سورة الهمزة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ / الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ / يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ / كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ / وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ / نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ / الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ / إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ / فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ﴾

صدق الله العلي العظيم

 

في بداية دراسة معاني هذه السورة الجليلة، علينا أن نقف أمام بعض الملاحظات:

 

أولاً: في الروايات التفسيرية أنّ السورة هذه نزلت في حق "الأخنس بن شُريق"، وهو من قريش. ولكن المورد لا يقيّد مطلق الآيات، ولا يخصص عمومها، بل إنّ المورد هو إشارة إلى مفهوم الآية، فالآية والسورة تضم المورد وغير المورد، وهي قاعدة عامة للإنسان في كل زمان ومكان. وبخاصة أنّ في هذه السورة وردت كلمة "كل"، فالويل لكل هُمَزة لُمَزة، لا لشخص واحد. كما أنّ في نهاية السورة عندما نقرأ: ﴿عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ﴾، معنى ﴿عَلَيْهِم﴾ الجمع وليس الفرد، إذاً السورة للجميع.

 

ثانياً: الملاحظ في القرآن الكريم أنّ الله يبشّر بجنتين وجزاءين، وينذر بعذابين.

 

الجزاء الأول: الجنة العاجلة والسعي المنتج في هذا العالم، والجزاء الأدنى والسعي المرئي فوراً، هذه الأمور مقابل العذاب الأدنى، ومقابل ظهور الفساد في البر والبحر ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(1). بالإضافة إلى أنّ القرآن يؤكد أنّ بعض أنواع العذاب، والمصائب العاجلة في هذه الدنيا، هي نتيجة أعمال الإنسان. إذاً، هناك جزاء سريع من خير أو شر، نتيجة عمل الإنسان، ينعكس على حياته الحاضرة.

 

والجزاء الثاني: الجزاء الأوفى، والجنة المأوى، والآخرة التي هي خير من الأولى، مقابل العذاب الأخرى، والنار، وجهنم، وأمثال ذلك.

 

كثير من المفسرين عندما يقفون أمام آيات الجزاء يلفتون نظر الإنسان إلى الجزاء في الآخرة، وينسَون ويُهملون الجزاء السريع. مع العلم أنّ القرآن الكريم، والإسلام بصفته نظاماً أيضاً، يهتم جداً بنتائج أعمالنا في حياتنا هذه. وفي هذه الآية بإمكاننا أن نعتبر أنّ جزاء الإنسان الذي جمع مالاً وعدّده، وحسب أنّ ماله أخلده، فاحتقر الإنسان أخاه، جزاؤه، بإمكاننا أن نجده في هذه الدنيا من الجزاء الأدنى، وبإمكاننا أن نجده في الآخرة من الجزاء الأولى. ولا بأس إطلاقاً في أنّ هذه الآيات وغيرها تضم المعنيين معاً.

 

والآن، نقف أمام هذه الصورة المدهشة المعجزة المربية، التي تظهر من خلال هذه السورة المباركة، لنرى الجزاء الذي أعدّه الله للمنحرفين، في هذه الدنيا وفي الآخرة أيضاً بعبارة واحدة وبجملة واحدة. إنّ الذي يجمع مالاً ويعدّه، ويحسب أنّ ماله أخلده، أي الذي همّه جمع المال، إنه يعشق المال ويعتز به ويعيش معه، ومع عدّه، يعتبر نفسه فوق البشر، ويعتبر ماله هذا خلوده أيضاً. وبسبب هذا الحب الذي يشبه العبادة يرى نفسه كبيراً. فيتكبر ويحتقر الآخرين، ويعتبر أنّ مصائر البلاد والعباد بيده. فبماله يشتري كل شيء، وبماله يسخّر كل شخص، وبماله يغيّر كل حقيقة، وبماله يطوّر كل ما يشاء لمصلحته، فيهمز من البشر بلسانه وبحركاته، في حضورهم وفي غيابهم.

 

هذا الإنسان المتكبر، عابد المال، المحتقر للآخرين سيجعله الله رب العالمين في عذاب يحطمه، لأنه يحتاج إلى التحطيم، ولأنّ المرض تجاوز عينه ولسانه ويده، بل دخل قلبه أيضاً. فالعذاب تحطيم له، وهو نار الله الموقدة. والنار قليلاً ما تضاف إلى الله. أضيفت إليه (سبحانه وتعالى) زيادة في الترهيب والتعظيم.

 

إذاً، نار الله الموقدة تحرق الأفئدة، الباطن إلى جانب الظاهر، فتدخل في القلوب. والإنسان هذا سيُربط بالأعمدة الممتدة في غرفة العذاب، وبابها مؤصدة، كالبهائم. فجزاء الكبرياء والاحتقار للآخرين والطمع في الخلود بطريق منحرف، أن يحطّم ويحترق ويُحرق وجوده جميعاً، ويُربط كالبهائم في أماكن العذاب. هذا بالنسبة إلى جزاء الآخرة.

 

وإذا حاولنا أن نفهم من السورة المباركة الجزاء الأدنى، نجد تماماً أنّ طغيان المال في هذه الحياة، واستضعاف الآخرين، والمس بكرامتهم، هذه المشاعر عند الإنسان، عند الحاكم، عند فئة، تؤدي إلى انعكاسات سلبية، والى ثورات دموية تؤدي إلى تحطيم هؤلاء الأشخاص، وتحطيم فئتهم ومجتمعهم. فتنفجر نار الغضب والأحقاد والانتقام لدى الناس، فتحرقهم وتحرق قلوبهم باستلاب الأموال، وتحرق كراماتهم وتجعلهم في سجن دائم مربوط بالعَمَد الممدة.

 

إذاً، السورة الكريمة تعبّر عن نتائج هذه النوعية من المسلك ومن المشاعر ومن الثقافة والفكر. جزاؤهم في الدنيا: الانحرافات والأخطار والثورات الدموية والصعوبات، وجزاؤهم في الآخرة أخزى كما سمعنا.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 


1- سورة الروم / 41.