الفتح المبين وانطلاقة الدعوة إلى الله

 

﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا / لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾(1)

 

قال بعض المفسرين إن المقصود بالفتح هنا هو خصوص فتح مكة، وقال آخرون أنه فتح خيبر وفدك، وقيل إنه إخبار عن صلح الحديبية والذي مثَّل انتصارًا سياسيًا سبق فتح مكة ومهّد له، وسمي هذا الصلح فتحًا لأنه جاء بعد أن أظهر الله تعالى نبيه على المشركين فطلبوا الصلح، وكان هذا الصلح هو المؤسس والممهد لفتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة النبوية المباركة، والصلح كان في السنة السادسة منها.

 

والرأي الذي يذهب إلى أنَّ المقصود منه صلح الحديبية يستند إلى حقيقة حرية حركة الرسول الأعظم (ص) وتفرغه للدعوة ولسائر بلاد العرب فغزاهم وفتح بلدانهم بدعوة الحق والإسلام والسلام وأدخل في الإسلام خلقًا عظيمًا.

 

وقيل إن معنى الفتح هو القضاء، وتقدير الآية الكريمة إنا قضينا لك أن تدخل مكة.

 

وروي أن الرسول (ص) لما رجع بعد صلح الحديبية قال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت وصُدَّ هدينا، فقال (ص): ب"ئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالتراح ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا".

 

وقد عُدَّ هذا الصلح هو الفتح العظيم لتمهيده فتح مكة عسكريًا بعد ما فتحت سياسيًا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى انطلق منه الانتصار الإسلامي وانتشر الدين في الجزيرة العربية، إضافة إلى ذلك فإنَّ الإسلام باعتباره حركة ناشئة في وسط بيئة تتميز بالكفر وعبادة الأصنام... فهو يعاكس حركة المجتمع في أفكاره وعاداته ومعتقداته، لذا فإن هذه الحركة إذا ما أريد لها أن تثبت نفسها فعليها السعي لتحصيل الاعتراف من المجتمع المحيط حتى يتسنى لها التحرك في ظهور وجلاء وبكل حرية وأمان، وهذا ما حصل بالتحديد فلقد اعترفت قريش وحلفاؤها بالدولة الفتية كأمر واقع، وقد تجلى هذا الاعتراف في بنود الصلح وخصوصًا في البند الذي يقول: من أراد من القبائل الانضمام إلى الرسول (ص) والتحالف معه أو الانضمام إلى قريش والتحالف معه فله ذلك، وهذا يعني أن هناك قوتَين ظاهرتَين وللآخرين الحرية في اختيار القوة التي يريدون الدخول في التحالفات معها أو الانضمام إليها.

 

وكان الرسول (ص) على يقين بأن قريش لن تلتزم بعهودها، وبذلك توجد المبرر للتحرك العسكري لفتحها عنوة. وهذا ما حصل بالتحديد. ومن المعطيات الهامة لهذا الفتح ما جاءت به الآية الكريمة ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾.

 

وذلك من باب إتمام النعمة والإظهار الإلهي والعلو الذي وعد به رسوله وعباده المؤمنين، وقد اختلف المفسرون في معنى الذنب بالنسبة للرسول الأعظم (ص) فمنهم من قال إنَّ للرسول (ص) ذنوبًا كانت قبل الدعوة فغفرها الله له وغفر له ما تأخر منها وهذا الرأي واضح البطلان إذ لا يعقل أن يكون الرسول (ص) مذنبًا وهو الذي أقرت بفضله حتى فراعنة قريش فكانوا يلقبونه بالصادق الأمين.

 

وقال آخرون إنَّ الرسول (ص) لم يذنب، إنما الذنب والغفران هو متوجه للأمة التي سأل رسول الله (ص) ربه أن يغفر لها فأجابه الله لذلك فكانت هذه الأمة هي الأمة المرحومة.

 

إلا أن الذي يبدو من كلمة الذنب أنها لا تنصرف على المعنى الظاهري لها وهو المعصية، وإنما كان الذنب يشير إلى ما كان عليه المشركين والكافرين من موقف معاد للنبي (ص) والرسالة الإسلامية إذ عدَّوها ذنبًا، وأنَّ الرسول (ص) كان بنظرهم مذنبًا لأنه خرج على معتقداتهم وأفكارهم وتمرد على الواقع الفاسد القائم، وهذا الذنب الذي بنظرهم قد تغيَّروا وصار أمرًا واقعًا بعد الصلح فارتفع التصور وغفر الذنب في نظرهم.

 

ومعنى هذا الأمر أن فتح مكة بغير قتل لهم ولا استئصال ولا أخذهم بما قدموه من العداوة والقتال، غفروا ما كانوا يعتقدونه ذنبًا لك عندهم متقدمًا أو متأخرًا، وقد سأل المأمون العباسي أبي الحسن الرضا (ع)، فقال له: يا بن رسول الله أليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ قال (ع): بلى، قال: فما معنى قول الله .. وتلا الآية إلى أن قال: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ فقال الرضا (ع): لم يكن أحد عند مشركي مكة أعظم ذنبًا من رسول الله (ص) لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنمًا فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص. كبر ذلك عليهم وعظم ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ / وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ / مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾(2). فلما فتح الله تعالى على نبيه (ص) مكة قال له: يا محمد ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا / لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ..﴾ عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا النَّاس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورًا بظهوره عليهم، فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.

 

وفي رواية أخرى عن محمد بن سعيد المروزي قال: قلت لرجل: أذنب محمد (ص) قط؟ قال: لا. قلت: فقول الله تعالى: ليغفر لك الله .. الآية، ما معناه؟ قال: إنَّ الله سبحانه حمَّل محمدًا ذنوب شيعة علي (ع) ثمّ غفر له ما تقدم منها وما تأخر.

 

ويؤيد هذه الرواية ما نقل في الرواية عن أبي الحسن الرضا (ع) أنه سئل عن قول الله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ..﴾.

 

فقال (ع): "وأي ذنب كان لرسول الله متقدمًا أو متأخرًا، وإنما حمّله الله ذنوب شيعة علي (ع) ممّن مضى منهم ومن بقي، ثمّ غفرها الله له".

 

1- سورة الفتح / 1-2.

2-  سورة ص / 5-7.