انحرافات بني إسرائيل -2

بصمة انحراف قوم عاد:

استكبرت عاد قوم هود، ودقت في خيام الانحراف وتد وثقافة ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾؟، وهذا الشذوذ ناله التطوير على امتداد المسيرة البشرية، فتلاميذ الشيطان، وفروا لكل منحرف جرعته! أما فيما يتعلق ببني إسرائيل. فلقد امتلأت سلالهم بالذهب وبالمكائد، بالترغيب والترهيب، بالتجويع والتخويف. والقرآن عندما سجل لهم انبهارهم بما عندهم وضعهم في موضع الخزي، فعاد عندما قالوا من أشد منا قوة؟ لم يشيروا إلى الله سبحانه صراحة.

 

لهذا قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ..﴾(1) أما بنو إسرائيل فلقد طرحوا الفقه بعد تطويره وقالوا إن الله فقير!! وإن يده مغلولة!!! أما هم فأغنياء.

 

يقول تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾(2).

 

قال المفسرون: إنهم إنما تكلموا بهذه الكلمة الأثيمة في شئ من أمر الرزق. إما في خصوص المؤمنين، لما في عامتهم من الفقر الشامل والعسرة وضيق المعيشة، وأنهم إنما قالوا هذا القول استهزاء بالله سبحانه، إيماء إلى أنه لا يقدر على إغناء عباده المؤمنين به وإنجائهم من الفقر، وإما أنهم إنما تفوهوا بذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾(3) فقالوا: يد الله مغلولة لا يقدر على تحصيل ما ينفق في حوائجه. لترويج دينه وإحياء دعوته، وقد رد الله عز وجل عليهم ما قالوه، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه(4). ولعنهم. ولعنة الله تعالى لأحد .. إنما هو تعذيبه بعذاب إما دنيوي أو أخروي. فاللعن هو العذاب المساوي لغل أيديهم أو الأعم منه ومن غيره(5).

 

وفي موضع آخر يقول تعالى: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾(6).

 

قال المفسرون: القائلون هم اليهود، بقرينة ما في ذيل الآية من قتلهم الأنبياء وغير ذلك، بأنهم قالوا ذلك لما رأوا فقر عامة المؤمنين وفاقتهم، فقالوا ذلك تعريضا بأن ربهم لو كان غنيا لغار لهم وأغناهم. فليس إلا فقير ونحن أغنياء!!! وقد رد الله عز وجل عليهم ما قابلوه. وأخبر سبحانه أن قولهم هذا ومعاملتهم رسل الله. وقد قارن الله قولهم هذا بقتل الأنبياء: لكونه قولا عظيما.

 

سيجزيهم الله عليه شر الجزاء.

 

لقد تمدد فقه عاد آخر الزمان وجاب البحار وحلق في الفضاء وجلس على مقاعد الصفوف الأولى في المحافل الدولية! وتسلل من تحت الأظافر ليتجسس على الناس ويحصي الكلمات حتى في السكون! وجميع ذلك في الظاهر من أجل حقوق الإنسان. أما في الباطن فمن أجل إنسان واحد، يعتقد بأن الله فضله على العالمين وأنه شعب الله المختار، بدون قيد أو شرط -. إنه فقه القوة وبناء الأعمدة والجدران! إنه فقه الغطرسة والاستكبار، وما عاد من الظالمين ببعيد!

 

بصمة انحراف ثمود:

لقد عقرت ثمود الناقة التي جعلها الله آية لصالح (عليه السلام)، وإذا كان عقر الحقائق قد شق طريقه وسط المسيرة البشرية، بواسطة تلاميذ الشيطان. فإن فقه العقر عندما وصل إلى سلة بني إسرائيل كان قد ذهب مذهبا بعيدا. فالقوم تخصصوا في قتل الأنبياء. يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾(7).

 

قال المفسرون: يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسله، فنقضوا تلك العهود والمواثيق، واتبعوا آراءهم وأهواءهم وقد موها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه وما خالفهم ردوه(8) وعلى هذا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم أساؤوا مواجهته وإجابته وجعلوا الرسل المبعوثين فيهم فريقين: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون، وقد ظنوا أن لا يصيبهم سوء أو لا يفتنون بما فعلوا، فأعمى ذلك الظن والحسبان أبصارهم عن إبصار الحق! وأصم ذلك آذانهم من سماع ما ينفعهم من دعوة أنبيائهم!

 

واليهود قتلوا زكريا ويحيى (عليهما السلام). وكان الله قادرا على منعهم من قتلهما، كما كان سبحانه قادرا على منع ثمود من عقر الناقة، ولكن كل شئ يجري لهدف ومن وراء هذا الهدف حكمة! فزكريا ويحيى وعيسى (عليهم السلام) هم آخر أنبياء الشجرة الإسرائيلية. ومن عدل الله سبحانه أنه جعل سد منافذ الهدى يأتي على أيدي الظالمين، ليكون رفضهم للهدى هو عين إقامة الحجة عليهم بأنهم قد جاءهم من الله هدى. وقتل بني إسرائيل لأنبياء الله، يدل على أن القوم اتسعوا في الانحراف والشذوذ، ومعنى رفضهم للهدى من أجل المحافظة على الانحراف، أنهم باختيارهم خرجوا من دائرة التفضيل على العالمين، لكونهم شعب غير جدير بالجندية تحت قيادة أنبياء الله. باختصار لم يظلمهم الله، فهم الذين قتلوا الأنبياء وهم الذين قفزوا خارج دائرة التفضيل، ولأن قيادة البشرية ليست حكرا على أحد، فقد جاء الله تعالى بالذين يتولون قيادة المسيرة من بعد شعب بني إسرائيل الذي تفرغ للكيد وا الظلم والفساد. وبني إسرائيل كان عمدتهم في قتل الأنبياء وتكذيبهم، أنهم! يجدون عندهم ما تهوى أنفسهم.

 

بمعنى أنهم يريدون أن يتبع الحق أهواءهم!! وهذا ضد حركة الوجود لقوله تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾(9).

 

قال المفسرون: إن الذين يكرهون الحق. إنما يكرهونه لمخالفته هواهم. فهم يريدون من الحق أن يتبع أهواءهم وهذا مما لا يكون، إذ لو اتبع الحق أهواءهم.

 

تركوا وما يهونه من الإعتقاد والعمل فعبدوا الأصنام واتخذوا الأرباب واقترفوا ما أرادوه من الفحشاء والمنكر والفساد. جاز أن يتبعهم الحق في غير ذلك من الخليقة والنظام الذي يجري فيها بالحق. فيعطي كل واحد منهم ما يشتهيه من جريان النظام، ولا يكون ذلك إلا بتغيير أجزاء الكون عما هي عليه، فتبدل العلل والأسباب، وتغير الروابط المنتظمة إلى روابط جزافية مختلة متدافعة، توافق مقتضياتها مجازفات أهوائهم. وفي هذا فساد السماوات والأرض ومن فيهن، واختلال النظام، وانتفاض القوانين الجارية في الكون، لأنه من البين أن الهوى لا يقف على حد ولا يستقر على قرار.

 

وقديما عقرت ثمود الناقة، وكانت الناقة ترشد هم إلى الطريق الحق، فعندما تغوص ثمود في أوحال الذنوب تشرب الناقة من الماء الكثير ولا تترك لهم إلا القليل، كما تأكل من العشب مثل ذلك، وعندما يخرجوا من أوحال الذنوب لا تشرب الناقة ولا تأكل إلا القليل، كانت الناقة تفعل وصالح (عليه السلام) يترجم.

 

لكنهم أبوا إلا الأوحال وأرادوا أن توافق حركة الناقة أفعالهم التي تمليها أهواءهم ولأن الحق لا يتبع الأهواء .. عقروها، ولأن الأنبياء لم يأتوا بني إسرائيل إه بما لا تهوى أنفسهم قتلوهم، فأي فرق بين ثمود وبين بني إسرائيل؟ لقد قتلوا زكريا ويحيى وقالوا: ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ﴾(10) لقد شاهدوا معجزاته الباهرات التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ويصور من الطين طائرا ثم ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها، وأجراها على يديه، ومع هذا كذبوه!

 

وخالفوه! وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم! حتى جعل نبي الله عيسى (عليه السلام) لا يساكنهم في بلدة بل يكثر السياحة هو وأمه (عليهما السلام). ولم يتركوه في سياحته فعملوا على حصاره، وعندما شرعوا في الهجوم عليه، رفعه الله إليه، وألقى الله شبه عيسى على آخر. فلما رأوا شبيهه ظنوه إياه فألقوا القبض عليه وصلبوه.

 

إن حركة ثمود لم تمت. بل تجددت ولبست أكثر من ثوب ذواعا عن الأهواء، بعد أن فقد القوم روح الطاعة والسمع لرسل الله. وبعد أن استقرت ملكة الاستكبار والعتو فيهم. فإن حركة ثمود باقية تحفر بخناجرها الصخور والقبور ليد فنوا كل ناقة، وكم في كون الله من ناقة لا تسير على أربع ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾(11).

 

بصمة انحراف قوم لوط:

قوم لوط قطعوا السبيل ودقوا أوتاد اللاأخلاق في طريق المسيرة البشرية، ورقعوا الحجارة في وجه من يريد الاصلاح! وهددوه بالرجم وخوفوه بالإخراج من قريتهم! كان لوط (عليه السلام) يريد زرع الأخلاق الفاضلة وإزالة الأخلاق الرذيلة لأن المعارف الحقة والعلوم المفيدة لا تكون في متناول البشر إلا عندما تصلح أخلا قهم كان (عليه السلام) يريد أن يرتفع القوم ويخرج من حياة الحضيض حيث الفحشاء والوقاحة والفساد إلى بئر العفة حيث يتعلمون الأدب ولا يتركون شيئا إلا لله ولا يتعلقون بسبب إلا وهم متعلقون بربهم قبله ومعه وبعده. ولكن القوم أبوا إلا الفحشاء والعار فحل بهم الدمار. ومن بعدهم بدأت الفحشاء حول وتدهم الذي دقوه تتسع شيئا فشيئا، وعندما استقرت الفحشاء في معامل بني إسرائيل خرجت بوجوه عديدة، تنطلق من فقه يحب أن تشيع الفاحشة بين الناس، ومن أجل هذا الهدف زينوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. زينوا المقدمات والنتائج.

 

وبعد أن رفعت أعلام الفواحش فتحوا الأبواب للمنكر ودونوا له الدساتير وبعد أن استقر في عالمهم المنكر دخل البغي.

 

إنها دوائر تسلم بعضها بعضا، فالفاحشة في عهد قوم لوط كانت بقعة قذرة، أما في عهد بني إسرائيل فكانت أقذر وأوسع، لقد سيطرت أدواتهم على عالم السهرات والأزياء وبيوت التجميل ومعامل السينما ودور العرض ووسائل الإعلام مسموعة ومنظورة ومقروءة. وظهرت في مدارسهم اللاأخلاقية أجيال المخنثين وفي هذه الدوائر ظهر الجنس الثالث حيث الرجال للرجال! والجنس الرابع حيث النساء للنساء! واتسعت تجارة اللواط والزنا والسحاق وأصبحت لها مدن ودول واستيراد وتصدير! وبالجملة قطع الفساد شوطا طويلا في عالم الانحراف والشذوذ وأصبح يهدد البشرية في عمقها. وتهديد العمق البشري يدرج في جرائم إهلاك النسل، وفي عصر الهيمنة لبني إسرائيل وأتباعهم سعى الجميع في الأرض ليفسدوا فيها ويهلكوا الحرث والنسل، وكما رفع قوم لوط الحجارة في وجه الذين يتطهرون! فإن بني إسرائيل عملوا من أجل إشعال الحروب للفتك بالذين يتطهرون. يقول تعالى: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾(12).

 

قال المفسرون. أي أنه كلما أثاروا حربا على النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين. أطفأها الله بإلقاء الاختلاف بينهم، والآية على ما يدل السياق تسجل عليهم خيبة المسعى في إيقاد النيران التي يوقدونها على دين الله وعلى المسلمين. بما أنهم مؤمنين بالله وآياته(13) وقوله: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا﴾ أي من سجيتهم أنهم دائما يسعون في الافساد في الأرض والله لا يحب من هذه صفته(14). إن فقه الفساد الذي يحوي بين دفتيه جميع صور الفواحش. سهر عليه الذين لعنهم الله في القرآن، والله تعالى لعن في القرآن إبليس ولعن فيه اليهود ولعن فيه المشركين ولعن فيه المنافقين. والملعون لا يمكن بحال أن يقيم مجتمعا فاضلا عادلا، لأن المجتمع الفاضل لا يقومك إلا بالأخلاق الفاضلة، والأخلاق الفاضلة تحتاج إلى عامل يحرسها ويحفظها في ثباتها ودوامها، ولا يكون هذا العامل سوى التوحيد.

 

بصمة انحراف أهل مدين:

لقد نهى الله تعالى عن نقص المكيال والميزان، وسماه إفسادا في الأرض، ومدين دقت وتدها في طريق المسيرة البشرية، ولقد نصحهم شعيب (عليه السلام) فأبوا إلا بخس الناس أشياءهم، وفي عهد بني إسرائيل اتسعت دوائر المعاملات المالية، وأصبح للمال بيوت عتيقة دولية وإقليمية، وقلما تجد بيتا عتيقا من هذه البيوت ليس لليهود فيه خيط، فالقوم أحكموا السيطرة لمعرفتهم بخفايا الربح السريع على امتداد تاريخهم الطويل. والقرآن الكريم وصفهم بأنهم في معاملاتهم يأكلون السحت، والسحت هو كل مال اكتسب من حرام.

 

يقول تعالى: ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾(15)، وقال تعالى: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾(16).

 

قال المفسرون: لقد نهاهم الله عن الربا. فتناولوه وأخذوه. واحتالوا عليه بأنواع الحيل وصنوف من الشبه وأكلوا أموال الناس بالباطل(17) وأهل الكتاب كل ثمين عندهم خضع للنجارة فحرفوا الكلم عن مواضعه وأخذوا على ذلك رشوة.

 

ويقول تعالى في طائفة منهم: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾(18).

 

قال المفسرون: هؤلاء صنف من اليهود وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل(19) وقال تعالى: ﴿إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾(20).

 

فإذا كانت القاعدة والقمة مهمتها بخس الناس أشياءهم وأكل أموالهم بالباطل، فإنه لا أمل في إقامة المجتمع الإنساني الذي يليق بالإنسان الفطري.

 

وكيف يتم هذا إذا كان أهل القمة على أرائك الدين قد انحرفوا إلى سبيل الباطل.

 

وهم المعنيون بإصلاح قلوب الناس وأعمالهم ودفع الناس في سلوك طريق العبودية. في الحقيقة إن أباطرة الحال في المحافل الدولية العتيقة لم يكن الإصلاح هدفا لهم في يوم من الأيام. وكيف يكون ذلك وهم الذين يسعون في الأرض فسادا بنص القرآن. لقد امتدت أيديهم إلى الجهة المالية التي يقوم عليها المجتمع الإنساني واستحوذوا عليها، ثم بدأوا العمل المنظم الذي يؤدي إما إلى فقر مفرط، وإما إلى غنى مفرط، لأن هذه النتيجة ستؤدي في النهاية إلى فرض تربيتهم وسياستهم! وفي ظل التربية والسياسة هذه لا ترى ملامح حكمة ولا يصغى فيه لموعظة .. لقد هيمن أصحاب الأرائك الدينية على الجهات المالية للصد عن سبيل الله كما نصت الآية ﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾ وعندما بدأ العبث المنظم بالجهة المالية للمجتمع الإنساني، ترتب على هذا العبث جنايات وتعديات ومظالم تنتهي بالتحليل .. إما إلى فقر مفرط يدعو إلى اختلاس أموال الناس بالسرقة وقطع الطرق وقتل النفوس والبخس في الكيل والوزن والغصب وسائر التعديات المالية، وإما إلى غنى مفرط يدعو إلى الإتراف والإسراف في المأكل والمشرب والمنكح والمسكن والاسترسال في الشهوات، وهتك الحرمات، وبسط التسلط على أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم.

 

وأصحاب الأرائك. أو أصحاب الأيكة الجدد لا يضرهم الذين ساروا في طريق الفقر الذي انتهى إلى قطعهم للطرق واختلاسهم لأموال الناس. ولا يضرهم الذين ساروا في طريق الغنى الذي انتهى بهم إلى الاسترسال في الشهوات لأن خيوط اللعبة كلها في أيديهم. فإذا اختل النظام الحاكم في حيازة الأموال هنا. رد عليه نظام آخر في اقتناء الثروة هناك، إن أصحاب الأيكة الجدد يقبضون على المال ويظفرون بالثروة وهي بين أهلها الذين قتلهم الفقر أو الذين قتل فيهم الترف إنسانيتهم، والقبض على المال ليس غاية وإنما الصد عن سبيل الله هو الغاية. والمحيط الإنساني عندما يجري فيه قطاع الطرق الذين يبحثون عندما يسرقون. ويجري فيه الذين يبحثون عن مشتهيات النفس ومتعتها، ينقلب هذا المحيط إلى محيط حيواني ردئ. لا هم فيه إلا البطن وما دونه، ولا يملك فيه أحد إرادته، وبفشو الفساد وشيوع الانحطاط الأخلاقي تغلق أبواب الحكمة والمواعظ وهذا هو هدف أصحاب الأيكة الجدد. وأن لا يقوم مجتمع حي فعال يليق بالإنسان الفطري، المتوجه إلى سعادته الفطرية. ولأن السعادة الحقيقية يصل إليها الإنسان، أو يعمل للوصول إليها عندما يكون مؤمنا بالله وكافرا بالطاغوت، قام أصحاب الأيكة الجدد برفع أعلام أكثر من طاغوت. أعلام مغلفة بأغلفة تستقيم مع روح العصر الحديث. فأيهما أبشع وجها. أهل مدين أم أصحاب الأيكة الجدد؟

 

بصمة انحراف الفراعنة:

تقوم العقيدة الفرعونية في الأساس على عبادة الشمس، وهذه العبادة أنتجت في النهاية ثالوثا عموده. الفقري أسطورة إيزيس وأوزير وولدهما حور، ورغم أن صورة هذا الثالوث شملت جميع الآلهة عند الفراعنة فيما بعد حيث جعلوا لرع وغيره زوجة وابنا. إلا أن عجل أبيس كان هو الصورة المثلى للثالوث ولحلول روح الإله فيه! وكان إذا مات عجل من هذه العجو لي أقامت مصر الحداد وخضعت الجثة لفقه معقد وسارت الجنازة وفقا لطقوس عجيبة. وكانت أهم مدافن هذه العجول سيرابيوم سقارة(21) وبنو إسرائيل عندما كانوا في مصر بالقطع شاهدوا الحداد وشاركوا في جنازات العجول، بل واكتسبت قلوب أكثرهم حب هذه العجول، كما أن بعضهم اختلطت نفسه بعقيدة ابن الإله.

 

وإلا فلماذا عبدوا العجل، ولماذا قالوا عزير ابن الله!؟ ووفقا لأطروحتهم هذه .. لم يغلق باب بني إسرائيل حتى قالوا بأن المسيح ابن الله! ونحن إذا عدنا إلى نقطة البداية .. عندما عبر بهم موسى (عليه السلام) البحر. نجد أنهم عندما شاهدوا قوما يعكفون على أصنام لهم .. طالبوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة.

 

وبالجملة كان القوم على استعداد للانحراف نظرا لعب ء الثقافة الفرعونية على عقله وقلبه. ولقد آتت هذه الثقافة ثمارها، عندما وعد الله تعالى موسى (عليه السلام) أن ينزل عليه التوراة والألواح إلى ثلاثين يوما، وأخبر موسى قومه بذلك وجعل عليهم أخاه هارونا (عليه السلام)، فلما جاء الثلاثون يوما ولم يرجع موسى.

 

عصوا وأرادوا أن يقتلوا هارون! وقالوا: إن موسى كذب وهرب منا، وعندئذ تقدم السامري وكان من أصحاب موسى وكان على مقدمة القوم يوم أغرق الله فرعون وأصحابه، وروي أن السامري وهو على مقدمة القوم شاهد فرس جبرائيل كلما وضعت حافرها على موضع من الأرض. تحرك ذلك الموضع فأخذ السامري قبضة من هذا التراب، وصرها في صرة وكان يفتخر بها على بني إسرائيل.

 

وعندما هم القوم بهارون واتهموا موسى بالهرب .. أمر السامري بجمع الذهب.

 

وفي رواية أن الشيطان جاءهم في صورة رجل وقال لهم: إن موسى قد هرب منكم ولا يرجع إليكم أبدا فاجمعوا لي حليكم حتى أتخذ لكم إلها تعبدونه، وعندما جاء القوم بالذهب وصنعوا العجل .. ألقى السامري بالتراب الذي معه في جوف العجل. فلما وقع التراب في جوفه خار فسجد له أكثر بني إسرائيل!

 

قال تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ﴾(22) وكان اتخاذ العجل خطوة أساسية في عالم الانحراف ما زالت باقية في عالم المادة. وعلى الرغم من أن العجل قام موسى (عليه السلام) بنسفه في اليم ولم يعد له وجوب إلا أن العجل قبل أن ينسفه موسى كان قد شربته القلوب! يقول تعالى: ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾(23).

 

قال المفسرون: الإشراب هو السقي، والمراد بالعجل: حب العجل، وضع موضعه للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل(24)، لقد جريت ثقافته في الدماء، يبتلعها كل من وجد هواه فيها، ومن امتص قلبه الزخرف وقع تحت العقاب في أي زمان وفي أي مكان قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾(25).

 

قال المفسرون: أبهم الله تعالى ما سينالهم من غضبه وذلة الحياة. فلم يبين ما هما. رذيل الآية: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ يدل على أن غضب الله وذلة الحياة الدنيا. سنة جارية إلهية في المفترين على الله(26)، ونائلة لكل من افترى بدعة، فإن ذل البدعة ومخالفة الرشاد متصلة من قلبه على كتفه. وإن ذل البدعة على أكتافهم وإن همجلت بهم البغلات وطقطقت بهم البراذين. وقد نبه تعالى عباده وأرشدهم أنه يقبل توبة عباده(27). فالتوبة إذا تحققت بحقيقة معناها في أي سيئة كانت. لم يمنع من قبولها مانع(28).

 

وعقاب الذلة الذي ضربه الله على الذين اتخذوا العجل. ظل علامة مميزة لهم على امتداد الزمان يحمله الذين جاؤوا على أهوائهم جيلا بعد جيل. يقول تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾(29).

 

قال المفسرون. أي وضعت عليهم الذلة والمسكنة. وألزموا بها شرعا وقدرا. أي لا يزالون مستذلين من وجد هم استذلهم وأهانهم(30). إن الذلة كانت علامة آبائهم الأوائل الذين جلسوا حول العجل، وعندما جاء الذين يسيرون على هدى الآباء، قتلوا الأنبياء، لأن الأنبياء لم يأتوا لهم بما يستقيم مع الذي في قلوبهم. ويقول تعالى عن الذين يحملون علامات الذل في موضع آخر:

 

﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾(31).

 

قال المفسرون: إن الذلة مضروبة عليهم كضرب الخيمة على الإنسان أو كضرب السكة على الفلز فهم مكتوب عليهم أو مسلط عليهم الذلة إلا بحبل وسبب من الله. وحبل وسبب من الناس وقد كرر لفظ الحبل بإضافته إلى الله وإلى الناس لاختلاف المعنى بالإضافة، فإنه من الله القضاء والحكم تكوينا أو تشريعا، ومن الناس البناء والعمل. والمراد بضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم والدليل على ذلك قوله. ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ﴾ فإن ظاهر معناه أينما وجد هم المؤمنون أي تسلطوا عليهم، وهو إنما يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية، فيؤول معنى الآية إلى أنهم أذلاء بحسب حكم الشرع الإسلامي. إلا أن يد خلوا تحت الذمة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء.

 

وقال بعض المفسرين. إن قوله: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ ليس في مقام تشريع الحكم. بل إخبار عما جرى عليه أمرهم بقضاء من الله وقدر. فإن الإسلام أدرك اليهود وهم يؤدون الجزية إلى المجوس، وبعض شعبهم كانوا تحت سلطة النصارى، وهذا المعنى لا بأس به(32).

 

لقد اتبعوا عجول الفراعنة فضربتهم الذلة بعد عجل سيناء، ولأنهم يعلمون أن مقامهم في الذلة يتحدد بدقة، إذا هيمن الدين الحق، لم يدخروا جهدا في وضع العراقيل أمام مشاعل النور للدين الحق. واشتروا بذهب العجول كل رخيص وكل سلاح وأحصوا الكلمات وتتبعوا المواليد خوفا من أن يخرج منهم من يؤرق مضاجعهم وحاصروا الشواطئ وتحول كل واحد فيهم إلى هامان جديد.

 

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- سورة فصلت / 15.

2- سورة المائدة / 64.

3- سورة البقرة / 245.

4- ابن كثير ج2 / ص75.

5- الميزان ج6 / ص33.

6- سورة آل عمران / 181.

7- سورة المائدة / 70.

8- ابن كثير ج2 / ص80.

9- سورة المؤمنون / 71.

10- سورة النساء / 157.

11- سورة الشعراء / 227

12- سورة المائدة / 64.

13- الميزان ج6 ص36.

14- ابن كثير ج2 / ص76.

15- سورة المائدة / 62.

16- سورة النساء / 161.

17- ابن كثير ج1/ ص584.

18- سورة البقرة / 79.

19- ابن كثير ج1 / ص117.

20- سورة التوبة / 34.

21- تاريخ الجوع والخوف / تحت الطبع.

22- سورة الأعراف / 148.

23- سورة البقرة / 93.

24- الميزان ج1 / ص222.

25- سورة الأعراف / 152.

26- الميزان ج8 / ص253.

27- ابن كثير ج2/ ص248.

28- الميزان ج8 / ص253.

29- سورة البقرة / 61.

30- ابن كثير ج1 / ص102.

31- سورة آل عمران / 112.

32- الميزان ج3 / ص384.