الهلاك الحتمي بعد استحكام الحجج على العباد

﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾(1).

ترتبط هذه الآية الشريفة بالآيات التي سبقتها من حيث المعنى ارتباطًا وثيقًا، لأنّ في عزلها عنها يظهر فيها إشكال كبير وهو: هل إنّ الله يأمر بشيء ثم يعاقب على امتثاله؟.

وهذا الإشكال هو الذي يظهر من خلال القراءة المجردة للآية الكريمة، ولكن مع الربط الموضوعي والتدبر يتبيّن أنَّه لا وجه لهذا الإشكال نهائيًّا ولا مورديَّة له.

فالآيات في ترابطها تتحدث عن المسؤوليّة الاجتماعيّة للإنسان فردًا أو جماعةً، وما على الإنسان أن يتحمّله ويفهمه من خطورة هذه المسؤولية التي ألقيت عليه، وإنّه إذا أراد السعادة والتقدم فعليه النهوض بمسؤولياته كلها بما تحتاج من جهد وسعي وصمود وتحدي، وقد تكون هذه المتعلقات بالمسؤولية صعبة وثقيلة على النّفس، فينهار أمامها ويتخلّى عنها ويميل مع هوى النّفس وبذلك يتحمّل جزاء المخالفة.

وقد سار القرآن الكريم في معرض توضيحه لهذه المسؤوليّة على طريق التوضيح بالمثال الحسّي لعلّ الإنسان يتنبه إلى حقيقة هذه المسؤوليّة وخطورتها وأهميّتها، وذلك بعد أن بيّن له حدوده ووضّح له مساره وبيّن له تكليفه وكشف له مستقبله الّذي سيؤول إليه أمره وإنّه سيحاسب ويجازى، فضرب المثال على شواهد تاريخية من الحضارات التي كانت قائمة من بعد نوح (ع) فانظر أيّها الإنسان أين هي، كيف كانت عامرة ومتبجّحة بقوتها وكيف أصبحت، فبعضها ظلّ منها بعض من الآثار والشواهد وبعضها الآخر لم يبق منه إلا ذكر منقول فقد أبيدت بيدًا.

وبالعودة لأجواء الآية الكريمة، فالله تعالى قد تعهّد على نفسه وهو منطلق العدل الإلهي أنّه لا يعذب أحدًا حتى يصله الإنذار والتبليغ عن طريق الرسل مثلاً فيقيم عليه الحجّة فإن هو اهتدى كان فائزًا وإن عصى فقد استحقّ العقاب والجزاء.

فقال تعالى شأنه: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾(2). وذلك ليهديهم ويرشدهم وينذرهم ويبلّغهم رسالات ربّهم.

وإنّ الإهلاك لا يكون إلاّ بعد أن تتم الحجّة ويقام البرهان وتبلغ الرسالة فتنقطع كل الحجج والأعذار ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾(3).

فبعد أن تمّ الأمر والإنذار وتمادى القوم في غيّهم وفسادهم وإسرافهم هنالك حقّ عليهم القول فوقع عليهم العذاب، وهذا الجزاء باعتبار أنّ الإنسان قد عهدت إليه المسؤوليّة الاجتماعية ففرّط فيها فكان العقاب جزاء على تركه مسؤوليته.

وعلى هذا يتبيّن أنّ المراد من قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا﴾ أي إذا استحكمت الحجج على هؤلاء القوم وبلغهم الإنذار والأمر بالهداية والرشاد والاستقامة والصلاح، ولكنّهم لم يستقيموا ولم يهتدوا بل ازدادوا علوًّا واستكبارًا وفسادًا، حينها يظهر الأمر والإرادة الإلهيّة بتدمير وإهلاك هؤلاء. ففي الآية الكريمة تقديم وتأخير.

ويلاحظ أنّ الآية لم تذكر المأمور به في السياق، فبان وكأنّ الأمر هو بالفسوق والعصيان وحاشى الله أن يأمر الإنسان بالفحشاء والمنكر، بل الله هو الهادي إلى سواء السبيل إنّما الآية تقديرها: إذا أمرنا قومًا بالهداية ووصّلنا إليهم القول والموعظة والإرشاد وبلغهم الإنذار وحملناهم المسؤولية، ولم ينتهوا عن غيّهم ولم يهتدوا إلى طريق الحقّ والاستقامة بل ويزداد كبراؤهم علوًّا وفسقًا وظلمًا، حين ذاك يجري الأمر الإلهي والقضاء يمضي، فينزل بهم العذاب جزاء تخليهم عن مسؤولياتهم وإعراضهم عن الحجج والبراهين.

والآية لم تذكر المأمور به؛ لأنّه سبقت الإشارة إليه في الآية السابقة عندما أشارت أنّ لا عقاب ولا عذاب إلاّ بعد الإنذار والهداية وكيف يكون ذلك؟ يكون عن طريق الرسل والأنبياء وغير ذلك من الحجج.

وكذلك أشارت الآية الكريمة إلى مترفي القوم وهم رؤساء القوم والذين بيدهم كل المقدرات والآخرون تبعٌ لهم، فإن صلح الراعي صلحت الرعيّة والنّاس على دين ملوكهم.


1- سورة الإسراء / 16.

2- سورة الإسراء / 15.

3- سورة الأنعام / 149.