انحرافات فرعون موسى (ع) -4

6- المجازر والخوف والاستكبار:

عندما ألقى السحرة بحبالهم وعصيهم، وسحروا أعين الناس. صار الوادي وكأنه ملآن بالحيات يركب بعضها بعضا، وعندما ألقى موسى (عليه السلام) بعصاه، صارت تنينا عظيما هائلا ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي، حتى لم تبق منها شيئا إلا تلقفته، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عيانا جهرة نهارا ضحوة، فقامت المعجزة واتضح البرهان(1).

 

يقول تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ / فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ / فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ / وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ / قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ / رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾(2).

 

قال المفسرون: السحرة هم الذين ألقوا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، وذلك إشارة إلى كمال تأثير آية موسى فيهم وإدهاشها إياهم، فلم يشعروا بأنفسهم حينما شاهدوا عظمة الآية وظهورها عليهم، إلا وهم ملقون ساجدون.

 

فاضطرتهم الآية إلى الخرور على الأرض ساجدين، والإيمان برب العالمين الذي اتخذه موسى وهارون. وفي ذكر موسى وهارون دلالة على الإيمان بهما مع الإيمان برب العالمين. كما أن بيانهم رب العالمين برب موسى وهارون إشارة إلى رفضهم لعقيدة (رع) رب العالمين الذي تجري دماؤه في عروق الدجاجلة الكبار والصغار، وعلى رأسهم الفرعون المتكبر المسرف العالي في الأرض. وما إن أع لن السحرة ذلك، حتى هاج فرعون، وبدأ يلقي بالاتهامات ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾(3)! قوله إنه لكبيركم ورقة سياسية يريد بها تهييج العامة عليهم، فهو يريد أن يقول: إنهم تواطأوا مع رئيسهم عند المنازلة فتخاذلوا وانهزموا وآمنوا لتتبعهم العامة وتذهب الطريقة المثلى! ولهذا قال في موضع آخر: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾(4)!

 

وبدأ فرعون يحدد العقاب، فقال للسحرة: ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾(5) وفي الوقت الذي كان فرعون يهدد فيه بالعقاب، جاءه الرد من السحرة: ﴿قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ / وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾(6).

 

قال المفسرون: لقد آمنوا بالبعث، وذلك في قوله: ﴿قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾. وقد قابلوه بما يبطل كيده، وتنقطع به حجته، وهو أنك تهددنا بالعذاب قبال ما تنقم منا من الإيمان بربنا ظنا منك أن ذلك شر لنا، إن ذلك ليس بشر لأننا نرجع إلى ربنا، وإن ما تظنه أنت جرما هو لنا خير. لقد حطموا له قاعدته: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾. أخبروه أنهم قد تحققوا أنهم إلى الله راجعون. وأن عذاب الله أشد من عذابه. وأنهم يصبرون اليوم على عذاب فرعون طمعا في أن ينجيهم الله من عذابه الأليم يوم القيامة، ولهذا قالوا: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ أي عمنا بالصبر على دينك والثبات عليه ﴿وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ أي متابعين لموسى وهارون، وقالوا لفرعون: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ وهكذا كانوا في أول النهار سحرة يقولون قد أفلح اليوم من استعلى. ويلقون حبالهم قائلين بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون. وبعد أن شاهدوا آية ربهم لما جاءتهم آمنوا، ثم وقفوا بإيمانهم أمام الجبروت الفرعوني، واستغاثوا بربهم أن يفرغ عليهم الصبر، لقد شبهوا أنفسهم بالآنية والصبر بالماء، وإعطاءه بإفراغ الإناء بالماء، وهو صبه فيه حتى يغمره، وإنما سألوا ذلك ليفيض الله عليهم من الصبر، ما لا يجزعون به عند نزول أي عذاب وألم ينزل بهم.

 

لقد طلبوا الصبر عليهم، لأن الفرعون قاس، وفي آخر النهار كان السحرة على جذوع النخل. تجري الدماء من أطرافهم، لكنها كانت دماء كماء الصبر، وهكذا بدأوا النهار سحرة وختموه شهداء بررة. أما فرعون فانطلق إلى قصره كالثور الهائج يهدد ويتوعد ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾(7).

 

قال المفسرون: هذا إغراء من القوم لفرعون وتحريض له أن يقتل موسى وقومه، لأنهم يفسدون أهل رعيته ويدعونهم إلى عبادة ربهم وترك آلهة فرعون وعبادته(8). وكانت الألوهية في عهد الأسرة التاسعة عشرة (1308-1194 ق. م) معقودة (لآمون رع) وكان فرعون يمثله على الأرض!

 

ويحكم باسمه(9). فكان رد فرعون (ابن آمون رع!) أن وعد الملأ من قومه .. أن يعيد إلى بني إسرائيل تعذيبه السابق، وهو قتل أبنائهم واستحياء نسائهم واستبقاؤهن للخدمة، وعقب بقوله: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ وهو تطييب قلوبهم وإسكان ما في نفوسهم من الاضطراب(10).

 

وبعد وعده لقومه بقتل أبناء بني إسرائيل. جلس مع مجموعة مجملة، وحددوا أن الذي ينبغي أن يقتل من بني إسرائيل هم أبناء الذين آمنوا لا غير. يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ / وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ / إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ / فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ﴾(11) فبين الوعد بالقتل في قوله: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ﴾ وبين التنفيذ في قوله: ﴿اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ إشارة إلى تدخل أطراف في تحديد من الذي يقتل. ولما كان تحديد أبناء الذين آمنوا قد جاء في آية يتصدرها فرعون وهامان وقارون، فإن قارون بصفته أميرا على بني إسرائيل من قبل فرعون، يكون قد ساهم مساهمة فعالة في التحديد وفي التنفيذ.

 

وعن مجموعة العمل هذه يقول المفسرون: أما فرعون فهو الجبار حاكم القبط، وأما هامان فوزيره، وأما قارون فمن طغاة بني إسرائيل ذو الخزائن المليئة، ولقد اختص الله الثلاثة بالذكر، لكونهم أصولا ينتهي إليها كل فساد، وقد جاءهم موسى بالحق، وكان من الواجب أن يقبلوه ولا يردوه لأنه حق. وكان ما جاءهم به من عند الله، وكان من الواجب أن يقبلوه ولا يردوه، فقابلوه بالكيد، وصدوا عن سبيل الله وأمروا بقتل أبناء الذين آمنوا!

 

لم تكن ملامح الفطام على جذوع النخل فقط حيث صلب السحرة، ولم تكن في بيوت ضعفاء قوم موسى، وإنما كانت ملامحه أيضا داخل القصر الفرعوني نفسه، فالسيدة آسية زوجة فرعون لم تنج من البطش لأنها آمنت برسالة موسى (عليه السلام)، وهي التي كانت تتعهده عندما كان صغيرا في بيت فرعون، يقول تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(12).

 

قال المفسرون: قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة: الجمع بين كون البيت المبني لها عند الله في الجنة. لكون الجنة دار القرب من الله وجوار رب العالمين. فقد اختارت جوار ربها والقرب منه، على أن تكون أنيسة فرعون وملكة مصر، وآثرت بيتا يبنيه لها ربها على بيت فرعون، الذي فيه مما تشتهيه الأنفس وتتمناه القلوب. لقد عزفت نفسها عما هي فيه من زينة الحياة الدنيا، وهي لها خاضعة، وتعلقت بما عند ربها من الكرامة والزلفى، فآمنت بالغيب، واستقامت على إيمانها حتى لقت ربها شهيدة. وقولها: ونجني من فرعون وعمله، سؤال أن ينجيها الله من شخص فرعون، ومن عمله الذي يدعو ضرورة المصاحبة والمعاشرة. لقد استغاثت بالله من مجتمعها الخاص. وقولها: ونجني من القوم الظالمين -وهم قوم فرعون- كان استغاثة بالله أن ينجيها من المجتمع العام، لقد رفضت آسية الخاص والعام، وطلبت القرب والجوار فجمعت بين الكرامتين.

 

قتلها فرعون بعد خزيه في يوم الزينة، عندما علم بإيمانها برسالة موسى (عليه السلام) كما قتل الماشطة وأولادها وكانت الماشطة تقوم بخدمة بنات فرعون، قتلها ومعها أولادها عندما علم أنها رفضته ورفضت شذوذ آبائه، لقد تتبع فرعون كل طاقة تحمل نور الإيمان وأجرى فيها الدماء. كان أطفال المؤمنين في الماء المغلي، ثم يقطع أطراف الآباء بين ضحكات الملأ وهتاف الجماهير. لقد كانوا يظنون أنهم يبلغون مع كل قتيل يقتلونه القمة! وأن الأطراف المقطوعة والأجساد المعلقة على جذوع النخل بطوله لا تحتاج دليل.

 

1- الخوف:

في عالم ما أريكم إلا ما أرى ترتجف الفطرة ويعم الخوف! وفي عالم فرعون خاف الكل من الكل! وكان مجرد ذكر اسم موسى جريمة في قانون فرعون وبهذا صد فرعون عن سبيل الله. يقول تعالى: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ / وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ / فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ / وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾(13).

 

قال المفسرون: قال البعض إن الضمير في قومه راجع إلى فرعون والذرية التي آمنت من قوم فرعون، وقال آخرون ومنهم ابن جرير: إن الضمير لموسى والمراد بالذرية جماعة من بني إسرائيل لا من قوم فرعون(14).

 

وذهب صاحب الميزان مع ابن جرير فيما قال. وقال: والذي يفيده السياق -وهو الظاهر من الآية-، أن يكون الضمير راجعا إلى موسى، والمراد بالذرية من قوم موسى. بعض الضعفاء من بني إسرائيل دون ملئهم الأشراف الأقوياء، والاعتبار يساعد على ذلك، فإن بني إسرائيل كانوا محكومين بحكم آل فرعون، والعادة الجارية في أمثال هذه الموارد، أن يتوسل الأقوياء والأشراف بأي وسيلة أمكنت، إلى حفظ مكانتهم الاجتماعية وجاههم القومي -كقارون مثلا- ويتقربوا إلى الجبار المسيطر عليهم بإرضائه بالمال والتظاهر بالخدمة والتجنب عما لا يرتضيه، فلم يكن في وسع الملأ من بني إسرائيل، أن يعلنوا موافقة موسى على دعوته وأن يتظاهروا بالإيمان به، وقصص بني إسرائيل في القرآن أعدل شاهد على أن كثيرا من عتاة بني إسرائيل ومستكبريهم لم يؤمنوا بموسى إلى أواخر عهده، وإن كانوا يسلمون له ويطيعونه في عامة أوامره التي كان يصدرها لبذل المساعي في سبيل نجاة بني إسرائيل. لما كان فيها صلاح قوميتهم وحرية شعبهم ومنافع أشخاصهم، فالإطاعة في هذه الأمور شئ والإيمان بالله وما جاء به الرسول شئ آخر، ويستقيم على هذا المعنى قوله: (وملإيهم) بأن يكون الضمير إلى الذرية.

 

ويفيد النص أن الذرية الضعفاء كانوا في إيمانهم يخافون الملأ والأشراف من بني إسرائيل. فإن الأشراف في بني إسرائيل ربما كانوا يمنعونهم لعدم إيمانهم أنفسهم، أو تظاهروا بذلك ليرضوا به فرعون وقومه(15).

 

وخلاصة ما نريد أن نقوله: إن الضعفاء كانوا يخافون من الداخل ومن الخارج، ففي الداخل يوجد أصحاب المصالح الذين يضحون بأي شئ في سبيلها، وفي الخارج فرعون وهامان وجنودها.

 

أما فرعون فهو عال في الأرض لا يعدل فيما يحكم ويتفنن في التعذيب والقتل، وأما هامان فبقاؤه في بقاء فرعون وأما الجنود فغوغاء أتباع لكل ناعق، لقد كان الضعفاء يخافون على دينهم الذي يدفعون من أجله أبناءهم. من الذين يخافون على دنياهم ولا يتحرجون في فعل أي شئ من أجل الحفاظ إما على المصلحة وإما على الكرسي. إن عالم الخوف هذا الذي وضع قيوده وأسواره حول الفطرة. يعود إلى النظام الذي أقامه فرعون، فنظام فرعون هو أخطر النظم على الفطرة، لأنه محمل بالذهب وغني بالمصالح ومسلح بالبطش ويسهر عليه فقهاء فرق وشيع كل منهم يقدم هوى، وجميع الأهواء تصب في النهاية عند ابن آمون وفي عالم الخوف هذا يقول تعالى: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(16).

 

قال المفسرون: لقد استنهضهم للاستعانة بالله والصبر على الشدائد، لأن الأرض يورثها من يشاء، وفرعون لا يملك الأرض حتى يمنحها من يشاء، ويمنع من التمتع بها من يشاء. وقد جرت السنة الإلهية أن يخص الله من يتقيه من عباده بحسن العاقبة، والله تعالى نظم الكون نظما يؤدي كل نوع إلى غاية وجوده وسعادته التي خلق لأجلها، فإن جرى على صراطه الذي ركب عليه، ولم يخرج عن خط سيره الذي خط له، بلغ سعادته لا محالة، والإنسان الذي هو أحد هذه الأنواع أيضا حاله هذا الحال، إن جرى على صراطه الذي رسمته له الفطرة، واتقى الخروج عنه والتعدي منه إلى غير سبيل الله، هداه الله إلى عاقبته الحسنة، وأحياه الحياة الطيبة، وأرشده إلى كل خير يبتغيه.

 

إن فرعون لا يملك الأرض، وإنما يمتلك أجسادا في سجون أهوائه، والأرض لله، والعاقبة مطلقا للمتقين. وعلى المتقين يجري الاختبار. قد يكون اختبارهم تحت مظلة فرعون، وقد يكون تحت مظلة عاد أو ثمود أو أصحاب الأيكة. وفي جميع الأحوال، فإن أصحاب مظلات الصد عن سبيل الله، يتربعون على عروش هي أنسب شئ لشقاء لا ينتهي. فالأرض عليها تقي وشقي، فالمتقي لا يعنيه إن كان في القمة أو في القاع لأنه يأخذ بالأسباب ويسير في حياته وفقا لفقه الحلال والحرام، والشقي هو تحت الزخرف والزينة شقي، لأنه يقيم حياته على مقاييس تتصادم مع الكون وفطرة الوجود، ولذلك فزواله حتمي، لأن زواله سنة من سنن الوجود.

 

لقد كان الضعفاء يخافون من جبابرة الداخل والخارج، وكان موسى (عليه السلام) يبث فيهم الاستعانة بالله والصبر على الشدائد، وعندما قالوا له: ﴿أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾(17) قال لهم قولا بليغا ينسف قواعد تجار الأهواء والمصالح من بني إسرائيل، الذين حرفوا التوراة بعد ذلك، معتبرين أن العاقبة لبني إسرائيل، ولا تحتمل شرطا ولا قيدا: ﴿قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾(18).

 

قال المفسرون: كأنه قال: ما أمرتكم به. أن اتقوا الله في سبيل مقصدكم، هذه كلمة حية ثابتة، فإن عملتم بها كان من المرجو أن يهلك الله عدوكم ويستخلفكم في الأرض.

 

بإيمانكم إياها. والله لا يصطفيكم بالاستخلاف اصطفاء جزافا، ولا يكرمكم إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد، بل ليمتحنكم بهذا الملك، ويبتليكم بهذا الاستخلاف، فينظر كيف تعملون، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء﴾(19) والقرآن بهذا يبين خطأ ما يعتقده اليهود من كرامتهم على الله كرامة لا تقبل عزلا. ولا تحتمل شرطا ولا قيدا، والتوراة تعد شعب إسرائيل شعب الله الذين لهم الأرض المقدسة، كأنهم ملكوها من الله سبحانه ملكا لا تقبل نقلا ولا إقالة(20) وقد بينا زيف ذلك الادعاء في سلسلة بحوثنا عن المسيح الدجال الذي مقدر له الخروج آخر الزمان.

 

لقد واجه الذين آمنوا الخوف الذي غرس فرعون رموزه وأوتاده وقضبانه في كل مكان، وأمام سيل الخوف الجارف بث موسى (عليه السلام) بين أتباعه الصبر، كان فرعون يقتل الأطفال. فيروي الذين آمنوا الدماء بالدموع، ويقدمون الحزن والآهات والدموع إلى موسى كي يشهد عليها ويرفعها في دعائه إلى الله.

 

2- الاستكبار:

لم يستطع فرعون أن يواجه حجة موسى (عليه السلام) التي دمر بها عقيدة الشمس وفروعها، تلك العقيدة التي قالت بأن الآلهة قد زاولوا مهمة الحكم على الأرض يوما! ثم غادروها ليأتي بعد ذلك أبناؤهم من البشر ليحكموا أهلها. لقد دمر الأصنام التي شيدتها الأساطير أصنام (رع) (أوزير) (آمون) (حور) (بتاح) (آتوم) (حتحور) (أبيس) (تحوت) ذلك الطابور الذي تعد أوثانه بالآلاف. وعندما لم يستطع فرعون وفقهاؤه أن يواجهوا حجج موسى ومعجزاته القاهرة مارسوا عمليات قتل الأطفال والرجال والنساء، ولأن عمليات القتل لم يتدخل فيها من يقهر فرعون ويجبره على الكف عنها.

 

تطاول فرعون في هذا الميدان الخالي، واستغل هذا الموقف أمام شعبه. فطلب منهم أن يتركوه ليقتل موسى. وليدع موسى ربه ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (21).

 

قال المفسرون: ﴿ذَرُونِي﴾ أي اتركوني. خطاب يخاطب به ملأه. وفيه دلالة على أن هناك مانعا يمنعه. مانعا شخصيا وهو أنه عاجز عن ذلك.

 

يقول الله تعالى لموسى: ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا﴾(22) ومانعا داخليا أنه كان هناك من يشير عليه أن لا يقتل موسى ويكف عنه، وهؤلاء جاء ذكرهم في كتاب الله كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾(23) فقوله: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾ كان فرعون يريد به أهدافا سياسية، اتخذ موسى مدخلا لها. وهو وإن كان لم يظهر عجزه أمام شعبه إلا أنه تاجر بهامش (الديمقراطية) التي يعطيها لهم لتصب في أهدافه في نهاية الأمر .. فسياسة ﴿ذَرُونِي﴾ تفيد أن هناك اعتراضا على قتل موسى، وهذا الاعتراض يستقيم مع الخوف الداخلي للفرعون.

 

وخوف فرعون الداخلي هذا، لا يتعارض مع خروجه وراء موسى بعد ذلك إلى البحر الذي لاقى فرعون فيه حتفه. لأن هذا الخروج كان يخضع لسنة الاستئصال، فالله تعالى أخرجه من دائرة الغيظ التي كانت تشتعل بداخله لعدم مقدرته قتل موسى الذي يهدد ملكه، كما أخرجه وأخرج قومه من جنات وعيون وكنوز. كان فرعون يعطيهم فيها مسحة من الحرية التي تصب في أهدافه يقول تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ / وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيم﴾(24).

 

﴿وقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾.

 

قال المفسرون: وقوله: ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ أي فليدع ربه أن ينجيه من يدي وليخلصه من القتل إن قدر .. وقوله هذا مكمل لما سبق للوصول إلى أهدافه السياسية، فكأنه يقول لقومه: اتركوني أقتل موسى الذي يقول لكم: إنه رسول رب العالمين، وليدع ربه أن يخلصه من القتل، فأنتم شاهدتم وتشاهدون أنني أقتل أتباع موسى ولم يخلصهم إله موسى من يدي، وهذا يثبت ألوهيتي .. وبعد هذه المقدمة طرح فرعون أهدافه ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾(25) فعدم مقدرته على قتل موسى، جعله يفكر في فرض حصار على دعوة موسى حتى لا تنتشر بين المصريين.

 

قال المفسرون: ذكر لهم أنه يخاف موسى عليهم من جهة دينهم ومن جهة دنياهم. أما من جهة دينهم والذي هو عبادة الأوثان. فأن يقوم موسى بتبديله ويضع موضعه عبادة الله وحده، وأما من جهة دنياهم، فإنه إذا عظم أمر موسى وتقوى جانبه وكثر متبعوه فيترتب على هذا تمرد. وينتهي الأمر إلى ضياع الأمن في البلاد(26).

 

لقد كانت أطروحات فرعون تنطلق من دائرة التكبر والجحود والعناد، فهو يقتل ولكن دماء القتيل ستطوق عنقه يوم القيامة، وهو يدافع عن دين الأوثان ودنيا الأوثان لأن في هذا مصلحته، ويوم القيامة سيقف هو وأتباعه يلعن بعضهم بعضا، وبعد خطاب فرعون الذي أراد به أن يحاصر الدعوة قال موسى (عليه السلام): ﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾(27).

 

قال المفسرون: قوله: ﴿عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم﴾ فيه مقابلة منه لفرعون في قوله: ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ حيث خص فرعون ربوبية الله بموسى.

 

فأشار موسى بقوله: ﴿عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم﴾ أي أنه تعالى ربهم كما هو ربه، نافذ حكمه فيهم كما هو نافذ فيه، ومن هنا يظهر أن الخطاب في قوله: ﴿وَرَبِّكُم﴾ لفرعون ومن معه دون قومه من بني إسرائيل. وقوله: ﴿­مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ يشير إلى فرعون وكل من يشاركه في صفتي التكبر وعدم الإيمان بيوم الحساب ولا يؤمن من اجتمعت فيه الصفتان أصلا(28).

 

ولم يذهب التهديد بقتل موسى (عليه السلام) سدى، فلقد انتفض الإيمان ممثلا في مؤمن آل فرعون، الذي قام وواجه الجبابرة بأبلغ الكلام وأقوى الحجج. لقد قام مؤمن آل فرعون بعد خطاب فرعون. وألزم نفسه أن ينطق بالعدل في عالم يحرمه الأجساد ولا يعدل في حق الله أو حق الناس.

 

يقول تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ / يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾(29).

 

قال المفسرون: كان الرجل من القبط من خاصة فرعون. وهم لا يعلمون بإيمانه لكتمانه إياهم ذلك تقية، ولقد أنكر قتلهم لموسى، وأخبرهم بأن موسى جاءهم بالبينات من ربهم، وعلى هذا فقتله هو قتل رجل جاء بالحق من ربهم، ثم قال لهم إن يك موسى صادقا. يصبكم ما وعدكم من أنواع العذاب. وإن يك كاذبا. كفاه كذبه. ثم قال: يا قوم لكم الملك اليوم غالبين عالين في أرض مصر. على من دونكم من بني إسرائيل. فمن ينصرنا من أخذ الله وعذابه كما يعدنا به موسى إن جاءنا. وقد أدخل المؤمن نفسه فيهم على تقدير مجئ البأس، ليكون أبلغ في النصح وأوقع في قلوبهم، إنه يريد لهم من العافية ما يريده لنفسه، وكان رد فرعون على ما أشار به المؤمن: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾ أي ما أقول لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي، وأنه على يقين مما يهدي إليه قومه، وأمام هذا الاستكبار الفرعوني قال المؤمن: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ / مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ﴾(30).

 

قال المفسرون: لقد حذر قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة، وذكرهم بالذين كذبوا رسل الله في القديم كقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من الأمم المكذبة، كيف حل بهم بأس الله، وما رده عنهم راد ولا صده عنهم صاد، وما أهلكهم الله إلا بذنوبهم وتكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره، وما الله يريد ظلما للعباد(31).

 

وبعد أن ذكرهم بالأمم الماضية. ذكرهم بيوسف (عليه السلام) فقال: ﴿وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ﴾(32).

 

قال المفسرون: أقسم لقد جاءكم يوسف من قبل بالآيات البينات التي لا تدع ريبا في رسالته من الله. فما زلتم في شك مما جاءكم به ما دام حيا، حتى إذا هلك ومات قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا، فناقضتم أنفسكم ولم تبالوا، ثم أكده بقوله: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ﴾(33) وكان الله تعالى قد بعث في مصر رسولا من قبل موسى وهو يوسف (عليه السلام) كان عزيز أهل مصر، وكان رسولا يدعو إلى الله أمته بالقسط، فما أطاعوه تلك الطاعة إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي، وعندما مات قالوا طامعين لن يبعث الله من بعده رسولا! وذلك لكفرهم وتكذيبهم، ومن كان حاله هذا يضله الله لإسرافه في أفعاله وارتياب قلبه(34).

 

وبعد أن قام المؤمن بتشخيص حالة القوم، قام بوصف المسرف المرتاب فقال: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾(35).

 

قال المفسرون: وصف لكل مسرف مرتاب، فإن من تعدى طوره بالإعراض عن الحق واتباع الهوى، واستقر في نفسه الارتياب، فكان لا يستقر على علم ولا يطمئن إلى حجة تهديه إلى الحق، جادل في آيات الله بغير برهان إذا خالفت مقتضى هواه، وقوله: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ يفيد أن قلوبهم مطبوع عليها فلا يفقهون حجة ولا يركنون إلى برهان(36) ومن كانت هذه صفته لا يعرف بعد ذلك معروفا ولا ينكر منكرا(37).

 

كان الرد الفرعوني. على هذا العلم الواسع. هو رد المسرف الكذاب والمسرف المرتاب والمتكبر الجبار، لقد أشار إلى مجموعة عمله ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ / أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾(38).

 

قال المفسرون: أمر منه لوزيره هامان أن يبني له بناء يتوصل به إلى الإطلاع إلى إله موسى! ولعله أصدر هذا الأمر أثناء محاجة الذي آمن، ولذلك وقع ذكره بين مواعظ الذي آمن واحتجاجاته، والمعنى: آمرك يا هامان ببنائه، لأني أرجو أن أبلغ بالصعود عليه الأسباب، ثم فسر الأسباب بقوله: ﴿أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ﴾ وفرع عليه قوله: ﴿فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ كأنه يقول: أن الإله الذي يدعوه ويدعو إليه موسى ليس في الأرض إذ لا إله فيها غيري. فلعله في السماء، فابن لي صرحا لعلي أبلغ بالصعود عليه الأسباب السماوية الكاشفة عن خبايا السماء، فأطلع من جهتها إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا. وقيل: إن مراده أن يبني له رصدا يرصد فيه الأوضاع السماوية لعله يعثر فيها على ما يستدل به على وجود إله موسى. بعد اليأس من الظفر عليه بالوسائل الأرضية. وهذا لا يستقيم على شئ من مذاهب الوثنية، ولعل فرعون قال ذلك تمويها على الناس أو جهلا منه، وما هو من الظالمين ببعيد، ولقد زين الشيطان له قبيح عمله فرآه حسنا، وصده عن سبيل الرشاد، فرأى انصداده عنها ركوبا عليها، فجادل في آيات الله بالباطل، وأتى بمثل هذه الأعمال القبيحة والمكائد السفهية لإدحاض الحق ولذلك ختمت الآية ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾ أي هلاك وانقطاع(39).

 

وبعد صدور الأوامر ببناء الصرح من الذي يقول لقومه: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ هرول الجميع من أجل تنفيذ التعليمات الفرعونية ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ / وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ﴾(40) إنها ثقافة عقيدة الشمس. فالقوم يعتقدون أن الآلهة في الفضاء أجسام تحل أرواحها على الأرض في أصنام من حجارة وأصنام من بشر، لقد كان فرعون الذي يهدي قومه سبيل الرشاد يرى أن الله تعالى جسم ساكن في بعض طبقات الجو أو في الأفلاك! فكان يرجو إذا نظر من الصرح أن يطلع إليه، وهو يعلم أنه لن يستطيع أن يقدم لقومه دليلا واحدا على أنه الآلهة (آمون) و(رع) وغيرهما لهم وجود في الفضاء أو في الأرض، لأن أوثانه لا توجد إلا داخل الأساطير الخرافية التي زينها الشيطان ثم احتوتها مدارس الفراعنة! إن الأمر ببناء الصرح كان له أهداف سياسية يريد بها التعمية على الناس وإضلالهم، إنها سياسة ما أريكم إلا ما أرى. التي تصب في إناء ابن آمون، ولأنها سياسة خالية من الرشد والرشاد، خاطب المؤمن قوم فرعون كما يقول تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ / يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾(41).

 

قال المفسرون: دعاهم إلى اتباعه ليهديهم، واتباعه اتباع لموسى. وفي قوله: ­﴿أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ تعريض لفرعون حيث قال: ﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ ثم بين لهم أن الذي يستند إليه سلوك سبيل الرشاد، ولا يستغني عنه الدين الحق هو الإعتقاد بأن للإنسان حياة خالدة مؤبدة .. هي الحياة الآخرة، وأن هذه الحياة الدنيا متاع في الآخرة، ومقدمة مقصودة لأجلها، ولذلك بدء به في بيان سبيل الرشاد. ثم ذكر السيئة والعمل الصالح ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(42) فقد أجمع الدين الحق، وهو سبيل الرشاد في أوجز بيان، وهو أن للإنسان دار قرار، يجزى فيها بما عمل في الدنيا من عمل سئ أو صالح، فليعمل صالحا ولا يعمل سيئا، وزاد بيانا، إذ أفاد أنه إن عمل صالحا يرزق بغير حساب(43).

 

ثم ختم المؤمن الذي يعيش في ديار الاستكبار بيانه بدعوة لا يرفضها إلا مسرف مرتاب ومتكبر جبار قال: ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ / تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ / لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ / فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾(44).

 

قال المفسرون: قال: يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة، أي النجاة من النار، وتدعونني إلى النار. وقد كان يدعوهم إلى سبب النجاة، ويدعونه إلى سبب دخول النار، ثم فسر ما دعوه إليه وما دعاهم إليه. فقال: تدعونني لأكفر. أي إلى أن أكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم، أي أشرك به شيئا لا حجة لي على كونه شريكا، فأفتري على الله بغير علم، وأنا أدعوكم إلى العزيز الذي يغلب ولا يغلب، الغفار لمن تاب إليه وآمن به، أي أدعوكم إلى الإيمان به والإسلام له .. لقد ثبت ثبوتا أن ما تدعونني إليه، مما تسمونه شريكا له سبحانه. ليس له دعوة في الدنيا. إذ لم يعهد نبي أرسل إلى الناس من ناحية ليدعوهم إلى عبادته، ولا في الآخرة إذ لا رجوع إليه فيها من أحد، وأما الذي أدعوكم إليه، وهو الله سبحانه، فإن له دعوة في الدنيا، وهي التي تصداها أنبياؤه ورسله المبعوثون من عنده، المؤيدون بالحجج والبينات، وفي الآخرة وهي التي يتبعها رجوع الخلق إليه لفصل القضاء بينهم .. ومن المعلوم أن الربوبية لا تتم بدون دعوة في الدنيا ونظيرتها الدعوة في الآخرة، وإذا كان الذي يدعوهم إليه ذا دعوة في الدنيا والآخرة، دون ما يدعونه إليه، فهو الإله دون ما يدعون إليه.

 

وقوله: ﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ معطوف على قوله: ﴿أَنَّمَا تَدْعُونَنِي﴾ أي لا جرم أن مردنا إلى الله، فيجب الإسلام له واتباع سبيله ورعاية حدود العبودية، ولا جرم أن المسرفين وهم المتعدون طور العبودية -وهم أنتم- أصحاب النار، فالذي أدعوكم إليه فيه النجاة دون ما تدعونني إليه. ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ صدر الآية موعظة وتخويف لهم، وهو تفريع على قوله: ﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ﴾ أي إذا كان لا بد من الرجوع إلى الله، وحلول العذاب بالمسرفين، وأنتم منهم ولم تسمعوا اليوم ما أقول لكم، فستذكرون ما أقول لكم حين عاينتم العذاب، وتعلمون عند ذاك أني كنت ناصحا لكم(45).

 

﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد﴾.

 

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- ابن كثير ج3 / ص158.

2- سورة الأعراف / 122.

3- سورة طه / 71.

4- سورة الأعراف / 123.

5- سورة طه / 71.

6- سورة الأعراف / 125-126.

7- سورة الأعراف / 127.

8- ابن كثير ج3 / ص239.

9- تاريخ الخوف والجوع / تحت الطبع.

10- الميزان ج8 / ص224.

11- سورة غافر / 23-25.

12- سورة التحريم / 11.

13- سورة يونس / 83-86.

14- ابن كثير ج2 / ص427.

15- الميزان ج10 / ص113.

16- سورة الأعراف / 128.

17- سورة الأعراف / 129.

18- سورة الأعراف / 129.

19- سورة آل عمران / 140.

20- الميزان ج8 / ص225.

21- سورة غافر / 26.

22- سورة القصص / 35.

23- سورة الشعراء، / 36.

24- سورة الشعراء / 57-58.

25- سورة غافر / 26.

26- الميزان ج17 / ص328.

27- سورة غافر / 27.

28- الميزان ج17 / ص328.

29- سورة غافر / 28-29.

30- سورة غافر / 30-31.

31- ابن كثير ج4 / ص79، الميزان ج17 / ص330.

32- سورة غافر / 34.

33- الميزان ج17 / ص330.

34- ابن كثير ج4 / ص79.

35- سورة غافر / 35.

36- الميزان.

37- ابن كثير ج4 / ص79.

38- سورة غافر / 36-37.

39- الميزان ج17 / ص332.

40- سورة القصص / 38-39.

41- سورة غافر / 38-39.

42- سورة غافر / 40.

43- الميزان ج17 / ص333.

44- سورة غافر / 41-44.

45- الميزان ج17 / ص334.