سورة قريش

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ / إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ / فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ / الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾

صدق الله العلي العظيم

 

هذه السورة المباركة، تبدأ بكلمة "لإيلاف". والجار والمجرور كما نعرف بحاجة إلى المتعلَّق! فكيف يمكن البدء بالجار والمجرور في بداية السورة دون ذكر المتعلَّق؟

 

الكثيرون من المفسرين حاولوا أن يوجدوا للجار والمجرور متعلَّقاً معنوياً، كما ورد في كثير من كتب اللغة العربية. ولكن الحقيقة أنّ هذه الكلمة ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ﴾، ترتبط بالسورة السابقة، فهي كالنتيجة لواقع الفيل، ولدفع خطر أصحاب الفيل، ومنعهم من هدم الكعبة.

 

والواقع أنّ حادثة الفيل، والقضاء على "أبرهة" وجيشه وأفياله، رفعت معنويات قريش، وخلقت لهم عزاً كبيراً، وجعلتهم في أمان داخل بلدهم. يتمكنون من العبادة والتجارة، ويستفيدون من الأمن لكي يجتذبوا عدداً كبيراً من الحجاج، فتنتعش تجارتهم وأسواقهم. بالإضافة الى أنهم عندما ارتفعت معنوياتهم وكبر شأنهم، كانوا بسهولة يتمكنون من الانتقال في أرجاء الجزيرة، فيرتحلون شتاءاً إلى اليمن وصيفاً إلى بلاد الشام؛ وبذلك انتعشت تجارتهم.

 

إذاً، حادثة الفيل خلقت لهم هذا الوضع الذي أدى إلى "الإيلاف" في رأي كثير من المفسرين. فهؤلاء يقولون إنه بعد أن حصلت واقعة الفيل، أصبح وضع قريش بشكل أفضل، وفي حالة أحسن مما مضى. إنتعشت تجارتهم، فيذكّرهم القرآن الكريم بأنّ عليهم أن يعبدوا رب هذا البيت الذي أبعد عنهم شبح الجوع والخوف. المرضان الأساسيان، والخطران الكبيران على حياة الإنسان.

 

ولكن بعض الدقة، في مفهوم السورة، تجعل الإنسان ينتقل إلى آفاق أوسع. لأنّ حادثة الفيل منعت الاعتداء واستعمار مكة، وتسلّط قوم مستعمرين على الناس في مكة. وكان ذلك تمهيداً لرسالة الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) الذي ولد في نفس العام. فعندما جاء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة، كان المطلوب من أبناء مكة، أن يكونوا حَمَلة الرسالة. فلو تم الاستعمار وسيطرة "أبرهة" والجيش الحبشي على مكة، لأذلّوا الناس، وعوّدوهم على النفاق، وأذلّوهم وجعلوهم لا يتمكنون من الإتقان في حمل الرسالة الإلهية.

 

إنّ قريشاً، رغم تعذيبهم للرسول وقسوتهم أمامه، فقد حملوا الرسالة، بعد أن آمنوا بقوة، وتمكنوا من أداء الرسالة.

 

إذاً، ربنا (سبحانه وتعالى) أرسل على المعتدين على مكة طيراً أبابيل، فجعلهم كعصف مأكول، حتى تبقى قبائل قريش، وأهل مكة في عزّهم، وإيلافهم، وقوّتهم، وعنفوانهم، فيعبدوا رب هذا البيت، ويستعدوا لتحمل الرسالة.

 

والذي يؤكد هذا الأمر أنّ النعمة التي أنعم الله بها على أهل مكة، والتي وردت في الكلمتين ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وأمنهم مِّنْ خَوْفٍ﴾، لا يمكن أن تفسر بنتيجة انتعاش التجارة، وإلاّ لما وردت كلمة ﴿أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ﴾ بل لكان ورد "أطعمهم من تجارتهم"، أو "من كدّهم"، أو "من نشاطهم". ولذلك، بعض المفسرين يحاولون أن يعتبروا كلمة "من" بمعنى "بدلاً" أي بمعنى أنّ الله أطعمهم بدلاً من جوعهم وآمنهم بدلاً من خوفهم.

 

وبإمكاننا، على ضوء ما قلنا من التفسير، أن نفهم الكلمة بشكل آخر: إنّ الغاية من واقعة الفيل، لم تكن إنعاش تجارتهم، وإنما كان إبعاد الذل عنهم وتحضيرهم للرسالة المحمدية التي جعلتهم، رغم ضعفهم ورغم خوفهم وجوعهم، أقوياء حَمَلة الرسالة الإلهية. فقد جعل رسول الله (ص) برسالته المقدسة الإلهية، جعل من خوفهم أمناً، ومن جوعهم حياة، ومن ضعفهم قوة، لأنّ وجود الرسالة، رغم الجوع والخوف، وانطلاقاً من الجوع والخوف، قوة الرسالة التي تعتمد على الفقراء، وعلى المعذبين، وعلى طالبي الخلاص، جعلهم من جوعهم يخلقون حياة وطعاماً وانتعاشاً، جعلهم يخلقون من خوفهم أمناً، ومن قوّتهم ضعفاً. وهذا أيضاً يؤكد الصورة التي اكتشفناها في هذه السورة المباركة.

 

وبعد، فإنّ الكثيرين من المفسرين والفقهاء، يعتبرون السورتين: سورة "الفيل" وسورة "الإيلاف" سورة واحدة. ولذلك يفتي بعض الفقهاء بأنّ قراءة إحدى السورتين في الصلاة لا تكفي، بل يجب على المصلي أن يقرأ السورتين معاً، كما هو الشأن في سورتي "الضحى" و"الإنشراح".

 

وعلى كل حال، فالسورتان المعجزتان تكشفان عن الحادثة التي هي تمهيد لرسالة رسول الله، والمقترنة بولادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.