انحرافات بني إسرائيل -6

رابعا: عذاب الطمس:

إن الإنسان سيد أعماله. وبداية الضلال من الإنسان نفسه. فليس للشيطان أية سلطة على الناس. ولا يتمكن من إكراه الناس على المعصية. إن الشيطان يزن الأعمال فقط. ويدعوا الناس إلى الضلال فقط. وعندما يلبي الإنسان الدعوة. يضله الله عقابا لسوء اختياره. ومعنى إضلال الله للعبد، أن الله يقطع رحمته منه فينحرف باختياره. بني إسرائيل شهدوا أكثر من آية مع أنبيائهم. ووضعهم الله تحت ضربات الغزاة كي يتوبوا ويستغفروا. لكنهم وهم في سبي الغزاة حرفوا التوراة وشكلوا جهازا دينيا يسهر على مصالح المسيح الدجال. وواصلوا الانحراف حتى إنهم أحكموا القبضة على الأنبياء فقتلوهم.

 

وأحكموا القبضة على دعوة عيسى بعد أن رفعه الله. فربطوها بالتوراة والتوراة لا تعلم عنها شيئا. وظلت القافة تسارع بالفساد في الأرض باختيارها حتى جاءهم الإنذار الإلهي القاصم. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً﴾(1).

 

قال المفسرون: روي أن هناك من أسلم عندما سمع هذه الآية.

 

وقال: "يا رب أسلمت" مخافة أن تصيبه هذه الآية. وقيل في طمس الوجوه الكثير. فمن قائل: طمسها أن تعمى. ومن قائل: جعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى. وقيل: ترد على أدبارها أي تمنع عن الحق(2) وقال صاحب الميزان: تعرضت الآية لليهود أو طائفة منهم. فإنهم بإزاء ما خانوا الله ورسوله وأفسدوا صالح دينهم. ابتلوا بلعن من الله لحق جمعهم وسلبهم التوفيق الإيمان إلا قليلا. فعم الخطاب لجميع أهل الكتاب على ما يفيد قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ ودعاهم الله إلى الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم. وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم. لو تمردوا واستكبروا. من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه. وطمس الوجوه. محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدهم الحيوية. مما فيه سعادة الإنسان المرتقبة والمرجوة. وهذا المحو ليس هو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها. بل محو يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها. فإذا كانت الوجوه تقتصد مقاصدها على الفطرة التي فطر الله الناس عليها. فإن كانت الوجوه المطموسة لا تقصد إلا خلفته وراءها ولا تمشي إليه إلا القهقرى. وهذا الإنسان الذي يسير في غير اتجاه الفطرة. كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه أو لدنياه. لم ينل إلا شرا وفسادا. وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر وليس يفلح أبدا(3).

 

أما قوله تعالى: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ فآيات أصحاب السبت هي التي تخبر عن مسخهم قردة وقد ألقينا عليهم بعض الضوء عند حديثنا عن القرية التي أصبحت أمام أمر الله ثلاث فرق.

 

وقال المفسرون: "أو" في قوله: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ على ظاهرها من إفادة الترديد. والفرق بين عيدين: أن الأول الذي هو الطمس، يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلا في بعض كيفياتها. والثاني الذي هو اللعن كلعن أصحاب السبت.

 

يوجب تغيير المقصد. بغيير الخلقة الإنسانية إلى خلقة حيوانية كالقردة. فهؤلاء إن تمردوا عن امتثال ولم يؤمنوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان لهم إحدى سخطتين: إما طمس الوجوه. وإما اللعن. ولكن الآية تدل على أن السخطة لا تعمهم جميعا حيث قال تعالى: ﴿وُجُوهًا﴾ فأتى بالجمع المنكر.

 

ولو كان المراد الجميع لم ينكر. ولتنكير الوجوه وعدم تعيينها نكتة هي أن المقام لما كان مقام الإبعاد والتهديد، وهو إبعاد للجماعة بشر، لا يلحق إلا ببعضهم.

 

كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الإنذار والتخويف، لأن وصفهم على إبهامه، يقبل الانطباق على كل واحد من القوم، فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب. وفي قوله تعالى: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ حيث أرجع فيه ضمير (هم) الموضوع الأولي العقل إلى قوله: ﴿وُجُوهًا﴾ كما هو الظاهر تلويحا أو تصريحا. بأن المراد بالوجوه. الأشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم وبذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه وودها على أدبار تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به البعض ويقوي ذلك احتمال أن المراد من تحويل الوجوه إلى الأدبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر وإدراك الواقعيات على واقعيتها إلى حال الاعوجاج والانحطاط الفكري. بحيث لا يشاهد حقا إلا أعراض عنه واشمأز منه ولا باطلا إلا مال إليه وتولع به. هذا نوع من التصرف الإلهي. مقتا ونقمة. نظير ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾(4).

 

فتبين مما مر أن المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرف إلهي في النفوس، يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحق وتجنب الباطل، إلى اتباع الباطل والاحتراز عن الحق في باب الإيمان بالله وآياته كما يؤيده صدر الآية: ﴿آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم ..﴾ .. ومن الممكن أن يقال: إن المراد به تقليب أفئدتهم، وطمس وجوه باطنهم من الحق إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالإيمان بالله وآياته. ثم إن الدين الحق. لما كان هو الصراط المستقيم. الذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلا بركوبه والاستواء عليه. وليس للناكب عنه إلا الوقوع في كانون الفساد. والسقوط في مهابط الهلاك، كما قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾(5) وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم﴾(6) ولازم هذه الحقيقة، أن طمس الوجوه عن المعارف الحقة الدينية، طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها، فالمحروم من سعادة الدين، محروم من سعادة الدنيا. من استقرار الحال وتمهد الأمن وكل ما يطيب به العيش.

 

وآية الطمس ختمها الله بقوله: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ أي أن الأمر لا محالة واقع(7) فأمره سبحانه لا يخالف ولا يمانع(8).

 

باختصار عالم الطمس هو سير القطار بلا رجعة والله غني عن العالمين، وفي عالم الطمس لن يفلحوا أبدا حتى ولو رفعوا أعلامهم على القمر وعلى جميع صناديق النقد الدولية. عالم الطمس كلما ازداد أصحابه تقدما تأخروا لأنهم يسيرون عكس اتجاه الفطرة ونحو المسيح الدجال، وتحت أقدامه يقفون يشكون الفقر والحاجة فيغذي أهواءهم. إن مربع الشمس يعيش داخل مربع الضلالة.

 

فالضلالة هي التي تغذي قافلة الطمس. ومن كان غذاؤه من الضلالة فلا أمل في شفائه ﴿قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾(9).

 

قال المفسرون: من كان في الضلالة، تدل على استمرارهم في الضلالة، لا مجرد تحقيق ضلالة ما بذلك يتم التهديد بمجازاتهم بالإمداد بما منه ضلالته، كالزخارف الدنيوية.

 

فينصرف عن الحق حتى يأتيه أمر الله من عذاب أو ساعة فيظهر له الحق عند ذلك. ولن ينتفع به. قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا﴾(10) وهذا دليل على أن هذا المد خذلان في صورة إكرام. والمراد به أن ينصرف عن الحق بالاشتغال بزهرة الحياة. فلا يظهر له الحق إلا في وقت لا ينتفع به. كما قال تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾(11) وقال: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾(12).

 

خامسا: الخلاصة:

إن الذين يعبدون أصناما من دون الله ويسيرون وراء أهوائهم في الحقيقة يدعون الشيطان العاري من كل خير، ويسيرون في اتجاه طاعة، لأن الشيطان أخذ على عاتقه أن يظلهم بالاشتغال بعبادة غير الله. واقتراف المعاصي وأن يغرينهم بالاشتغال بالآمال والأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم.

 

وما يهمهم من أمرهم. وأن يأمرهم بتحريم ما أحل الله وتغيير خلقه مثل الإخصاء واللواط والسحاق والخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف. والظالمين من أهل الكتاب اشتغلوا بهذا كله. لقد اشتغلوا بآمال وأماني أرض المعاد.

 

وجعلوا هذه الآمال عامودا فقريا لحركتهم. ولأنهم بظلمهم اتبعوا الأهواء وأعرضوا عن التعقل الصيح أضلهم الله، ولم يأذن سبحانه لناصر ينصرهم بالهداية ولا منقذ ينقذهم من الضلال، فأي خسران أبين من خسران من يبدل السعادة الحقيقة وكمال الخلقة بالمواعيد الكاذبة والأماني الموهومة ﴿وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا﴾(13).

 

إن قافلة بني إسرائيل التي بدأت مع موسى (عليه السلام) على أرض مصر.

 

اضطهدت في سبيل الله ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ / قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾(14).

 

قال المفسرون: كأنه يقول: ما أمرتكم به أن اتقوا الله في سبيل مقصدكم. كلمة حية ثابتة، فإن عملتم بها، كان المرجو أن يهلك الله عدوكم ويستخلفكم في الأرض بإيراثكم إياها. ولا يصطفيكم بالاستخلاف اصطفاء جزافا. ولا يكرمكم إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد. بل ليمتحنكم بهذا الملك. ويبتليكم بهذا التسليط والاستخلاف. فينظر كيف تعملون(15).

 

وانطلقت المسيرة الإسرائيلية تحمل الهدى للعالمين. وبينما هي تسير ظهر أصحاب العجل والبقرة. وأصحب الكنوز وصاحب النبأ. وطابور النفاق الطويل وصناع الأهواء والأصنام. ولم يكن في ذاكرة هؤلاء قول موسى: ﴿فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ وتطورت مسيرة الانحراف لتنتج في النهاية كتبا وإن كانت لا تخلو من حق إلا أنها في خطوطها العرضية لا تحمل إلا ملامح سماوية باهتة وهذه الكتب وقف وراءها فقهاء السوء يدعون الناس لطريق الطمس، حيث علوم فقه التحقير الذي وضعه قوم نوح وعلى طريقه استؤصلوا، وعلوم فقه الغطرسة الذي وضعته عاد وعلى طريقه جاءتهم الرياح، وعلوم فقه الجحود الذي وضعته ثمود وعلى سبيله جاءتهم الصيحة، وعلوم فقه اللواط الذي وضعه قوم لوط وعلى طريقه ضربتهم حجارة من سجيل منضود، وعلوم فقه اللصوصية الذي دونه أهل مدين وأصحاب الأيكة وعلى طريقه ضربتهم الصيحة، وجاءتهم الظلة.

 

لقد عمل فقهاء الانحراف داخل الحي الإسرائيلي من أجل تغليب الشذوذ ورفع رايات الأهواء على امتداد طريق الانحراف، وتم توفير القنابل الذرية لحماية هذا الطريق.

 

ولكن نهاية الطريق قد أخبرنا الله عنها ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(16) ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ / إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ / وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾(17).

 

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- سورة النساء / 47.

2- ابن كثير ج1 / ص505.

3- الميزان ج4 / ص367.

4- سورة الأنعام / 110.

5- سورة الروم / 41.

6- سورة الأعراف / 96.

7- الميزان ج4 / ص370.

8- ابن كثير ج1 / ص208.

9- سورة مريم / 75.

10- سورة مريم / 75.

11- سورة غافر / 85.

12- سورة الأنعام / 158.

13- سورة النساء / 119.

14- سورة الأعراف / 128-129.

15- الميزان ج8 / ص225.

16- سورة النور / 39.

17- سورة العنكبوت / 41-43.