوا هم محور حديث الآيات، فلو كان الأمر متحققًا فعلاً لساق الأمثلة عليه ويكفي حتى مثالٌ واحدٌ.
3- إنَّ إغفال الحاجات الجسدية الطبيعية لمدة طويلة لا يمكن أن يتحقق إلا عند من تسامت عنده الروح وارتفعت في سلم الرقي إلى أعلاه بحيث لا يشعر بألم الجسد، وهذا لا يمكن أن يوجد إلا عند من وهب حياته لله تعالى وعاش ذائبًا في حبه.
وقد ضرب القرآن الكريم مثالاً واضحًا على هذه الحالة لأحد المعصومين فهو لم يختر إلا من كان أهلا، فنراه في قصة يوسف (ع) يشير إلى ذلك بقوله: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾(2).
1- سورة الإنسان / 7-9.
2- سورة يوسف / 31.