عدم جدوى النسب

﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ / قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ / وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ / وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ .. إن هذه الآيات تتطرق إلى حياة نبي الله نوح (صلوات الله وسلامه عليه) .. ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ .. إن عمره أكثر من تسعمائة وخمسين سنة؛ لأن هذه سنوات الدعوة، ومع ذلك ﴿ومَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾.

 

إن حياة نوح (ع) فيها محطات تأمل، ودروس نلخصها بما يلي:

 

الدرس الأول: النظر إلى السعي لا إلى النتيجة:

أن الإنسان في الدعوة لله عز وجل، عليه أن يكون طويلاً في نفَسه .. فالله (عز وجل) رأى عبده نوحا ساعيا طوال عمره، فقد كان يدعو الناس إلى الله (عز وجل) قرابة عشرة قرون .. ولهذا جُعل من الأنبياء أولي العزم؛ لأنه كان ساعيا في طاعة ربه .. وعليه، فإن المؤمن لا ينظر إلى الحصاد، ولا ينظر إلى الثمار، وإنما ينظر إلى سعيه .. لأن من ينظر إلى الثمرة وإلى النتيجة، لابد وأن يقصّر في السعي، فهو دائما يسعى بحسب الثمار: إن رأى ثمرة يسعى، وإن لم ير ثمرة لا يسعى، فمَثله كمثل المزارع .. ولكن المؤمن يعلم أن الثمار ليست في هذه الدنيا فحسب! .. فالمزارع الذي ينظر بعين المادة، إن عينه على الثمرة، لأنه لا يرى ثمرة للشجرة إلا ما يؤكل ويُلمس .. وأما المؤمن فإنه يعلم أن هناك ثماراً في عالم الغيب، وفي عالم البرزخ والقيامة، فما يضره أن لا يرى ثمرة في الدنيا، وهو يعلم أن الثمار الجنية في الآخرة .. فإذن، إن هذا مبدأ من مبادىء الدعوة إلى الله عز وجل.

 

الدرس الثاني: التدبير الإلهي:

إن نوحا (ع) يصنع سفينة في اليابسة، فلا هو بجوار البحر، ولا هو بجوار النهر، وليست هناك أيه فائدة لهذا السعي .. ولهذا كلما مر عليه ملأ من قومه، سخروا منه .. ولكن الله (عز وجل) هو المدبر .. فالتقدير الإلهي أن يبرمج للمستقبل في الحال .. إن هناك أحداثا كثيرة في زمان غيبة الإمام صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الأحداث ملحوظة في زمان الظهور .. وكما أن الله (عز وجل) أمر نوحاً بصنع السفينة قبل الطوفان، وقبل فوران التنور.. فكذلك رب العالمين يعد العدة لفرج وليه (صلوت الله وسلامه عليه).

 

الدرس الثالث: القوة النفسية:

﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ﴾ .. إن نوحا (عليه السلام) لم يخرج من طوره، ولم يقابل السخرية بالسباب والفحش والغضب، وإنما ﴿قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾؛ أي أنا المستهزىء بكم حقيقة، لا أنتم المستهزئون .. فهكذا هي طبيعة المؤمن في هذه الحياة الدنيا، أي يعيش القوة النفسية، فهو يرى المنحرفين عن خط الله عز وجل، ويرى ما عظمت من القوة تافهة بجوار قوة الله عز وجل .. ولهذا يعيش حالة الاطمئنان والهدوء التام.

 

الدرس الرابع: مسألة ابن نوح:

إن نوحا نبي وله ولد، ويبدو أن هذا الولد لم يخرج من قلبه تماما.. لأنه لما رأى الطوفان، ورأى ولده يغرق، تكلم مع الله بشكل مؤدب جدا، ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي﴾.

 

يقول المفسرون: إن كلمة (نادى) تدل على شدة الطلب، فلم يقل: ناجى، ولم يقل: تكلم همسا .. وإنما قال: نادى، فالمستغيث في الاضطرار يرفع صوته .. ونوح موعود بنجاة أهله المؤمنين، وهو يرى بحسب الظاهر أن ولده مؤمن ﴿وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ .. فنوح (عليه السلام) لم يسأل الله سؤالا مباشراً، إنما قال: يارب! .. فمن ناحية هو ابني من أهلي، ومن ناحية أخرى أنك قد وعدتني بالنجاة .. فالسؤال مبطن، ومعنى ذلك: أسألك يارب نجاة ولدي!.

 

فنوح (عليه السلام) لم يطرح التكليف على رب العالمين .. وهذا هو الأدب بالنسبة إلى خطاب رب العالمين .. وهناك حديث قدسي مضمونه: (ادعني ولا تعلمني) .. أي أطلب الطلب، وقدم ما بيدك، ولا تعيّن التكليف من رب العالمين .. ولهذا قال نوح (ع): ﴿وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ .. ومع أنه كان مؤدباً في طلبه، نلاحظ أن هناك عتابا ربانيا بليغا .. فالله (عز وجل) من شدة قربه وشفقته، فإنه يتكلم مع الأنبياء بكل صراحة وبكل وضوح، ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾؛ أي أنه هو بحسب الظاهر ابنك، ولكن خرج من دائرتك .. وهذا تهذيب لكل من ينتسب إلى النبي (صلى الله وعليه وآله وسلم) نسباً أو اتباعاً: سواء كان من أمة النبي عقيدةً، أو كان من ذرية النبي نسباً .. فابن نوح خرج عن خط أبيه، فجاءه الخطاب: يا نوح! .. أنت بريء من ولدك.

 

فإذن، إن هذه قاعدة عامة: وهي أن الارتباط بالنبي نسباً أو اتباعاً، أو من أمته (صلى الله عليه وآله) يدور مدار الاتباع، ويدور مدارالانتساب العملي .. ولهذا نلاحظ بأن نبي الله نوح بعد ذلك أهمل أمر ولده، ورآه يغرق من دون أن يتصرف بأي شيء، لأن الله (عز وجل) قد حكم عليه بالغرق .. ومن الغريب أن إنسانا يتربى في أحضان نبي، ولكن لا يستفيد من هذه الفرصة!.

 

فكم من المؤمنين يعيشون أجواء المساجد، ويعيشون في بلاد المسلمين، ويعيشون في أجواء مشجعّة تحت يدي أبوين مؤمنين، ولكن لا يستغل هذه الأجواء! .. فابن نوح يرى الطوفان، والسماء وهي تمطر، والأرض تنبع الماء، ومع ذلك فإن هذا الإنسان الذي لا عقل له يقول في مقابل ذلك: ﴿سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء﴾ .. فقد جعل الجبل الصامت الذي لا نطق له، في قبال سفينة والده، تلك السفينة المنجية بأمر الله عز وجل .. فكم من الشقاء أن يرى ابن نوح يوم القيامة، أن الدواب قد نجت في سفينة نوح -لأنه أمر بأن يحمل من كل زوجين اثنين- ولكنه هو لم ينجُ.

 

وعليه، فإن الاعتماد على الأجواء المهيئة: الأجواء الدينية، والأسر المحافظة .. فإن هذا لا يغني، إذا لم يكن هناك سعي حثيث من العبد نفسه، في استغلال هذه الأجواء .. ولطالما اعتمد الإنسان على نسبه، وعلى أسرته، وعلى تاريخه الماضي .. وهنا نقطة مهمة، وهي أن الإنسان في بعض الأوقات، يركن إلى ماضيه .. فيشغله الشيطان بالماضي المشرق، ليلهيه عن الحال وعن المستقبل، ويقول له: أنت كنت كذا وكذا .. وبالتالي، فإنه يرى لنفسه رصيداً كبيراً، بمثابة التاجر الذي ينظر إلي حساباته المصرفية، فيرى رصيداً هائلاً، فيتقاعس عن العمل؛ وهو لا يعلم أن هذا الرصيد سيصادر إن لم يستمر في سعيه .. وهذا هو الشيطان في المرصاد، لمصادرة الجهود الماضية، والتقدم العلمي والعملي، فيما مضى من أيام حياتنا.