الهداية الربانية بين الأنبياء والأئمة

﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾(1).

 

لقد تمادى الكافرون في غيهم بحيث لم يكتفوا بما جاءهم من الآيات والنذر، فطلبوا المزيد من الآيات وهذا الطَّلب ليس من قبيل طلب الهداية والاطمئنان .. إنَّما هو طلب من أجل العناد والمكابرة الناتج عن الاستغراق في حالة الكفر.

 

 لذلك نجد القرآن الكريم يتحدث عنهم بعبارة ويقول الذين كفروا، ولم يشر إليهم بأنهم يطلبون الإيمان والهداية والمزيد من النور، فلقد نزلت الآيات وأوصلت إليهم فيطلبون، إلا إنهم متمادون في كفرهم وغيّهم، فهم لا يكفيهم ما عندهم من الآيات فيطلبون الزيادة عنادًا واستخفافًا ولعدم اعتقادهم بالآيات المنزلة عليهم، ولذلك قالوا ﴿لَوْلآ﴾ وهنا استخدموها بمعنى هلاّ أي للتحضيض على الطلب للمزيد من الآيات كالذي جاء به موسى وعيسى (ع).

 

ونتيجة لما أنزل من آيات وما جاء لهم من النذر، فإنهم قد أقيمت عليهم الحجة والبرهان وإن النبي (ص) ما هو إلا نذير لقومه ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ﴾ أي مرسل للإنذار كغيرك من الرسل وما عليك إلا الإتيان بما هو متعلق بنبوتك من المعجزات لا بما يقترح هؤلاء ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ أي لكل أمة وقوم هادٍ يهديهم ويتولى أمرهم ويدعوهم إلى الصواب، والسؤال من هنا: من هو الهادي للناس أو للقوم بعد رسول الله (ص)؟

 

إنَّ الهادي للقوم الذي عنته الآية الشريفة هو من يخلف رسول الله (ص) ويسد مسدَّه في التبليغ والهداية، فالخليفة الشرعي هو الذي تتوفر فيه كل صفات النبي (ص)، لأن الذي مهمته الهداية والناس مأمورون بالاقتداء به لابد وأن يكون واجدًا للكمالات الخاصة والمؤهلات التي تناسب مهمته.

 

وقد جاء في الرواية قول أمير المؤمنين (ع): فينا نزلت هذه الآية ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾، وجاء عن الرسول الأعظم (ص) قوله: "أنا المنذر وأنت الهادي يا علي، فمنا الهادي والنجاة والسعادة إلى يوم القيامة".

 

وجاء في رواية يذكرها صاحب شواهد التنزيل أبو القاسم (الحسكاني) بإسناده عن أبي بردة الأسلمي قال: "دعا رسول الله بالطهور وعنده علي بن أبي طالب (ع) فأخذ رسول الله (ص) بيد علي (ع) بعدما تطهر فألزقها بصدره ثم قال: إنما أنت منذر -يعني نفسه- ثم ردها إلى صدر علي (ع) ثم قال: ولكل قوم هاد ثم قال: إنّك منار الأنام وغاية الهدى وأمير القرى أشهد على ذلك أنّك كذلك".

 

عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع) في قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾، أنَّ رسول الله قال (ص) هو المنذر، ولكل زمان إمام منا هاد يهديهم إلى ما جاء به نبي الله (ص) ثمّ الهداة من بعده عليّ ثم الأوصياء واحدًا بعد واحد.

 

وعن عبد الرحيم القصير قال: كنت يومًا من الأيام عند أبي جعفر (ع) فقال: يا عبد الرحيم. قلت: لبيّك، قال: قول الله ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ إذ قال رسول الله (ص) أنا المنذر وعليّ الهادي، ومن الهادي اليوم؟.

 

قال: فمكثت طويلاً ثم رفعت رأسي فقلت جعلت فداك فيكم توارثونها رجل فرجل حتى انتهت إليك، فأنت جعلت فداك الهادي.

 

قال: صدقت يا عبد الرحيم، إن القرآن حيّ لا يموت والآية حية لا تموت، وقال عبد الرحيم: قال أبو عبد الله (ع): إن القرآن حي لم يمت، وإنه يجري كما يجري الليل والنّهار وكما يجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا.

 

وعن حنّان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر (ع) قال: "سمعته يقول في قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾، فقال: قال رسول الله (ص) أنا المنذر وعليّ  الهادي وكل إمام هادٍ للقرن الذي هو فيه".

 

وفي هذه الآية الشريفة والروايات وقفتان:

الأولى: تتعلق باستمرار خط الهداية والثانية تتعلق بشروط الهادي.

 

فبخصوص الأولى نلاحظ التعبير القرآني الذي يؤكد استمرارية دور الهداية وقيام الهادي في كل قوم، فبعد أن بلّغ الرسول (ص) رسالته وقام وأنذر، جاء دور الهادي للقوم والذي  نصت عليه كل الروايات وهو علي (ع) ثم من بعده الأئمة الهداة الميامين واحد بعد واحد وذلك بحسب تعبير الروايات الشريفة أن كل إمام هو هاد للقرن الذي هو فيه أي للعصر الذي هو فيه، وبما أن القرآن حي لا يموت وهو قد نطق صدقًا وحقًا أن لكل قوم هاد، فإنه من المستحيل أن يأتي زمان لا هاديَ فيه يحمل الناس على خط الهداية ويوجههم نحو الفلاح والنجاح، فمن هو الهادي للأمة بعد رحيل الأئمة صلوات الله وسلامهم عليهم، إذ لا يعقل أن تترك الأمة بلا قائد يهديها خصوصًا أن القرآن قد أكّد على هذه الحقيقة وهي أن لكل قوم هاد.

 

فتكون النتيجة أن الهادي للأمة هو الإمام المعصوم المهدي المنتظر صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه)  فالآية دالة على وجوده، وكما بشّر به الرسول الأعظم (ص) وخصوصا في قوله (ص): "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".

 

فعدم وجود الإمام (ع) يعني تحقيق الافتراق، وعدم وجوده يعني خلو الزمان من الهادي وهي خلاف النص القرآني وخلاف قول الصادق الأمين (ص).

 

أما الوقفة الثانية فهي متعلقة بشروط الهادي، إذ لا يعقل أن يترك الأمر لأي فرد أن يمارس هذا الدور، فيكون ذلك نقضًا للغرض، إذ الغرض هو الهداية، والهداية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال شخصية تتوفر فيها الصفات الكاملة لممارسة دورها ومن هذه الشروط، أن يكون عالمًا بكل تفاصيل الشريعة وما يحتاجه الناس في حياتهم، وأن يكون متبوعًا لا تابعًا، وأن يكون معصومًا.

 

فما هي العصمة؟ وما الدليل على وجوب وجودها في الهادي والنذير؟

العصمة هي حالة المصونية التي تمنع من الوقوع فيما لا يجوز من الخطأ والعصيان حتى ولو على مستوى الإخطار القلبي، وذلك لأن المعصية إنما تحدث أو تقع من شخص أو تخطر على بال أحد نتيجة لعدم العلم الكامل أو لعدم انكشاف الحقيقة له، أما المعصوم فعنده حالة انكشاف كامل للأمور وهو يعلم بكل حقائق الأمور فلا يقع في هذا الخطأ أو العصيان.

 

ومن الطبيعي أن الذي يكون هاديًا أو مبشرًا ونذيرًا، لا بد له من أن تتوفر فيه حالة المصونية الكاملة حتى يتمكن من حمل الناس على الهداية وذلك:

 

1- أنهم مختارون ومصطفون، ولا يعقل أن يتم اختيار واصطفاء من لا تتوفر فيه الأهلية.

 

2- أن الناس مأمورون بالاقتداء والتأسي بالهداة والقادة، قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾(2).

 

ولو صدرت عنهم المعصية ولو سهوًا لما جاز الاقتداء والتأسي بهم.

 

3- إن الله تعالى بعث الأنبياء بالحق وأنزل معهم الكتاب، وهذا الإنزال لا يكون إلا بالوحي وإنهم مسؤولون عن الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فلا يعقل أن الله تعالى يريد للناس الاستقامة وتحقيق العدالة عن طريق وسائل تبليغية هي تمارس الخطأ أو قابلة للخطأ، والله تعالى يريد أن يلقي الحجة ويقطع العذر فيما فيه المخالفة والمعصية، وأن لا قاطع لهذا العذر إلا الرسل والهداة، ومعلوم أن قطع الأنبياء والهداة لعذر الناس إنما يتم إذا لم يتحقق منهم ما لا يوافق إرادة الله ورضاه من قول أو فعل للخطأ والمعصية.

 

4- إن الله تعالى قد نهى عن إطاعة الآثمين والكافرين، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾(3)، فلو جاز عن النبي أو الإمام (المنذر أو الهادي) المعصية لكانا من الآثمين وحينها يلتزم اجتنابه وعدم طاعته، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ ويقول: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ﴾ فكيف؟ 

 

----------------------

1- سورة الرعد / 7.

2- سورة الأحزاب / 21.

3- سورة الإنسان / 24.