انحرافات فرعون موسى (ع) -2

3 - الفرار إلى مدين:

ذكر البيضاوي أن موسى مكث في آل فرعون ثلاثين سنة. وأنه خرج يوما حينما كان في بيت فرعون على حين غفلة من أهل المدينة فوجد مصريا يأخذ عبرانيا ليسخره في بعض عمله بغير رضى منه، وهو يمتنع منه، فلما رأى العبراني موسى استغاث به فجاء موسى إلى المصري ووكزه فقتله، ولم يعلم بذلك الأمر سوى الرجل العبراني الذي نصره موسى.

 

وذكر الطبري أن المصريين لما عثروا على القتيل، قالوا لفرعون: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلا من آل فرعون، فخذ لنا بحقنا! فقال لهم: أروني قاتله ومن يشهد عليه، فحينئذ أخذ آل فرعون في الفحص عن خصمهم. وبينما هم يطوفون في سكك المدينة مستمرين في التجسس والتفتيش، إذ مر موسى فوجد ذلك العبراني الذي كان سببا في قتل الفرعوني يقاتل فرعونيا آخر. فاستغاثه العبراني على الفرعوني. فخاطبه موسى قائلا له: إنك لغوي مبين، وعنى باللغوي العبراني، لأنه أحرج موقف موسى وأصبح بسببه خائفا من أن يظهر أمره وبعد القتل ظل موسى في المدينة ولم يرجع إلى بلاط فرعون، وعندما وبخ موسى العبراني، ظن العبراني أن موسى إنما يريد أن يبطش به، فقال: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس! فعلم المصري عند ذلك أن موسى هو الذي قتل قتيل الأمس. فرجع إلى فرعون فأخبره الخبر. فأتمروا بموسى وعزموا على قتله.

 

وأرسل فرعون في طلبه جماعة ممن أعدهم لمثل مهمته هذه، فسبقهم مؤمن آل فرعون، وأعلمه بما عزم عليه القوم وأنهم يريدونه، ونصحه بأن ينجو بنفسه، ويفارق بلاد مصر حتى لا تمتد أيديهم إليه بسوء. فحينذاك خرج منها خائفا يترقب. يقول تعالى: ﴿وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ / فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(1).

 

وروي أنه عندما خرج من مصر خائفا يترقب، خرج بغير ظهر ولا دابة ولا خادم، تخفضه أرض وترفعه أخرى حتى انتهى إلى أرض مدين، وهناك التقى مع نبي الله شعيب، وعندما قص عليه القصص، قال له لا تخف نجوت من القوم الظالمين، وفي مدين تزوج موسى بإحدى بنات شعيب كما ذكرنا من قبل، وقد ذكر البعض أن الشيخ الذي لقيه موسى في مدين لم يكن شعيب. وإنما كان أحد أتباع شعيب. وهذا ليس من الحقيقة في شئ، لأن الذي اشتهر بين الأمم وأجمع عليه علماء المسلمين. هو زواج بنت شعيب من موسى بن عمران ومصاهرته له. وإن لم يصرح القرآن الكريم بذلك. وإن الثابت عن طريق أهل بيت محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هو أن العلاقة الزوجية إنما تحققت بين موسى وابنة النبي شعيب.

 

4- الوادي المقدس طوى:

روي أن موسى بعد أن قضى أتم الأجلين، وسار بأهله منفصلا عن أرض مدين يؤم مصر ومعه أغنامه وامرأته .. انطلق سائرا في برية الشام، عادلا عن المدن والعمران مخافة الملوك الذين كانوا في الشام، فسار غير عارف بالطريق.

 

حتى انتهى إلى جانب الطور الغربي الأيمن، في عشية شتائية شديدة البرد وقد أظلم عليه الليل وأخذت السماء ترعد وتبرق وتمطر، وبينما موسى يتأمل ما قرب وما بعد، إذ آنس من جانب الطور نارا، فحسبه نارا، فقال لأهله: امكثوا إني آنست نارا.

 

﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى / إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾(2).

 

قال المفسرون: رأى نارا، فرأى أن يذهب إليها. فإن وجد عندها أحدا سأله الطريق وإلا أخذ قبسا من النار ليضرموا به نارا فيصطلوا بها. وفي قوله: ﴿قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا﴾ إشعار بل دلالة على أنه كان مع أهله غيره. كما أن في قوله: ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ دلالة على أنه إنما رآها وحده وما كان يراها غيره من أهله. ويؤيد ذلك قوله أيضا أولا: ﴿إِذْ رَأَى نَارًا﴾.

 

﴿فلما فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى / إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى / وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى / إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي / إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى / فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾(3).

 

قال المفسرون: ولما سمع موسى (عليه السلام) قوله تعالى: ﴿يَا مُوسَى / إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ فهم من ذلك فهم يقين أن الذي يكلمه هو ربه. وفي قوله: (نودي) حيث طوى ذكر الفاعل ولم يقل: ناديناه أو ناداه الله: من اللطف ما لا يقدر بقدر. وفيه تلويح أن ظهور هذه الآية لموسى كان على سبيل المفاجأة.

 

وقوله تعالى: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾(4) هذا هو الوحي الذي أمر (عليه السلام) بالاستماع له في إحدى عشر آية. تشتمل على النبوة والرسالة معا، أما النبوة ففي هذه الآية والآيتين بعدها، وأما الرسالة فتأخذ من قوله: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ وتنتهي في قوله: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ وقد نص تعالى أن موسى كان رسولا نبيا معا في قوله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا﴾(5). وقد ذكر في الآيات الثلاث المشتملة على النبوة الركنان معا. وهما ركن الإعتقاد وركن العمل.

 

وأصول الإعتقاد ثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد. وقد ذكر منها التوحيد والمعاد.

 

وطوى عن النبوة، لأن الكلام مع النبي نفسه. وأما ركن العمل. فقد لخص على ما فيه من التفصيل في كلمة واحدة هي قوله: ﴿فَاعْبُدْنِي﴾ فتمت بذلك أصول الدين وفروعه في ثلاث آيات(6) وبعد أن أوحى سبحانه إلى موسى من أمر الساعة ما أوحى، وما ذكرناه من قبل من أن قدماء المصريين كانوا لا يؤمنون بالبعث بمفهومه الحقيقي، بدأت الرسالة.

 

قال تعالى: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى / قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى / قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى / فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى / قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى / وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى / لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى / اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾.

 

قال المفسرون: أمر سبحانه موسى أن يلقي عصاه، فلما ألقى العصا صارت حية تتحرك بجد وجلادة، وذلك أمر غير مترقب من جماد لا حياة له، وهو قوله: ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾ وقد عبر تعالى عن سعيها في موضع آخر بقوله: ﴿رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾(7) وعبر عن الحية في موضع آخر لقوله: ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾(8) ثم أمره سبحانه أن يجمع يده تحت إبطه، أي يدخلها في جيبه تخرج بيضاء.

 

وبعد أن شاهد موسى آيات الله، وأمر بالذهاب إلى فرعون ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ / وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ﴾(9).

 

قال المفسرون: أشار (عليه السلام) إلى قتله القبطي بالوكز، وكان يخاف أن يقتلوه قصاصا، ثم قال (عليه السلام): إن أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معينا لي يبين صدقي في دعواي إذا خاصموني، إني أخاف أن يكذبون فلا أستطيع بيان صدق دعواي، وكان في لسانه (عليه السلام) لكنة، فخاف أن تكون هذه اللكنة عائقا في بيان حجته وبيان ذلك في موضع آخر من كتاب الله ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ / وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ﴾(10) وبعد أن سأل موسى ربه أجاب سبحانه أدعيته جميعا: ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾(11).

 

قال المفسرون: شد عضده بأخيه. كناية عن تقويته به. وعدم الوصول إليهما كناية من عدم التسلط عليهما بالقتل ونحوه، كأن الطائفتين يتسابقان، وإحداهما متقدمة دائما والأخرى لا تدركهم بالوصول إليهم، فضلا عن أن يسبقوهم لقد عجزت عاد قوم هود الذين دونوا فقه من أشد منا قوة! عجزت عن أن تكيد لهود بقتل أو بغيره. وها هي دولة الفراعنة تواجه نفس الموقف، ففرعون ذو الأوتاد، صاحب الجنود والأحجار، الذي استكبر في الأرض مضروب عليه وعلى قوته، فلن يستطيع أن يمس موسى وهارون (عليهما السلام) بأي أذى، وإذا كان قد قال يوما لمن حوله: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾ فإن هذا القول يدل في المقام الأول على العجز، فمنذ متى وفرعون يستأذن في قتل إنسان؟ إنه قال ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾ لأنه مقيد بقانون ﴿فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا﴾، وبعد أن أجاب الله سؤال موسى أمر بالذهاب إلى فرعون وأن يقولا له قولا لينا وقال تعالى: ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى / إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾(12).

 

قال المفسرون: في سياق الآيات استهانة بأمر فرعون. وبما تزين به من زخارف الدنيا، وتظاهر به من الكبر والخيلاء ما لا يخفى. فقد قيل: ﴿فَأْتِيَاهُ﴾ ولم يقل اذهبا إليه. وإتيان الشئ أقرب مساسا به من الذهاب إليه.

 

ولم يكن إتيان فرعون وهو ملك مصر بذاك السهل الميسور. وقيل: ﴿فَقُولَا﴾ ولم يقل: فقولا له. كأنه لا يعتني به. وقيل: ﴿إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ﴾ و ﴿بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ﴾ فقرع سمعه مرتين بأن له ربا وهو الذي كان ينادي بقوله: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ وقيل: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ ولم يورد بالخطاب إليه.

 

ونظيره قوله: ﴿أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ من غير خطاب .. وليس في ذلك خشونة في الكلام. وخروج عن لين القول الذي أمر به أولا. لأن ذلك حق القول الذي لا مناص من قرعه سمع فرعون. من غير تملق ولا احتشام وتأثر من ظاهر سلطانه الباطل وعزته الكاذبة(13).

 

المصدر:

الانحرافات الكبرى: القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- سورة القصص / 20-21.

2- سورة طه / 9-10.

3- سورة طه / 11-16.

4- سورة الشورى / 51.

5- سورة مريم / 51.

6- الميزان ج14 / ص140.

7- سورة القصص / 31.

8- سورة الأعراف / 107.

9- سورة القصص / 33-34.

10- سورة الشعراء / 12-13.

11- سورة القصص / 35.

12- سورة طه / 47-48.

13- الميزان ج14 / ص158.