النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) -5

ثانيا: دفاعهم عن تيار السلف:

خرج معسكر الانحراف من أجل الدفاع عن حجارته وأهوائه ومنهج شيطانه يقول تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ ثم يطيب الله خاطر رسوله فيقول: ﴿وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ / وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ / قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ / قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(1).

 

قال المفسرون: خطابهم هذا لعامتهم بعد استماع الآيات تنبيه لهم على الجد في التمسك بدين آبائهم، وتحريض لهم عليه (صلى الله عليه وآله وسلم). وفي توصيف الآيات بالبينات نوع عتبى كأنه قيل: إذا تتلى عليهم هذه الآيات. وهي بينة لا ريب فيها. فبدلا من أن يدعوا عامتهم إلى اتباعها. حثوهم على الاصرار على تقليد آبائهم وحرضوا عليه وفي إضافة الآباء إلى ضمير "كم" مبالغة في التحريض والإثارة وقالوا لأتباعهم: ليس هذا إلا كلاما مصروفا عن وجهه. مكذوبا به على الله. بدلا من أن يقولوا: إنها آيات بينات نازلة من عند الله تعالى. والذين كفروا بعثهم الكفر إلى أن يقولوا للحق الصريح الذي بلغهم وظهر لهم. هذا سحر ظاهر سحريته وبطلانه. والحال أنا لم نعطهم كتبا يدرسونها حتى يميزوا بها الحق من الباطل. ولم نرسل إليهم قبلك رسول ينذرهم ويبين لهم ذلك. فيقولوا استنادا إلى الكتاب الإلهي أو إلى قول الرسول النذير: إنه حق أو باطل ­﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أي: وكذب بالحق من الآيات، الذين كانوا من قبل كفار قريش. من الأمم الماضية. ولم يبلغ كفار قريش عشر ما آتيناهم من القوة والشدة. فكذب أولئك الأقوام رسلي، فكيف كان أخذي بالعذاب، وما أهون أمر قريش. قل لهم: إنما أوصيكم بالعظة أن تنهضوا، وتنتصبوا لوجه الله. متفرقين حتى يصفوا فكركم ويستقيم رأيكم اثنين اثنين.

 

وواحدا واحدا. وتتفكروا في أمري. فقد صاحبتكم طول عمري على سداد من الرأي. وصدق وأمانة. ليس في جنة. ما أنا إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد يوم القيامة. فأنا ناصح لكم غير خائن ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ..﴾ كناية عن عدم سؤال أجر على الدعوة. فإنه إذا وهبهم كل ما سألهم من أجر.

 

فليس له عليهم أجر مسؤول. ولازمه أن لا يسألهم. وهذا تطييب لنفوسهم. أن لا يتهموه بأنه جعل الدعوة ذريعة إلى نيل مال أو جاه. ثم تمم القول بقوله: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ لئلا يرد عليه قوله بأنه دعوى غير مسموعة فإن الإنسان لا يروم عملا بغير غاية. فدفعه. بأن لعملي أجر. لكنه على الله لا عليكم وهو يشهد عملي وهو على كل شئ شهيد(2).

 

لقد أرادوا تهييج العامة والغوغاء، فأمرهم الإسلام بالتفرق وتجنب التجمع والغوغاء. فإن الغوغاء لا شعور لها ولا فكر. وكثير ما تميت الحق وتحيي الباطل. فهل فهم طابور الانحراف ما دعاهم إليه الإسلام؟ لقد قابلوا العلم بالجهل. وغاب عن طابور الانحراف عقله المميز. الحاكم في الحسن والقبيح والممدوح والمذموم. وانطلقوا نحو دوائر التحقير التي شرب منها سلفهم حتى ارتووا يقول تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا / أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا / أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً / أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ﴾ وبعد أن عرض أبناء السلف مطالبهم قال تعالى لرسوله: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً / وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً / قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً / قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾(3) قال المفسرون: قالت قريش: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ﴾ يا محمد ﴿حَتَّى تَفْجُرَ﴾ وتشق ﴿لَنَا مِنَ الأَرْضِ﴾ من مكة لقلة مائها ﴿يَنبُوعًا﴾ عينا لا ينضب ماؤها ﴿أَوْ تَكُونَ﴾ بالإعجاز ﴿لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ﴾ أي تشقها وتجريها ﴿خِلالَهَا﴾ أي وسط تلك الجنة وأثناءها ﴿تَفْجِيرًا﴾ ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ﴾ أي مماثلا لما زعمت يشيرون به إلى قوله تعالى: ﴿أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء﴾ (4) ﴿عَلَيْنَا كِسَفًا﴾ وقطعا ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً﴾ مقابلا نعاينهم ونشاهدهم. أو يكون لك ببيت من زخرف وذهب ﴿أَوْ تَرْقَى﴾ وتصعد ﴿فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ﴾ وصعودك ﴿حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا﴾ منها كتابا ﴿قْرَؤُهُ﴾ ونتلوه(5).

 

لقد أمسكوا بذيول السلف بكل قوة ورددوا مقولاتهم التي أرادوا بها التعجيز ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾.

 

قال المفسرون: أمره الله تعالى أن يجيب عما اقترحوه عليه وينبههم على جهلهم مكابرتهم فيما لا يخفى على ذي نظر. فإنهم طالبوه بأمور عظام، لا يقوى على أكثرها إلا القدرة الغيبية الإلهية. وفيها ما هو مستحيل بالذات كالإتيان بالله والملائكة قبيلا. ولم يرضوا بهذا المقدار ولم يقنعوا به دون أن جعلوه هو المسؤول المتصدي لذلك.

 

المجيب لما سألوه. فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك أن يفعل كذا وكذا.

 

بل قالوا: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ﴾ ﴿أَوْ تَكُونَ لَكَ ..﴾ ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ﴾ إن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر. فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية.المحيطة حتى بالمحال الذاتي. وإن أدوا منه ذلك بما أنه يدعي الرسالة.

 

فالرسالة لا تقتضي إلا حمل ما حمله الله من أمره وبعثه لتبليغه بالإنذار والتبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه وإقداره أن يخلق كل ما يريد. ويوجد كل ما شاؤوا.

 

وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يدعي لنفسه ذلك. فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الأمر من عجيب الاقتراح. ولذلك أمره تعالى أن يبادر في جوابهم أولا إلى تنزيه ربه مما يلوح إليه اقتراحهم هذا. من المجازفة وتفويض القدرة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ولا يبعد أن يستفاد منه التعجب. فالمقام صالح لذلك. وثانيا. إلى الجواب بقوله في صورة الاستفهام ﴿هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾ وهو يؤيد كون قوله: ﴿سُبْحَانَ رَبِّي﴾ واقعا موقع التعجب. أي: إن كنتم اقترحتم على هذه المور وطلبتموها مني بما أنا محمد. فإنما أنا بشر ولا قدرة للبشر على شئ من هذه الأمور. وإن كنتم اقترحتموها لأني رسول ادعي الرسالة. فلا شأن للرسول إلا حمل الرسالة وتبليغها لا تقلد القدرة الغيبية المطلقة.

 

قد ظهر بهذا البيان أن كلا من قوله ﴿بَشَرًا﴾ و﴿رَّسُولاً﴾ دخيل في استقامة الجواب عن اقتراحهم. أما قوله: ﴿بَشَرًا﴾ فليرد به اقتراحهم عيه أن يأتي بهذه لآيات عن قدرته في نفسه. وأما قوله: ﴿بَشَرًا﴾ فليرد به اقتراحهم عليه أن يأتي بهذه مكتسبة من ربه(6).

 

ثالثا: وجاءتهم كلمة العذاب:

بعد أن بين لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حقيقة الأمر وأنه لا يملك إلا ما يأذن فيه ربه أمره ربه جل وعلا أن يبلغهم أن الأمر بينه وبينهم إلى ربه يحكم فيه بما يشاء ﴿قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾.

 

قال المفسرون: لما احتج عليهم بما احتج. وبين لهم ما بين في أمر معجزة رسالته وهي القرآن الذي تحدى به وهم على عنادهم وجحودهم وعنتهم لا يعتنون به.

 

ويقترحون عليه بأمور جزافية أخرى. ولا يحترمون لحق ولا ينقطعون عن باطل.

 

أمر أن يرجع الأمر إلى شهادة الله. فهو شهيد بما وقع منه ومنهم. فقد بلغ ما أرسل به ودعا واحتج وأعذر. وقد سمعوا وتمت عليهم الحجة واستكبروا وعتوا والآية في معنى إعلام قطع المحاجة. وترك المخاصمة ورد الأمر إلى مالك الأمر فليقض ما هو قاض(7) ﴿وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ﴾(8).

 

قال المفسرون: إن الهداية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد فمن هداه فهو المهتدي لا غير ومن أضله ولم يهده فلن تجد يا محمد له أولياء من دونه يهدونه. والله لا يهدي هؤلاء. فانقطع عنهم ولا تكلف نفسك في دعوتهم رجاء أن يؤمنوا(9).

 

لقد دخل أبناء الانحراف داخل عباءة آبائهم. لم يتبعوا النور الذي يهدي إلى صراط الله. واتبعوا طابور العمي الذي لا يهدي إلى الظلام والضلال.

 

كان النبي الأمي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتلو عليهم آيات ربه فما يزيدهم إلا نفورا. تحداهم بالقرآن وطالبهم أن يأتوا بمثله ولن يأتوا بمثله ولو كان الثقلان أعوانا لهم وأعضادا يمدونهم. لكنهم هربوا من أمام المعجزة وطالبوا بالأنهار والحدائق وغير ذلك هربوا من أمام المعجزة كما هرب آباؤهم من قبل. وعندما طالبوا بما طالب به الأوائل في طابور الانحراف تلى عليهم الرسول الأعظم قول ربه: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾(10).

 

قال المفسرون: ﴿إن أتبع﴾ ليدل على كونه مأمورا بتبليغ ما يوحى إليه. ليس له إلا اتباع ذلك ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ أي أني وإن ساويتكم في البشرية والعجز. لكن ذلك لا يمنعني عن دعوتكم إلى اتباعي. فإن ربي جعلني على بصيرة بما أوحى إلي دونكم. فأنا وأنتم كالبصير والأعمى لا يستويان في الحكم. وإن كانا متساويين في الإنسانية. فإن التفكر في أمرهما يهدي الإنسان إلى القضاء بأن البصير يجب أن يتبعه الأعمى. والعالم يجب أن يتبعه الجاهل(11)!

 

وسارت قافلة الظلام تشق طريقها في غبار الضلال ﴿وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾(12)! وبينما هم يقولون ذلك يقول تعالى لرسوله: ﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾(13) وقال: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾(14) وقال: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ / وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾(15) وقال: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾(16) لقد طيب الله تعالى خاطر رسوله وخاصة في السور المكية لشدة الأمر عليه وأخبره بأنه سبحانه نزل الذكر عليه وأنه تعالى يحفظه. فلا يضيق صدره بما يقولون فإن ما يقولوه دأب المجرمين من الأمم الإنسانية. وأن حال دعوته بالذكر المنزل عليه، تشبه حال الرسالة من قبله، فكلما أرسل الله من قبله رسولا، قابلوا الرسالة بالصد والاستهزاء.

 

وهؤلاء المجرمين، لو فتح الله عليهم بابا من السماء، ويسر لهم الدخول في عالمها. فداموا فيه عروجا بعد عروج، حتى يتكرر لهم مشاهدة ما فيه من أسرار الغيب وملكوت الأشياء. لقالوا: إنما غشيت أبصارنا، فشاهدت أمورا لا حقيقة لها. بل نحن قوم مسحورون وهو قوله تعالى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ / لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾(17) إن طابور الانحراف توغل بأقدامه داخل دروب الظلام ولن يأخذ بأسباب الهدى حتى ولو فتحت له أبواب السماء لينظر بأم عينيه معجزات الله الباهرة. لقد بعث الله فيهم رسولا منهم ليهديهم ولكنهم أغلقوا الأبواب فحقت عليهم كلمة العذاب يقول تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ / عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ / تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ / لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ / لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ / إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ / وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ / وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(18).

 

قال المفسرون: المعنى: إنما أرسلك وأنزل عليك القرآن لتنذر وتخوف قوما لم ينذر آباءهم فهم غافلون. والمراد بالقوم هو قريش ومن يلحق بهم. وذكرهم وحدهم لا ينفي من عداهم نظرا إلى عموم رسالته. والمراد بالقول الذي حق عليهم. أنه قد وجب العذاب على أكثرهم وذلك لأن الله قد ختم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون بالله ولا يصدقون رسله(19). وقال تعالى إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة ممن جعل في عنقه غل فجمع يده مع عنقه تحت ذقنه وارتفع رأسه فصار مقمحا ولذا قال تعالى: ﴿فَهُم مُّقْمَحُونَ﴾ أي رافعي رؤوسهم وأيديهم موضوعة على أفواههم فهم مغلولون عن كل خير ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ عن الحق ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾ عن الحق فهم مترددون(20).

 

وبالجملة غشينا أبصارهم عن الحق فلا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه. أي ركبوا طريق الطمس باختيارهم فاستحقوا إضلال الله لهم. وقال في الميزان: المراد بالقول الذي حق عليهم كلمة العذاب التي تكلم بها الله سبحانه في بدء الخلقة مخاطبا بها إبليس ﴿فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ / لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(21) والمراد بتبعية إبليس طاعته بما يأمر به بالوسوسة والتسويل بحيث تثبت الغواية وترسخ في النفس كما يشير إليه قوله تعالى خطابا لا بليس: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ / وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(22) ولازمه الطغيان والاستكبار على الحق كما يشير إليه ما قاله تعالى من تساؤل المتبوعين والتابعين في النار ﴿بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ / فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ / فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾(23) وقوله: ﴿وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ / قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾(24).

 

لازمه الانكباب على الدنيا والإعراض عن الآخرة بالمرة ورسوخ ذلك في نفوسهم قال تعالى: ﴿وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ / ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ / أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾(25) فيطبع الله على قلوبهم. ومن آثاره أن لا سبيل لهم إلى الإيمان قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(26) بما تقدم ظهر أن الفاء في قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ للتقريع لا للتعليل كما احتمله بعضهم(27) وقوله تعالى: ­﴿وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.

 

قال المفسرون: أي قد ختم الله عليهم بالضلالة فما يفيد فيهم الانذار ولا يتأثرونبه.

 

وكما قال تعالى: ﴿­حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ / وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾(28) ولا منافاة بين إخباره بأنهم سواء أنذروا أم لم ينذروا وبين إنذارهم. لأن في البلاغ إتماما للحجة(29) ﴿­لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾(30).

 

لقد طالبهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينظروا في الكون نظر المتدبر البصير كي يحطموا الأصنام بأنفسهم تلك الأصنام القابعة على طريق عقولهم ووجدانهم ولكنهم أبوا إلا طريق الآباء يقول تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ / وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾(31) فأهل هذه الآية هم الذين تعاموا عن آيات الله في الكون وأمسكوا ذيول سلفهم على طريق الانحراف. والله تعالى كتب على نفسه أن يصرف عن آياته كل من يعرض عن سبيل الهدى قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾(32).

 

قال المفسرون: أي سأضع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ويتكبرون على الناس بغير حق. وقال سفيان: أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي. وقال ابن جرير: هذا يدل على أن هذا الخطاب لهذه الأمة(33) وقال في الميزان: الآية تقييد التكبر في الأرض بغير الحق مع أن التكبر فيها لا يكون إلا بغير الحق. كتقييد البغي في الأرض بغير الحق للتوضيح لا للاحتراز. ويراد به الدلالة على وجه الذم. وأن التكبر كالبغي مذموم لكونه بغير الحق وقوله: ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ أي اعتنائهم الشديد ومراقبتهم الدقيقة على مخالفة سبيل الرشد. واتباع سبيل الغي. بحيث لا يعذرون بخطأ ولا تحتمل في حقهم جهل أو اشتباه(34).

 

لقد جلس معسكر الانحراف في المكان الذي اختاره لنفسه. المكان الذي يكون فيه أضل من البهيمة. وذلك بعد أن صادر سمعه وبصره وفؤاده وألقى بنفسه في أحضان الشيطان يقول تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾(35).

 

قال المفسرون: وليست ولايتهم وتصرفهم في الإنسان إلا ولاية الفتنة والغرور. فإذا افتتن واغتر بهم تصرفوا بما شاؤوا وكما أرادوا(36) لقد دعاهم الرسول الأعظم إلى الطهر والنقاء وسعادة الدارين. ولكنهم تعاملوا مع الدعوة كتجار فاعتبروها سلعة كل منهم يحسب مكسبه منها في حالة الاقتراب أو الابتعاد عنها.

 

وفي جميع الحالات يتحرك التجار وفقا لسنة الآباء القومية. وفاتهم أن العقيدة لا تصلح للتجارة ولا تخضع لأكياس النقود.

 

المصدر:

1- الانحرافات الكبرى

2- القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- سورة سبأ / 43-47.

2- الميزان: 389 / 16.

3- سورة الإسراء / 90-96.

4- سورة سبأ / 9. والآية لا تخلو من دلالة على تقدم سورة سبأ على هذه السورة نزولا.

5- الميزان: 202 / 13.

6- الميزان: 205 / 13.

7- الميزان: 208 / 15.

8- سورة السراء / 97.

9- الميزان: 209 / 15.

10- سورة الأنعام / 50.

11- الميزان: 97 / 7.

12- سورة الحجر / 6.

13- سورة القلم / 2.

14- سورة الأنعام / 10.

15- سورة الأنعام / 33-34.

16- سورة الطور / 48.

17- سورة الحجر / 14-15.

18- سورة يس / 3-10.

19- تفسير ابن كثير: 564 / 3.

20- تفسير ابن كثير: 564 / 3.

21- سورة ص / 84-85.

22- سورة الحجر / 42-43.

23- سورة الصافات / 30-32.

24- سورة الزمر / 71-72.

25- سورة النحل / 106-108.

26- سورة يونس / 96.

27- الميزان: 64 / 17.

28- ابن كثير: 565 / 3.

29- الميزان: 72 / 17.

30- سورة الأنفال / 42.

31- سورة يوسف / 105-106.

32- سورة الأعراف / 146.

33- ابن كثير: 247 / 2.

34- الميزان: 247 / 8.

35- سورة الأعراف / 27.

36- الميزان: 71 / 8.