انحرافات بني إسرائيل -3

من معالم الخزي في الحي اليهودي:

عندما شاء الله أن يتقدم بني إسرائيل المسيرة البشرية وراء أنبيائهم في عالم يعج بعبادة غير الله، أقام الأنبياء الحجة الكاملة على البشرية، وفي نفس الوقت على القاعدة التي منها ينطلقون ألا وهم بنو إسرائيل. وإقامة الحجة هي العامود الفقري فإما أن يؤمن الناس أو لا يؤمنوا، فهذه قضية أخرى عامودها الفقري أن الله غني عن العالمين، فالله تعالى هو خالق الإنسان وبما أنه خالقه فهو سبحانه أعلم بما يصلحه، فبعث إليه الأنبياء والرسل بالإصلاح، فمن تقبل الدواء نال الشفاء ومن أبى إلا المرض عاش فيه وأصابه ما أصابه، فإن عاد بالتوبة قبله الله، وإن أصر على المعصية ففي الدنيا عذاب وفي الآخرة عذاب. ودين الله لا إجبار فيه والله غني عن العالمين، ولأن بني إسرائيل كانوا في المقدمة يوم أن فضلهم الله على العالمين، فإن الله تعالى جعل في بعضهم آيات تكون عبرة للقوم كي يستقيم المعوج وتواصل المقدمة المسيرة. ولكن تكون عبرة لمن يأتي بعدهم لينظر كيف تكون حركة التاريخ. ومن هذه الآيات بعد خروجهم من مصر: إهلاك السبعين وإحياؤهم، وانبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، والتظليل بالغمام وإنزال المن والسلوى، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة. وآية البقرة ومسخ بعضهم قردة خاسئين.

 

وآيات كثيرة حدثت على امتداد رحلة تفضيلهم وهم وراء الأنبياء من بعد موسى (عليه السلام)، منها خروج قوم من أوطانهم هربا من الطاعون وكانوا أعدادا كثيرة، فأماتهم الله دهرا طويلا ثم بعثهم في وقت واحد، فهذه كلها آيات كان من المفروض أن تكون زادا لبني إسرائيل يمنعهم من الانحراف، لكن القوم تركوا وراء ظهورهم الآيات والعبر وعندما انتهت رحلة التفضيل، وانتقل الطريق والقافلة إلى غيرهم، جلسوا يجترون الذكريات ويعيشون في أوهام التفضيل وأعلامه.

 

ونحن لن نسرد كل آيات العذاب التي ضربهم بها الله ليستقيم المعوج منهم، وإنما سنلقي الضوء على آيتين لما فيهما من عبر جامعة لم يلتفت إليها القوم. الأولى خاصة برجل آتاه الله الأموال وكانت عنده الكنوز والثانية لرجل آتاه الله العلم وأراه الآيات العليا. ولكن الرجلان جرت في دمائهما كل معالم الانحراف فلم يشكرا النعمة والمنعم. فأخذ هما الله أخذ عزيز مقتدر. فلم يغن عن الأول كنوزه. ولم يقو الثاني على حماية نفسه. لقد كانت آيات الله في المال والعلم زاجرا لبني إسرائيل، لكن الذئاب منهم شقوا مسيرهم نحو الكنوز ونجو دروب التحريف وأكل أموال الناس بالباطل!

 

1- عبرة قارون:

كان قارون من بني إسرائيل، وآتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة القوة، فظن أنه هو الذي جمعه بعلمه وجودة فكره وحسن تدبيره!

 

وأمن العذاب الإلهي، وآثر الحياة الدنيا على الآخرة، وبغى الفساد في الأرض. يقول تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ / وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾(1).

 

قال المفسرون: وعظوه أن لا يبطر بما هو فيه من مال. وأن يشكر الله على ما أعطاه وأن يطلب فيما أعطاه الله من مال الدنيا تعمير الدار الآخرة بإنفاقه في سبيل الله، ووضعه فيما فيه مرضاته تعالى، وقالوا له: لا تنس أن نصيبك من الدنيا -وقد أقبلت عليك- شئ قليل مما أوتيت، وهوما تأكله وتشربه وتلبسه مثلا، والباقي فضل ستتركه لغيرك.

 

فخذ منها ما يكفيك ﴿وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ أي أنفقه لغيرك إحسانا، كما آتاكه الله إحسانا، ولا تطلب الفساد في الأرض بالاستعانة بما آتاك الله من مال وما اكتسبت به من جاه وحشمة. إن الله لا يحب المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح والإصلاح(2) فماذا كان رد قارون على العظة؟ قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾(3).

 

قال المفسرون: أجاب بنفي كونه إنما أوتيه إحسانا من غير استحقاق .. لقد ادعى إنما أوتيه على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال وتدبيره. وبما أن هذا باستحقاق فقد استقل بما عنده وله أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء ويستدره في أنواع التنعم وبسط السلطة والعلو والبلوغ إلى الآمال والأماني.

 

وهذا الزعم الذي ابتلى به كقارون أهلكه. إن قوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ﴾ من غير إسناد الإتياء إلى الله سبحانه كما في قول الناصحين له: ﴿فيما آتاك الله﴾ نوع إعراض عن ذكر الله، ولقد رد سبحانه مقولته فقال: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾(4).

 

قال المفسرون: استفهام توبيخي وجواب عن قوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ أي إذا كان يرى أن الذي اقتنى به المال ويبقيه له هو علمه، فهو يعلم أنه كان فيمن قبله من القرون من هم أشد منه قوة وأكثر جمعا. فلو كانت قوتهم وجمعهم عن علم عند هم. فقد أهلكهم الله بجرمهم، فلو كان العلم هو الجامع للمال والحافظ لهم لنجاهم من الهلاك .. وجاء يوم الغب الذي يحمل عذابا غير مردود يقول تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ / وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾(5).

 

قال المفسرون: ﴿الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا﴾ أي يجعلونها الغاية المطلوبة في مساعيهم. ليس لهم وراءها غاية. فهم على جهل من الآخرة وما أعد الله لعباده فيها من الثواب قال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا / ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ﴾(6) ولذلك عدوا ما أوتيه قارون من المال سعادة عظيمة له من دون قيد وشرط.

 

﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ..﴾ أي المؤمنون أهل العلم بالله يخاطبون به أولئك الجهلة الذين تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي قارون وعدوه سعادة عظيمة على الإطلاق. قالوا: إن ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا مما أوتي قارون فإذا كانوا مؤمنين صالحين فليتمنوا ثواب الله. ﴿وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ أي وما يفهم هذا القول وهو قولهم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا إلا الصابرون.

 

وعلى مشهد من الجميع من أصحاب الدنيا وأصحاب العلم ابتلعت الأرض الطاغية المستكبر .. يقول تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ / وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُون﴾(7).

 

قال المفسرون: خسف به وبداره الأرض .. فما كان له جماعة يمنعونه العذاب، وما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن أن الذي يجلب إليه الخير، ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه اللذان اكتسبهما بعلمه، فلم يقه جمعه وتقه قوته من دون الله، وبأن الله سبحانه هو الذي آتاه ما آتاه. فالفاء في قوله: ﴿فَمَا كَانَ﴾ لتفريع الجملة على قوله: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ﴾ أي فظهر بخسفنا به وبداره الأرض بطلان ما كان يدعيه لنفسه من الاستحقاق والاستغناء عن الله، وأن الذي يجلب إليه الخير، ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه وقد اكتسبهما بنبوغه العلمي(8).

 

واعترف الذين تمنوا مكانه ببطلان ما كان يزعمه قارون وهم يصدقونه بأن القوة والجمع في الدنيا بنبوغ الإنسان وعلمه وجودة تدبيره لا بفضل من الله سبحانه .. لقد عرفوا الحقيقة بعد مشهد وحركة. وعلموا أن سعة الرزق وضيقه بمشيئة من الله، وكان قارون علامة بارزة أمام بني إسرائيل لكن الكثرة عبروا عليها ولم يتبينوها، لأن في قلوبهم حب العجل!

 

2- عبرة صاحب النبأ:

أبهم الله تعالى اسم صاحب النبأ، واختلف المفسرون في تعيين من هو في الآية الكريمة. وأقوى الروايات أنه يدعى (بلعم بن باعوراء)، وأن الله تعالى أعطاه الاسم الأعظم وكان يدعو به فيستجاب له(9) وروي أن موسى (عليه السلام) بعثه إلى ملك مدين يد عوه إلى الله فأعطاه الملك الأرض والمال فتبع بلعم بن باعوراء دينه(10). وروي غير ذلك.

 

والخلاصة أنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ / وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(11).

 

قال المفسرون: أمر الله نبيه أن يتلو على بني إسرائيل أو على الناس خبرا عن أمر عظيم، وهو نبأ الرجل الذي آتاه الله آياته، وكشف لباطنه عن علائم وآثار إلهية عظام، يرى بها حقيقة الأمور، فانسلخ منها ورفضها ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾ استحوذ عليه وعلى أمره فمهما أمره امتثل وأطاعه، فكان من الهالكين الحائرين البائرين، ولو شاء الله لرفعه من قاذورات الدنيا بالآيات العظيمة التي آتاه إياها.

 

ولكنه أخذ بأسباب التدنس ومال إلى زينة الحياة الدنيا وأقبل على لذاتها ونعيمها.

 

واتبع هواه وكان ذلك موردا الإضلال الله له، لا لهدايته. وهذا الرجل مثله كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. فهو ذو هذه السجية لا يتركها سواء زجرته ومنعته أو تركته ﴿ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ فالتكذيب منهم سجية وهيئة نفسانية خبيثة لازمة. فلا تزال آيات الله تتكرر على حواسهم.

 

ويتكرر التكذيب بها منهم ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ﴾ أي قص القصة ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فينقادوا للحق وينزعوا عن الباطل.

 

لقد كان صاحب النبأ معه آيات باهرات، لكنه أخذ بأسباب الزينة التي تشبع الأهواء، فكان مصيره النار. لقد كان يحمل آيات باهرات، لكنه لم يستعمل قلبه وبصره وأذنه فيما ينفعه ويحقق له السعادة الدائمة الحقيقية والله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله أن يقص القصة لعل بني إسرائيل العالمين بحال صاحب النبأ وما جرى له بسبب استعماله نعمة الله في غير طاعة الله، لعلهم عندما يذكرهم النبي صلى الله عليه وآله بالقصة يتفكرون ليحذروا أن يكونوا مثله، وهم بما أنهم أهل كتاب، قد أعطاهم الله علما ميزهم به على من عداهم من الأعراب. وبصرف النظر عن تحريفهم لكتابهم، إلا أن هذا الكتاب كان يحتوي بين دفتيه على آية عظيمة. إذا كفروا بها كان شأنهم كشأن صاحب النبأ الذي ترك الآيات وجلس بجوار الذهب والفضة.

 

وهذه الآية التي في كتابهم خاصة بنبي الله محمد صلى الله عليه وآله الذي يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم. فهذه الآية دعوة لهم كي يتبعوه كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك، فإن كتموا أو صدوا أو قالوا كما قال فرعون هذا سحر مبين .. كان الذل امتدادا لهم .. ذل في الدنيا موصول بذل الآخرة. يقول تعالى: ﴿.. عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ / الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(12).

 

فذكره صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف الثلاثة (الرسول النبي الأمي) تدل على أنه كان مذكورا في التوراة والإنجيل بهذه الأوصاف الثلاثة. فماذا فعل أتباع صاحب النبأ بهذه الأوصاف؟ لقد حرفوها. ولكن التحريف لم يجهز على الحقيقة أمام البحث والتدقيق(13). إن الحقيقة باقية لتكون حجة على أجيالهم في كل زمان. إن اتباع صاحب النبأ لم يحترموا العلم فجعلهم الله كمثل الحمار كما جعل صاحبهم من قبل كمثل الكلب. يقول تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(14).

 

قال المفسرون: المراد بالذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها اليهود الذين أنزل الله التوراة على رسولهم موسى (عليه السلام).

 

فعلمهم ما فيها من المعارف والشرائع. فتركوها ولم يعملوا بها. فحملوها ولم يحملوها. فضرب الله لهم مثل الحمار يحمل أسفارا وهؤلاء يعرف ما فيها من المعارف والحقائق. فلا يبقى له من حملها إلا التعب بحمل ثقلها!

 

3- البعوث الدائمة والطمس الدائم:

لم يضرب عذاب الاستئصال شعب إسرائيل ضربة واحدة. كما ضرب من قبل عاد وثمود وغير هما. والحكمة من وراء هذا، أن لشعب إسرائيل قيادة من أنبياء بني إسرائيل، فالشعب باق ما دام لهم في علم الله قيادة منهم، ومقدمات عذاب الاستئصال تأتي مع رفضهم لآخر نبي في الشجرة الإسرائيلية، والله تعالى لا يستأصل قوما إلا بعد إنذار. وعلى هذا لا يأتي الاستئصال إلا بعد إنذارهم من الله على لسان الرسول الذي يأتي بعد آخر رسول من شجرة إسرائيل، ولما كان نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هو أول رسول يأتي من خارج الشجرة الإسرائيلية وخاتم النبيين. فقد جاءهم بالرحمة والإنذار، فلما رفضوا الرحمة شقوا طريقهم نحو عذاب الاستئصال. وقبل أن يشقوا هذا الطريق، تعرضوا لضربات عدة فرادى وجماعات، لعلهم يتذكرون ويلتفون حول رسلهم والصالحين منهم ولكنهم أبوا إلا الأخذ بذيول الانحراف!

 

1- البعوث الدائمة:

كتب الله على شعب إسرائيل القتل والأسر والاضطهاد على أيدي الجيوش الجرارة التي جاءت إليهم من جهات عديدة، بعد أن ظلموا أنفسهم وسهروا من أجل الحفاظ على الانحراف والشذوذ! وبعد أن تقلصت دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتسعت دوائر السلبية والظلم والبغي بينهم. وعلى امتداد مسيرة بني إسرائيل كان فيهم الصالحين وغير ذلك. ولكن غير الصالحين كانوا دائما إلى الافساد في الأرض أسرع! وذلك لأن رقعة الانحراف كانت رقعة واحدة بينما كانت رقعة الصالحين تنقسم إلى قسمين: قسم ضعيف قليل العدد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والقسم الآخر يحتوي على كثرة لم ترتكب المعاصي ولكنها تركت الساحة للمفسدين كي يعربدوا فيها وينشروا ضلالتهم.

 

ونظرا لهذا التقسيم انتشر الفساد لسهر أعوانه عليه. وفي سنة الله تعالى إذا عمل قوم بالمعاصي ولم يغيره الناس أوشك الله أن يعمهم بعقاب، لأن ارتكاب المعاصي مد خل رئيسي لهدم أركان الدين. ومن عدل الله سبحانه أنه قبل أن يعم بني إسرائيل بالعذاب الشامل، وضع في بداية طريقهم حدثا كان يجب عليهم أن يحفروه في ذاكرتهم، ليعلموا أن الذي حدث في قرية صغيرة يمكن أن يضرب الأمة الكبيرة. يقول تعالى: ﴿واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ / وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ / فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ / فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾(15).

 

قال المفسرون: "انقسم أهل القرية في أمر الله ثلاث فرق. فرقة ارتكبت ما نهى الله عنه. وفرقة نهت عن ذلك واعتزلت. وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، وقالت للفرقة التي نهت واعتزلت: لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من ذلك. فلا فائدة في نهيكم إياهم. فقالوا: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ أي فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لعلهم بهذا الانكار يتقون"(16). وفي قولهم: ﴿إِلَى رَبِّكُمْ﴾ حيث أضافوا الرب إلى الفريق الذي يلومهم ولم يقولوا: إلى ربنا .. إشارة إلى أن التكليف بالعظة ليس مختصا بنا بل أنتم أيضا مثلنا يجب عليكم أن تعظوهم. لأن ربكم لمكان ربوبيته يجب أن يعتذر إليه. ويبذل الجهد في فراغ الذمة من تكاليفه والوظائف التي أحالها إلى عباده. وأنتم عباد له كما نحن عباده، فعليكم من التكاليف ما هو علينا ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾ وفيه دلالة على أن اللائمين كانوا مشاركين للعادين أي للفرقة التي ارتكبت ما نهى الله عنه. في ظلمهم وفسقهم حيث تركوا عظتهم ولم يهجروهم. وفي الآية دلالة على سنة إلهية عامة. وهي أن عدم ردع الظالمين عن ظلمهم بمنع وعظة، مشاركة معهم في ظلمهم. وأن الأخذ الإلهي الشديد، كما يترصد الظالمين كذلك يرصد مشاركيهم في ظلمهم(17).

 

لقد ضرب العذاب الظالم المعتدي والظالم الذي سكت. وفي الحديث كانوا أثلاثا: ثلث نهوا، وثلث قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ﴾ وثلث أصحاب الخطيئة.

 

فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم(18) وقال تعالى للذين عتوا عن أمره: ﴿كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ أي ذليلين حقيرين مهانين. لقد كانت أحداث هذه القرية إشارة للمسيرة الإسرائيلية بأن العذاب الشامل على الأبواب إذا لم يأخذوا بأسباب النجاة. وأنهم إذا ركبوا المعاصي ولم تنههم الأحبار وغيرهم أخذتهم العقوبات. ولكن القوم توسعوا في الظلم. الظلم الذي يهدم. والظلم الذي يرى معالم الهدم ويعين على الهدم بصمته. وأمام هذا الاسراع الذي يسير في عكس اتجاه حركة الفطرة أصابهم العذاب الشامل. وكان رداء ملازما لهم على امتداد مسيرتهم. يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(19).

 

قال المفسرون: ﴿تَأَذَّنَ﴾ بمعنى اعلم. والمعنى: واذكر إذ أعلم ربك أنه قد أقسم. ليبعثن على هؤلاء الظالمين بعثا يدوم عليهم ما دامت الدنيا من يذيقهم ويوليهم سوء العذاب. وأنه تعالى غفور للذنوب رحيم بعباده .. لكنه إذا قضى لبعض عباده بالعقاب. لاستيجابهم ذلك بطغيان وعتو ونحو ذلك. فسرعان ما يتبعهم إذ لا مانع يمنع عنه. ولا عائق يعوقه.

 

وقد نزل ببني إسرائيل نوازل كثيرة. منها ما جرى عليهم بيد (نبوخذ ناصر) عام 588 ق.م وكان من ملوك بابل وكان يحمي بني إسرائيل فعصوه وتمردوا عليه فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها وحاصر بلا دهم ثم فتحها عنوة وخرب البلاد وهدم الهيكل وأحرق التوراة وأباد النفوس بالقتل العام. ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة فأسرهم وسيرهم معه إلى بابل. وبعد رحيل (نبوخذ ناصر) دخلوا تحت حماية ملك الفرس (كورش) الذي أذن لهم في الرجوع إلى الأرض المقدسة. وأعانهم على تعمير الهيكل.

 

وظل اليهود خاضعين لحكم الفرس حتى جاء الإسكندر الأكبر 323 ق.م واجتاح المنطقة، وبعد وفاة الإسكندر خضعت أورشاليم لبطليموس وكان واحدا من قواد الإسكندر الأكبر وكان يتولى حكم مصر. ثم اجتاح الرومان البلاد عام 63 ق.م بعد أن ضعفت أيدي الإغريق. وحدث نزاع شديد بين اليهود والرومان انتهى بخراب أورشاليم وهدم الهيكل عام 70 ميلادية على يد (تيطوس) الروماني.

 

ثم حدثت مشادات بين اليهود والرومان. انتهت باستقلال اليهود عن الرومان ثلاث سنوات وأصبحت أورشاليم عاصمة لهم وذلك عام 132م. وبعد ثلاث سنوات أي في عام 135م نكل الرومان باليهود وهدموا أورشاليم وبنوا على أنقاضها مدينة لهم وأقاموا بها معبد لإله (جوبتر) إله الرومان على أنقاض المعبد القديم. ولم يسمح الرومان لأي يهودي بدخول المدينة أو الاقتراب منها. وفي عام 313م أصبحت الديانة النصرانية دين الدولة الرومانية الرسمي. وهدم معبد جوبتر. وفي سنة 326م جاءت الملكة هبلانة أم الإمبراطور قسطنطين وقامت ببناء كنيسة القيامة في أورشاليم. وفي عام 614م غزا الفرس بلاد الشام. وانتصروا على الرومان وهدموا كنيسة القيامة. ثم غلب الرومان الفرس. ثم جاء الفتح الإسلامي عام 636م ولم يكن لليهود قائمة.

 

وفي عام 1948 اعترفت الأمم المتحدة بدولة إسرائيل. وكان هذا الاعتراف ثمرة لجهد طويل قامت به الأيدي الخفية التي زينت كل قبيح في عالم الطمس الطويل الذي يسير في عكس اتجاه الفطرة. وفي بطن الغيب ما زالت البعوث قائمة. وانتظروا ونحن معكم منتظرون.

 

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- سورة القصص / 76-77.

2- الميزان ج16 / ص76، ابن كثير ج3 / ص399.

3- سورة القصص / 78.

4- سورة القصص / 78.

5- سورة القصص / 79-80.

6- سورة النجم / 29-30.

7- سورة القصص / 81-82.

8- الميزان ج16 / ص76.

9- الميزان ج8 / ص337، ابن كثير ج2 / ص265.

10- ابن كثير ج2 / ص264.

11- سورة الأعراف / 175-176.

12- سورة الأعراف / 156-157.

13- راجع بحوثنا عن المسيح الدجال.

14- سورة الجمعة / 5.

15- سورة الأعراف / 163-166.

16- ابن كثير ج2 / ص257.

17- الميزان ج8 / ص296.

18- رواه ابن عباس وقال ابن كثير إسناده جيد ج2 / ص259.

19- سورة الأعراف / 167.