النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) -10

1- حصار الرجس:

الرجس هو البحيرة أو الخيمة التي تتلحف بها قلوب المنافقين. قال تعالى وهو يحذر منهم: ﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءَ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ / يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾(1) والرجس هو القذر. والشئ القذر. والفعل القبيح. والضلال. والعذاب(2) وقوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾ الآية أي: فأعرضوا عنهم لا تصديقا لهم فيما يحلفون له من الأعذار. بل لأنهم رجس ينبغي ألا يقترب منهم. والقرآن الكريم حذر من أصحاب الرجس وطالب بالابتعاد عنهم في كثير من آياته. قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(3).

 

قال المفسرون: الرجس هو القذر. والمعنى: كأن الرجس يعلوهم ويحيط بهم. فيحول بينهم وبين غيرهم. فتتنفر منهم الطباع كما يتنفر من الغذاء الملطخ بالقذر(4).

 

وقال تعالى: ﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن(5) رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ﴾(6).

 

قال المفسرون: الرجس هنا هو الأمر الذي إذا وقع على الشئ أوجب الابتعاد عنه. ولذا يطلق على القاذورات لأن الإنسان يتنفر ويبتعد عنه. ويطلق على العذاب. لأن المعذب يبتعد عمن يعذبه أو من الناس الآمنين من العذاب (7). وطابور الكفر والنفاق الذي اختار بحيرة الرجس ليعيشوا فيها ولم يرضوا بها بديلا. كان عقابهم من الله أنه سبحانه زادهم رجسا على رجسهم قال تعالى: ­­﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾(8) ومعنى الآية زادهم ضلالا جديدا إلى ضلالهم القديم. لأن السنة الإلهية تقضي بأن تجعل الرجس والضلال على أهل العناد والجحود كما في قوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾(9).

 

من هذه الآيات نعلم أن المنافقين يسيرون على أرض الإسلام ولكن بنفوس تسبح في بحيرة ماؤها قذر. ونظرا لأن النفاق عمل سري في المقام الأول. حيث يدخل صاحبه الإسلام ثم يخرج منه من غير الوجه الذي دخل منه(10) كان الوحي يكشف لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حركة هذا الطابور. فيتعامل معه وفقا لحركة الدعوة ومصلحة الإسلام وحتى لا يروج معسكر الكفر مقولة أن محمدا يقتل أصحابه. ولما كان النفاق لا يستطيع أن يحرز أي تقدم في دائرة الوحي التي تكشف رجسه. علق طابور النفاق أمله في وفاة رسول الله.

 

ولما كان الإسلام هو دين الفطرة الخاتم. وهو ممتد بعد وفاة الرسول وحتى قيام الساعة. كان من عدل الله تعالى أنه حاصر دائرة الرجس بآيات باهرة. إذا أخذ بها المسلمون قطعوا الطريق أمام مناورات النفاق. وإذا لم يأخذوا بها فلا إجبار في دين الله. ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي سبحانه الشاكرين. ولما كان النفاق في دائرة الرجس والسواد الأعظم من الناس لا يستطيع أن يميز المنافق من غيره بسهولة. لأن كلاهما عضو في الأسرة الإسلامية ويسير بشعار الإسلام حدد الله تعالى بيت من البيوت. وصرح في كتابه أنه تعالى أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

 

وبهذا واجهت دائرة الرجس التي حددها الله دائرة التطهير التي حددها الله. فمن أدلى بدلوه هنا أو هناك فهو في حقيقة الأمر يكتب لنفسه شهادة الهلاك أو شهادة النجاة. لأن الرجس هنا هو المقياس. والذي يعلم ما تخفيه القلوب هو الذي قال فرق هذا رجس وحول هذا تطهير. والذين أحاطهم الله بالطهارة جاء ذكرهم في سورة من السور المدنية(11) والآية التي ذكروا فيها من أعظم الآيات القرآنية وجميع آيات القرآن عظيمة. ففي الجزء الأول من الآية أمر الله تعالى نساء النبي أن يقرن في بيوتهن. وأمرهم بامتثال الأوامر الدينية وطاعة الله ورسوله. وبعد توجيه الخطاب لنساء النبي قال جل شأنه: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(12) فإذا كان الشطر الأول من الآية قد خص نساء النبي فمن هم الذين خصهم الشطر الثاني من الآية؟ والإجابة على هذا السؤال نجدها في الكتب الخاصة بالتفسير والحديث.

 

روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين أم سلمة أن النبي كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة(13) فيها خزبرة(14) فدخلت بها عليه فقال: "ادعي زوجك وابنيك" قالت: فجاء علي والحسين والحسن. فدخلوا عليه. فجلسوا يأكلون من تلك الخزبرة وهو على منامة له(15). على دكا من تحته كساء له خيبري.

 

قالت أم سلمة: وأنا أصلي في الحجرة. فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ قالت: فأخذ فضل الكساء فغشاهم به(16) ثم أخرج يده فألوى(17) بها إلى السماء ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" قالت أم سلمة: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: "إنك إلى خير إنك إلى خير"(18).

 

وحديث أم سلمة روي من طرق عديدة وذكره أصحاب التفاسير في تفاسيرهم(19) وقال ابن جرير الآية نزلت في فاطمة وعلي وأولادهما(20) ونظرا لأهمية الحدث وما سيترتب عليه كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يبث معرفته بين أزواجه من جهة وبين بقية المسلمين من جهة أخرى. وعلى سبيل المثال ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة. وعليه مرط مرحل من شعر أسود. فجاء الحسن بن علي ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله.

 

ثم قال: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا(21) ولكي يحدد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه من هم أهل بيته. كانوا عندما يجتمعون لصلاة الفجر في مسجده. ينادي فاطمة وعلي وأولادهما ليسمع من في المسجد صيغة النداء. وهذا ما رواه الإمام أحمد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج إلى الفجر فيقول الصلاة يا أهل البيت ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(22) وعلى الرغم من هذا البيان الذي شهد به أمهات المؤمنين أخرى عنده ليس فيها مجهول كما صرح بذلك عبد الملك في نفس الحديث. قال وحدثني أبو ليلى عن أم سلمة.

 

ورواه أيضا ابن جرير من طرق كثيرة ليس فيها مجهول يعضد بعضها بعضا ورواه الحاكم وصححه وأقره الذهبي (الفتح الرباني:238 / 18) وجمع غفير من الصحابة إلا أن هناك من أدخل نساء النبي ضمن الذين تقصدهم الآية. وقد رد الإمام الطحاوي على من قال بذلك. فقال: فإن (قال قائل) فإن كتاب الله يدل على أن أزواج النبي هم المقصودون بتلك الآية. لأنه قال قبلها في السورة التي هي فيها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا -إلى قوله- الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ فكان ذلك كله يؤذن به لأنه على خطاب النساء. لا على خطاب الرجال. ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ﴾" الآية (فكان جوابنا) إن الذي تلاه إلى آخر ما قبل قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾" الآية.

 

خطاب لأزواجه. ثم عقب ذلك بخطابه بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾ الآية. فجاء به على خطاب الرجال. لأنه قال فيه: ﴿لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ﴾ وهكذا خطاب الرجال. وما قبله فجاء به بالنون وكذلك خطاب النساء. (فقلنا) أن قوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ﴾ الآية. خطاب لمن أراده من الرجال بذلك.

 

ليعلمهم تشريفه لهم. ورفعة لمقدارهم أن جعل نساءهم ممن قد وصفه لما وصفه به مما في الآية المتلوة قبل الذي خاطبهم به تعالى والأحاديث المروية دليل أيضا على أن هذه الآية في فاطمة وعلي وابناهما(23).

 

على هذا فالآية الكريمة خاطبت نساء النبي في شطرها الأول فقال تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ ووفقا لهذا النص الحكيم حدد الشرع حركة نساء النبي.

 

فأي حركة خارج هذه الدائرة تؤدي إلى فتن. والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحذر أزواجه من طريق الفتن في أحاديث كثيرة منها حديث نباح كلاب الحوأب.

 

ومنها ما أخرجه الترمذي عن أم سلمة. أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال: سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ ماذا أنزل من الخزائن؟ من يوقظ صواحب الحجرات؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية. في الآخرة(24) -وزاد البخاري في روايته- ا فزعا. فقال سبحان الله ماذا أنزل الله من الفتن.

 

قال المفسرون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه في نومه ما سيقع بعده من الفتن. وقوله: (من يوقظ صواحب الحجرات) يعني: أزواجه. وإنما خصهم بالإيقاظ لأنهن الحاضرات. وأشار إلى موجب استيقاظ أزواجه. أي لا ينبغي لهن أن لا يتغافلن عن العبادة ويعتمدن على كونهن أزواج النبي. وقال الحافظ:

 

واختلف في المراد بقوله: كاسية وعارية. على أوجه.

أحدهما: كاسية في الدنيا بالثياب لوجود الغنى. عارية في الآخرة من الثواب لعدم العمل في الدنيا.

 

ثانيها: كاسية من نعم الله. عارية من الشكل الذي تظهر ثمرته في الآخرة بالثواب فأراد صلى الله عليه وسلم تحذير أزواجه من ذلك كله. وكذا غيرهن ممن بلغه ذلك(25).

 

فالآية الكريمة في شطرها الأول حددت الخطى لأمهات المؤمنين. وفي شطرها الثاني حددت أين يكون العلم وطهارة الفكر الذي يقود الأمة نحو أهداف الله. ويبتعد بها عن دروب الذين في قلوبهم زيغ. الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ﴾(26) وفي هذه الآية أخرج الترمذي عن أم المؤمنين عائشة إنها سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ قال: "فإذا رأيتهم فاعرفيهم"(27) وقال في تحفة الأحوازي. أي واحذريهم خطاب لأم المؤمنين عائشة(28). وبعد أن جدد الله تعالى في كتابه دائرة الطهر كما بينا. أمر سبحانه المؤمنين أن يودوا قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهم الطائفة التي يستحيل أن تكذب على النبي. كما أنهم لا يأخذون علومهم إلا من النبي. يقول تعالى لرسوله: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾(29) ولقد ذهبوا في تفسير هذه الآية إلى كل مذهب. فقال البعض: أن الخطاب لقريش. والأجر المسؤول هو مودتهم للنبي لقرابته منهم.

 

وذلك لأنهم كانوا يكذبونه. فأمر الله تعالى رسوله. أن يسألهم. إن لم يؤمنوا به فليودوه. وهذا القول مردود لأن معنى الأجر. إنما يتم إذا قوبل به عمل يمتلكه معطي الأجر. فيعطي العامل ما يعادل ما امتلكه من مال ونحوه. فسؤال الأجر من قريش وهم كانوا مكذبين له كافرين بدعوته. إنما يصح على تقدير إيمانهم به.

 

لأنهم على تقدير تكذيبه والكفر بدعوته. لم يأخذوا منه شيئا حتى يقابلوه بالأجر.

وعلى تقدير الإيمان به -والنبوة أحد الأصول الثلاثة في الدين- لا يتصور بغض حتى تجعل المودة أجرا للرسالة ويسأل. وبالجملة لا تحقق لمعنى الأجر على تقدير كفر المسؤولين. ولا تحقق لمعنى البغض على تقدير إيمانهم حتى يسألوا المودة.

 

وقيل: المراد بالمودة في القربى مودة الأقرباء. والخطاب لقريش أو لعامة الناس وعلى هذا يكون المعنى: لا أسألكم على دعائي أجرا إلا أن تودوا أقرباءكم. وهذا القول أيضا غير مستقيم. لأن مودة الأقرباء على إطلاقهم ليست مما يندب إليه في الإسلام. قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾(30) وسياق هذه الآية لا يلائم. كونها مخصصة أو مقيدة لعموم قوله تعالى: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ أو إطلاقه حتى تكون المودة للأقرباء المؤمنين هي أجر الرسالة. على أن هذه المودة الخاصة لا تلائم خطاب قريش أو عامة الناس. بل الذي يفيده سياق الآية. أن الذي يندب إليه الإسلام هو الحب في الله من غير أن يكون للقرابة خصوصية في ذلك. نعم هناك إهتمام شديد بأمر القرابة والرحم. لكنه بعنوان صلة الرحم وإيتاء المال. على حبه ذوي القربى لا بعنوان مودة القربى. فلا حب إلا لله عز وجل(31).

 

وقيل المراد بالمودة في القربى. مودة قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم عترته من أهل بيته (عليهم السلام). وهذا هو القول المستقيم لورود روايات عديدة تؤيده. منها ما رواه ابن جرير عن أبي الديلم قال: لما جئ بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيرا فأقيم على درج دمشق. قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: أقرأت ال حم؟

 

قال: قرأت القرآن ولم أقرأ ال حم قال: ما قرأت: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ قال: وإنكم لانتم هم؟ قال: نعم(32) وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه بسسند ضعيف عن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم قال: (علي وفاطمة وولداها) ومن الروايات أيضا التي تؤيد قول القائل بأن ذو القربى هم أهل بيته. ما رواه الإمام أحمد عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني تارك فيكم خليفتين(33). كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض. أو ما بين السماء إلى الأرض. وعترتي أهل بيتي. وإنهما لا يتفرقا حتى يردا علي الحوض(34).

 

وهذا الحديث جعل الكتاب والعترة في رباط واحد. وأخبر أنهما لا يتفرقا حتى يردا علي الحوض. يوم يقال لطابور النفاق سحقا سحقا نظرا لارتدادهم بعد رسول الله كما بينا في الأحاديث التي أوردناها فيما سبق. ولقد ذهب البعض في تحديد معنى العترة كل مذهب. راكبين في ذلك قوارب الجدل التي لا تظهر إلا عند البحث عن الصراط المستقيم.

 

ولتحديد معنى العترة، نذكر ما ورد في لسان العرب وغيره.

 

قال ابن الأثير: عترة الرجل أخص أقاربه. وقال ابن الأعرابي: العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه. وعترة النبي صلى الله عليه وسلم. ولد فاطمة البتول (عليها السلام)(35) وقال صاحب الفتح الرباني: وعترتي أهل بيتي وهم أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا(36) من هذا نعلم وفقا للكتاب والسنة أن دائرة الطهر دائرة معروفة ومحددة. ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وآله يعلن على الملأ في كل مكان "أحبوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه. وأحبوني بحب الله. وأحبوا أهل بيتي بحبي"(37) وقال: "لكل نبي عصبة ينتمون إليه إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم"(38).

 

دائرة أهل البيت وإن كانت دائرة واسعة تضم أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعض أصحابه ومنهم سلمان الفارسي كما تضم أقاربه. إلا أن دائرة فاطمة وعلي (عليهما السلام) هي مركز الحركة التي تقود إلى أهداف الإسلام. ولذا أفاضت الأحاديث في الدعوة للالتفات من حولهم والتعلم منهم ومن هذه الأحاديث قول النبي (صلى الله عليه وآله وسل)م: "أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا. كتاب الله وعترتي أهل بيتي"(39).

 

بل أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قام بتذكير الأمة بهذا الأمر وهو على وشك الرحيل من الدنيا. فعن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "إني أوشك أن أدعى فأجيب"(40) وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي. كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض. وعترتي أهل بيتي. وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فانظروني بم تخلفوني فيهما"(41) وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة. فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر. ثم قال: "أما بعد. ألا أيها الناس. فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثقلين. أولهما كتاب الله تعالى. فيه الهدى والنور. فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي، قالها ثلاثا"(42).

 

ولما كان علي بن أبي طالب قطبا أصيلا في دائرة أهل البيت الذين أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتمسك بهم أفاضت الأحاديث التي تحدد موضع قدم علي بن أبي طالب في هذه الدائرة. ومن هذه الأحاديث. عن زيد بن أرقم.

 

قال: لما رجع رسول الله من حجة الوداع. وترك غدير خم. أمر بدوحات فقممن. ثم قال: "كأني دعيت فأجبت. إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي. فانظروا كيف تخلفوني فيهما. فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. ثم قال: الله مولاي. وأنا ولي كل مؤمن. ثم أخذ بيد علي. فقال: من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" قال ابن كثير: تفرد به النسائي من هذا الوجه وقال الذهبي وهذا حديث صحيح(43) وعندما سئل أرقم: هل سمعت هذا من رسول الله؟ قال: ما كان في الدوحات أحدا إلا رآه بعينه وسمعه بأذنه(44).

 

وروى ابن جرير عن حذيفة بن أسيد أن رسول الله قال في هذا اليوم: "ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن جنته حق وناره حق. وأن الموت حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: نشهد بذلك. قال اللهم إشهد. ثم قال: أيها الناس إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فمن كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه(45). وفي قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(46) اختلف المفسرون في مكان نزولها فمنهم من قال: إنها نزلت في مكة. وقال آخرون: نزلت في المدينة.

 

إلا أن أغلب الأحاديث الواردة في أسباب نزولها تظهر نزولها بالمدينة. وروى أبو الحسن الواحدي في كتابه المسمى بأسباب النزول. رفعه بسنده إلى أبي سعيد الخدري. قال: نزلت هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ يوم غدير خم في علي بن أبي طالب.

 

ورواه أيضا في فتح القدير عن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري وكذلك في الدر المنثور للسيوطي.

 

وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: نزلت هذه الآية في فضل علي بن أبي طالب. ولما نزلت هذه الآية. أخذ بيده وقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب. أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي(47).

 

وحديث من كنت مولاه. روى الإمام أحمد. أنه سمعه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثون صحابيا. شهدوا به لعلي بن أبي طالب مما توزع أيام خلافته. وصرح بتواتر هذا الحديث العديد من العلماء. قاله المناوي في التيسير نقلا عن السيوطي وشارح المواهب اللدنية. وفي الصفوة للمناوي قال ابن حجر. حديث من كنت مولاه. "أخرجه الترمذي والنسائي. وهو كثير الطرق جدا وقد استوعبها ابن عقدة في مؤلف مفرد وأكثر أسانيدها صحيح أو حسن"(48).

 

وكما أن حديث من كنت مولاه يحدد مكان علي بن أبي طالب داخل دائرة الأمة. فإن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي"(49). وفي رواية عند الإمام أحمد "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست ببني. أنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي"(50) وفي رواية عند ابن أبي عاصم: "أنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي في كل مؤمن بعدي"(51).

 

فهذا الحديث يحدد أيضا أقدام علي بن أبي طالب داخل دائرة الأمة. ولقد رواه نيفا وعشرين صحابيا. وقال الحافظ الكتاني: هذا الحديث متواتر ولقد تتبع ابن عساكر طرقه في نحو عشرين ورقة(52). وهذا القول قاله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) عندما خرج إلى غزوة تبوك وكان قد ترك علي في المدينة. ومما يذكر أن حركة النفاق كانت قد نشطت في هذه الفترة فلقد هموا باغتيال الرسول عند عودته من تبوك كما شيدوا مسجدهم الضرار على أمل أن يقوم الرسول بالصلاة فيه بعد عودته في حالة نجاته من القتل. ولكن الله رد كيدهم كما ذكرنا من قبل. ومنزلة هارون من موسى بينها القرآن الكريم في أكثر من موضع.

 

ومنه قول موسى (عليه السلام) كما جاء في سورة طه: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي / هَارُونَ أَخِي / اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي / وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي / كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا﴾(53).

 

ومنزلة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومواقفه بجانب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفاضت بها الأحاديث حتى قال ابن عباس: "ما أنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلا وعلي أميرها وشريفها. ولقد عاتب الله أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في غير مكان. وما ذكر عليا إلا بخير"(54) وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: "نزلت في علي ثلاثمائة آية"(55) وقال ابن عباس. (كان لعلي ثمان عشر منقبة ما كانت لأحد من هذه الأمة"(56). وروي أن عمر علي بن أبي طالب يوم أسلم كان إحدى عشر سنة. على أصح ما ورد من الأخبار في إسلامه. وقد قيل ثلاث عشر سنة. وقيل سبع سنين. والثابت إحدى عشرة(57).

 

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ عليا من أبيه وهو صغير. في سنة أصابت قريشا وقحط نالهم. وأخذ حمزة جعفرا. وأخذ العباس طالبا. ليكفوا أباهم مؤنتهم ويخففوا عنه ثقلهم. وأخذ أبو طالب عقيلا لميله كان إليه. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "اخترت من اختار الله لي عليكم عليا"(58) ومنذ هذا الحين وعلي ينال تربيته على يد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

 

وبعد أن نزل الوحي روي عن ابن عباس قال: "أول من صلى مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد خديجة. علي"(59). ولما كانت فضائل علي بن أبي طالب أكثر من أن تحصى. فإننا سنورد هنا بعض الروايات التي تتعلق باختيار الله تعالى لعلي في أكثر من موضع ومن هذه المواضع.

 

ما أخرجه الترمذي عن جابر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا عليا يوم الطائف فانتجاه. فقال الناس. لقد طال نجواه مع ابن عمه. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما انتجيته ولكن الله انتجاه"(60).

 

وقال صاحب تحفة الأحوازي: وقوله ما انتجيته. أي ما خصصته بالنجوى. ولكن الله انتجاه. أي إني بلغت عن الله ما أمرني أن أبلغه إياه على سبيل النجوى. فحينئذ انتجاه الله لا انتجيته. وقال الطيبي. كان ذلك أسرار إلهية وأمورا غيبية جعله من خزانها(61).

 

ومنها ما أخرجه أحمد عن زيد بن أرقم. قال: كان لنفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبواب شارعة في المسجد. فقال يوما: "سدوا هذه الأبواب إلا باب علي" فتكلم في ذلك الناس. فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد. فإني أمرت بسد هذه الأبواب إلا باب علي. وقال فيه قائلكم. وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته ولكني أمرت بشئ فاتبعته"(62) وفي رواية عند الطبراني: "قالوا يا رسول الله سددت أبوابنا كلها إلا باب علي. قال: ما أنا سددت أبوابكم ولكن الله سدها"(63).

 

ومنها ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي. إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوم خيبر لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: أين علي بن أبي طالب. وكان يشتكي عينيه. فتفل في عينيه وأعطاه اللواء(64).

 

ومنها ما أخرجه الإمام أحمد عن علي قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لي: أدرك أبا بكر. فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه. فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم. فلحقته بالجحفة وأخذت الكتاب منه. ورجع أبو بكر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله نزل في شئ؟ قال: لا. ولكن جبريل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك(65).

 

وفي رواية: "أمرت أن لا يبلغه إلا أنا أو رجل مني"(66).

وروي في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾(67) عن ابن عباس قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المسجد والناس يصلون بين راكع وساجد وقائم وقاعد.

 

وإذا مسكين يسأل. فدخل رسول الله فقال: "أعطاك أحد شيئا" قال: نعم قال: "من؟" قال: ذلك الرجل القائم. قال: على أي حال أعطاكه؟ قال: وهو راكع. قال: وذلك علي بن أبي طالب. قال: فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند ذلك وهو يقول: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾.

 

وهذا الحدث اتفق على نقله من غير رد. أئمة التفسير بالمأثور كأحمد والنسائي والطبري والطبراني وعبد بن حميد وغيرهم من الحفاظ وأئمة الحديث. ومن المعلوم أن الزكاة لا تؤدى في الصلاة. ولكن الله تعالى خص علي بن أبي طالب بهذا. كي يكون تحديده خارجا للعادة من داخل الشرع الحنيف. كي تحفر صورة الحدث داخل الذاكرة.

 

فمن هذه الأحاديث يمكن للباحث أن يحدد موقع علي بن أبي طالب داخل دائرة أهل البيت وداخل دائرة الأمة.

 

ففي أول الطريق يوم أن كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو الناس في مكة. جمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عشيرته عندما نزل قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾(68) وقال لهم: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة. فابوا. فقال علي بن أبي طالب. أنا أواليك في الدنيا والآخرة. فقال: "أنت وليي في الدنيا والآخرة"(69) لقد كان علي وليه في أول الطريق وفي نهاية الطريق عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي: "أنت وليي في كل مؤمن بعدي"(70).

 

وفي رواية عن بريدة الأسلمي نحوه وفيها "فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي. وإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي"(71) فموقع علي داخل دائرة الطهر هو موقع الولاية. ولا ولاية إلا بعلم. ولقد أثبت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العلم لعلي في أكثر من موضع منه ما قاله لفاطمة (عليها السلام): "أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما"(72) وكان علي يقول: "والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت وأين نزلت. وعلى من نزلت. إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا صادقا"(73) وكان يقول: "اسألوني قبل أن تفقدوني"(74) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: قد أجمع الناس كلهم إنه لم يقل أحد من الصحابة ولا أحد من العلماء هذا غير علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفقه علي وغزارة علمه شهد به عمر بن الخطاب حين قال: "علي أقضانا"(75).

 

فمن هذا وذاك لا يستغرب أن يكون عليا من دون الناس هو ولي المؤمنين بعد رسول الله. فهو حامل علوم رسول الله. وبالعلم وحده تبلغ الدعوة هدفها وتصل بالبشرية إلى أهداف الإسلام. كما وصف بأنه أعظم حلما والحلم مفتاح للصبر والصبر فيه نجاة للفطرة. والحليم لا يرفع سيفه إلا إذا كان آخر الدواء الكي ولم يكن العلم والحلم والشجاعة هي كل خصائصه وإنما زود الله تعالى عليا بمنقبة هي عين مهمته في مجابهة المنافقين فعن علي إنه قال: "عهد إلي النبي الأمي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق"(76).

 

وعن أم سلمة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن"(77) فهذه المنقبة أقامت جدارا بين الإيمان وبين النفاق. وبهذه المنقبة يكتمل البناء وتقوم الحجة بعد أن مهد الإسلام الطريق أمام الفطرة وحصنها من كل ما يتلفها. وذلك عندما حدد دائرة الأمان وسط الرقعة العريضة ومجمل القول. إن الله تعالى أتم نعمته. وحدد سبحانه دوائر الاختبار.

 

وفسرت السنة الشريفة هذه الدوائر ولا إكراه في دين الله. لقد كان حول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجال عظماء لا شك في إخلاصهم للدعوة. ولكن الله أوجد الإنسان على هذه الأرض ليختبره فيها.

 

وعظماء الصدر الأول كانوا من الناس والله تعالى يقول: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ / وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ / أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ / مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ / وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾(78).

 

قال المفسرون: أظن الناس أن يتركوا فلا يتعرض لحالهم ولا يمتحنوا بما يظهر به صدقهم أو كذبهم في دعوى الإيمان بمجرد قولهم. آمنا؟ إن الفتنة والامتحان سنة جارية لله وقد جرت في الذين من قبلهم وهي جارية فيهم ولن تجد لسنة الله تبديلا. ولا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان. فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطم. فمن كان يرجو لقاء الله فإن الله سيحقق له رجاءه ويوفيه عمله كاملا. ومن جاهد فإن جهاده يعود نفعه إلى نفسه لأن الله غني عن العالمين.

 

وعظماء الصدر الأول لا ينكر فضلهم أحدا. ولكنهم عاشوا على رقعة من الأرض احتوت على كل أنماط بني الإنسان صالح وطالح وهذا وذاك يخضع لسنة الله الجارية من امتحان وفتنة. وفي عالم الفتن والابتلاء لا يعرف الرجل باسمه وإنما يعرف بالحق. فبالحق يعرف الرجال وليس بالرجال يعرف الحق. وهذه قاعدة قرآنية ذكرها الله في أكثر من موضع في كتابه. فالسامري كان وفقا لفقه الشعار من أصحاب موسى (عليه السلام). ولكن حقيقته عرفت بمعايير الحق.

 

وصاحب النبأ(79) كان من أصحاب موسى فما أغنى عنه علمه عندما سلط الحق أشعته عليه. فالإنسان وجد على الأرض ليختبر ولقد زوده الله تعالى بجميع وسائل النجاة وأحاطه بجميع معالم الزينة والزخرف. فمن كان يرجو لقاء الله اجتاز الدنيا بسلام.

 

ورجال الصدر الأول هم من بني الإنسان. منهم من أخذ بأسباب النجاة ومنهم من أحاط به الشقاء وقد ذكر القرآن أن منهم من في قلبه مرض ومنهم سماعون للمنافقين ومنهم من يسميه فاسقا ومنهم من تبرأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من عمله ومنهم من رضي الله عنه ومنهم من لم يرض عنه لأن الله لا يرضى عن الفاسق والمنافق ومن اتبع هواه إلى غير ذلك. وبالجملة: قال تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا -إلى قوله تعالى- وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(80).

 

قال المفسرون: قوله: (إ منهم) "أي لو كان منهم من لم يؤمن أصلا كالمنافقين الذين لم يعرفوا بالنفاق كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾(81) أو آمن أولا ثم أشرك وكفر كما في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى -إلى قوله- وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ﴾"(82) أو آمن ولم يعمل الصالحات كما يستفاد من آيات الإفك -ومن أهل الإفك من هو صحابي بدري وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾"(83)- فأمثال ذلك لا يشمله وعد المغفرة والأجر العظيم الذي وعد الله في صدر الآية. وفي موضع آخر يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾"(84).

 

قال المفسرون. والمعنى: فإذا كان بيعتك بيعة الله فالناكث الناقض لها ناقض لبيعة الله ولا يتضرر بذلك إلا نفسه. كما لا ينتفع بالإيفاء إلا نفسه لأن الله غني عن العالمين ولقد دلت الحوادث أن هناك من نكث بيعته.

 

فمثل هذا لا معنى للقول بأن له عند الله أجرا عظيما. وعلى هذا فإننا نقول إن تحديد الدوائر كان رحمة من الله تعالى بعباده. كي يجتازوا بحور الفتن والامتحان على سفن النجاة. وكما حاصر الإسلام دائرة الرجس التي يمثلها المنافقين.

 

حاصر أيضا دائرة النجس التي يمثلها الشرك وطابوره الطويل. فمن في دائرة النجس راقبوا من بعيد. بعد أن يئسوا من تدمير الصرح العظيم. راقبوا الأحداث في الداخل فلعل هذه الأحداث تأتيهم بإنسان جديد لوثه الرجس. فيلتقي الرجس مع النجس في منظومة واحدة تخطو في طريق الطمس والقهقري نحو غايات بني إسرائيل تلك الغايات التي يجلس على قمتها المسيح الدجال.

 

المصدر:

1- الانحرافات الكبرى

2- القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- سورة التوبة / 95-96.

2- المعجم الوسيط: 330 / 1، المختار: 234.

3- سورة الأنعام / 125.

4- الميزان: 343 / 7.

5- لسان العرب: 365 / 376.

6- سورة الأعراف / 71.

7- الميزان: 179 / 8.

8- سورة التوبة / 125.

9- سورة يونس / 100.

10- لسان العرب: 4508.

11- سورة الأحزاب / 33.

12- البرمة / القدر.

13- الخزبرة / لحم يقطع صغارا ويصب عليه ماء فإذا نضج ذر عليه دقيق.

14- منامة / أي الدكة التي ينام عليها.

15- أي غطاهم.

16- أي رفعها.

17- قال في الفتح الرباني الحديث في إسناده عند الإمام أحمد رجل لم يسم لكن له طرق.

18- ابن كثير في التفسير: 484 / 3، البغوي في التفسير: 546 / 6، ابن جرير في التفسير: 5 / 20.

19- ابن جرير: 5 / 20

20- صحيح مسلم: ص 195 / 15 ط دار إحياء التراث العربي.

21- رواه أحمد (الفتح الرباني: 203 / 22) ورواه الترمذي وقال حسن غريب وقال في تحفة الأحوازي أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه ابن مردويه (تحفة الأحوازي: 9168).

22- مشكل الآثار / الطحاوي دار صادر 0 338 / 1.

23- رواه الترمذي وقال حديث صحيح (تحفة الأحوازي: 0 44 / 6) وقال في التحفة أخرجه أحمد والبخاري.

24- تحفة الأحوازي شرح جامع الترمذي: ص. 44 / 6.

25- سورة آل عمران / 7.

26- أخرجه الترمذي وقال في تحفة الأحوازي أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داوود وابن ماجة: (343 / 8).

27- تحفة الأحوازي: 342 / 8.

28- سورة الشورى / 23 الآية مدنية والسورة مكية.

29- سورة المجادلة / 22.

30- الميزان: 5 4 / 18.

31- ابن كثير في التفسير: 112 / 4، تفسير البغوي: 364 / 7.

32- وفي رواية ثقلين -بدل- خليفتين.

33- رواه أحمد وقال البيهقي إسناده جيد (الفتح الرباني: 105 / 22). وقال البغوي في تفسيره وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله قال في خطبته بغدير خم: "أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وأنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض" تفسير البغوي: 365 / 7.

34- لسان العرب: ص 2796.

35- الفتح الرباني 104 / 22.

36- البغوي في التفسير وقال رواه الترمذي: 267 / 7.

37- رواه الطبراني عن فاطمة. والحاكم عن جابر (كنز العمال: 14 / 12) وابن عساكر عن جابر: 8 9 / 12 كنز العمال.

38- قال البغوي في تفسيره رواه الترمذي وقال حسن غريب (البغوي: 267 / 7).

39- يقصد موته صلى الله عليه وسلم.

40- رواه الإمام أحمد وفي إسناده: عطية بن سعد. ضعفه الثوري. وحسن له الترمذي أحاديث. وفي التهذيب قال أبو حاتم وابن سعد ومع ضعفه يكتب حديثه (الفتح الرباني: 105 / 22).

41- البغوي في التفسير 6500 / 5، سنن ابن عاصم 643 / 2.

42- البداية والنهاية / ابن كثير: 509 / 2.

43- البداية والنهاية: 209 / 5، سنن ابن عاصم: 644 / 2.

44- ابن جرير (كنز العمال: 290 / 5).

45- سورة المائدة / 67.

46- الفخر الرازي في تفسيره: ص 48، 49 ح 12.

47- نظم المتناثر من الحديث المتواتر / الحافظ الكتاني: ص 194.

48- رواه الإمام مسلم في صحيحه: 174 / 15.

49- رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني: 204 / 21).

50- رواه ابن أبي عاصم وقالى الألباني صحيح الإسناد: 565 / 2.

51- نظم المتناثر من الحديث المتواتر: ص 195.

52- سورة طه / 29-34.

53- تاريخ الخلفاء / السيوطي: ص 160.

54- تاريخ الخلفاء / السيوطي. ص 161.

55- تاريخ الخلفاء / السيوطي: ص 161.

56- مقاتل الطالبين / أبو الفرج الأصفهاني. ص 41.

57- مقاتل الطالبين / أبو الفرج الأصفهاني: ص 41.

58- رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني: 122 / 23) وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح غير حبة العري وقد وثق.

59- رواه الترمذي حديث رقم 3810.

60- تحفة الأحوازي شرح جامع الترمذي / المباركفوري ط المكتبة السلفية بالمدينة المنورة: ص 231 / 10.

61- رواه أحمد (الفتح الرباني: 117 / 23) ورواه بطريق آخر من سعد بن مالك وقال الهيثمي رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط وإسناد أحمد حسن.

62- الفتح الرباني: 123 / 21.

63- أخرجه بألفاظ متعددة. أحمد. والبخاري ومسلم في فتح خيبر والترمذي في المناقب وابن سعد في الطبقات وابن هشام في السيرة.

64- أخرجه أحمد (الفتح الرباني: 157 / 18) وقال صاحب الفتح. قال الهيثمي رواه عبد الله بن أحمد. وفيه محمد بن جابر السحيمي وهو ضعيف وقد وثق.

65- أخرجه الإمام أحمد وقال في الفتح الرباني الحديث سنده صحيح وله شواهد كثيرة تعضده منها عند البخاري والإمام أحمد أيضا من حديث هريرة ومنها حديث أنس عن الترمذي وحديث ابن عباس عند الترمذي أيضا (الفتح الرباني 157 / 18).

66- سورة المائدة / 55.

67- ابن جرير في تفسيره 186 / 6.

68- سورة الشعراء / 214.

69- رواه أحمد وقال في الفتح الرباني. أخرجه الحاكم وأقره الذهبي (الفتح الرباني: 119 / 23).

70- رواه أحمد وقال في الفتح الرباني. أورده الهيثمي بلفظ (أنت ولي كل مؤمن بعدي) وقال رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بلج الفزازي وهو ثقة وفيه لين. وثقه ابن معين وابن سعد والنسائي والدارقطني وغيرهم (الفتح الرباني: 116 / 23).

71- رواه أحمد وقال في الفتح الرباني أورده الهيثمي وقال رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط. (أسانيد الكبير رجاله رجال الصحيح. وقول الهيثمي معناه أن الطبراني رواه في الأوسط باختصار عن الكبير والإمام أحمد. ورجال الإمام أحمد ثقاة (الفتح الرباني 1170 / 23).

72- رواه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني. وفيه خالد بن طهمان وثقه أبو حاتم وغيره وبقية رجاله ثقاة (الفتح الرباني: 133 / 23).

73- تاريخ الخلفاء: ص 173.

74- تاريخ الخلفاء. ص 124، الحاكم في المستدرك: 466 / 2، الإصابة:

75- قال في خت الخفاء: رواه البخاري وأحمد عن ابن عباس بلفظ "قال عمر علي أقضانا وأبي أقرؤنا" رواه الحاكم وصححه من ابن مسعود بلفظ كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي) كشف الخفاء: 184 / 1.

76- رواه أحمد. ومسلم في كتاب الإيمان والترمذي في المناقب.

77- رواه أحمد.

78- سورة العنكبوت / 2-6.

79- ذكرنا قصته في الحديث عن بني إسرائيل.

80- سورة الفتح / 29.

81- سورة التوبة / 101.

82- سورة محمد / 25-30.

83- سورة النور / 23.

84- سورة الفتح / 10.