النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) -3

 

4- هدم الانحراف السلفي:

لقد وضع معسكر الانحراف قاعدة إتباع الآباء ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾(1) وعلى هذه القاعدة شقوا طريقهم وقالوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾(2) وعندما جاءتهم رسل الله قالوا: ﴿تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا﴾(3) وباختصار كان طريق السلف الضال من أخطر الطرق على الفطرة. فتحت راياته تهود الفطرة أو تنصرها أو يتم توثينها بصورة من الصور. ومعسكر الانحراف استغل هذه القاعدة حتى في ارتكابه للفواحش يقول تعالى: ﴿وإذا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(4) وعلى أرضية آباء الضلال أقام معسكر الانحراف خيامه وقام فقهاء كل خيمة بالالتفاف حول عجل من العجول لا يعرفون لهم طريقا إلا به. إذا قلت قال الله. قالوا: وماذا عن العجل وإذا قلت هذا سبيل رسول الله قالوا: وأين موضع العجل في هذا السبيل؟

 

والرسالة الخاتمة قامت بتحطيم العجول بالحجة التي توقظ الفطرة وتغذي الفكر.

لقد أخبرهم القرآن في أكثر من موضع بأنهم كانوا وآباؤهم في ضلال مبين.

 

وأخبرهم أن آباء هم وأبناءهم لا يدرون أيهم أقرب لهم نفعا(5). وأن الإيمان الصادق بالله واليوم الآخر لا يجامع موادة أهل المحادة والمعاندة من الكفار ولو قارن أي سبب من أسباب المودة كالأبوة والبنوة والأخوة وسائر أقسام القرابة، فبين الإيمان وموادة أهل المحاداة تضاد لا يجتمعان لذلك(6).

 

ولكن الحلف السلفي ظل متمسكا بمنطق آبائه الذي لا يخدم إلا مخططات الشيطان من أجل هدم الإنسان. وكما أن تمسكهم بأعلام الآباء يخدم الشيطان. إلا أنه في الوقت ذاته يحقق لهم السير في الحياة وفقا لأهوائهم التي تستقيم مع معطيات كل عصر. فهم يعربدون لتغذية أهواءهم الحاضرة تحت مظلة سنة الآباء الماضية. وفي صدر الرسالة المحمدية حاول الانحراف السلفي أن يحاصر الرسالة بأدوات حاضرهم لحساب ماضيهم. فبدأوا بالتشكيك في الرسالة تارة والدخول من باب القضاء والقدر تارة أخرى.

 

ويخبر الله تعالى بأن فصائل الإنحراف قد قالوا: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ ثم صرف الله الخطاب عنهم لسقوط فهمهم وقال لنبيه: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ / وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾(7).

 

قال المفسرون: فكأنهم يقولون: لو كانت الرسالة حقة. وكان كما جاء به الرسل من النهي عن عبادة الأصنام والأوثان والنهي عن تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها. نواهي لله سبحانه. كان الله سبحانه شاء أن لا نعبد شيئا غيره. وأن لا نحرم من دونه شيئا.

 

ولو شاء الله سبحانه أن لا نعبد غيره ولا نحرم شيئا. لم نعبد ولم نحرم. لاستحالة تخلف مراده عن إرادته. لكنا نعبد غيره ونحرم أشياء فليس يشاء شيئا من ذلك فلا نهي ولا أمر منه تعالى. ولا شريعة ولا رسالة من قبله.

 

هذا تقرير حجتهم على ما يعطيه السياق ومغزى مرادهم. أن عبادتهم لغير الله وتحريمهم لما حرموه. وبالجملة عامة أعمالهم. لم تتعلق بها مشيئة من الله بنهي ولو تعلقت لم يعملوها ضرورة. وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). يأمره أن يبلغ رسالته بلاغا مبينا. ولا يعتني بما لفقوه من الحجة فإنها داحضة والحجة التامة عليهم بالبلاغ. فقوله: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي على هذا الطريق الذي سلكه هؤلاء. سلك الذين من قبلهم. فعبدوا غير الله وحرموا ما لم يحرم الله. ثم إذا جاءتهم رسلهم ينهونهم عن ذلك قالوا: ﴿لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا ..﴾ وقوله: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ أي بلغهم الرسالة بلاغا مبينا تتم به الحجة عليهم. فإنما وظيفة الرسل البلاغ المبين. وليس من وظيفتهم أن يلجئوا الناس إلى ما يدعونهم إليه وينهونهم عنه. ولا أن يحملوا معهم إرادة الله الموجبة التي لا تتخلف عن المراد. ولا أمره الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون. حتى يحولوا بذلك الكفر إلى الإيمان. ويضطروا العاصي على الطاعة.

 

فإنما الرسول بشر مثلهم. الرسالة التي بعث بها إنذار وتبشير. وهي مجموعة قوانين اجتماعية. أوحاها إليه الله. فيها صلاح الناس في دنيا هم وآخرتهم. صورتها صورة الأوامر والنواهي المولوية. وحقيقتها الإنذار والتبشير قال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾(8) فهذا ما أمر به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم. وقد أمر به نوحا ومن بعده من الرسل (عليهم السلام) أن يبلغوه أممهم(9) ولقد بعث الله تعالى في كل أمة رسول. وما كانت حقيقة بعث الرسول إلا أن يدعوهم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت ومن الدليل على ذلك آثار الأمم الماضية الظالمة التي تحكي عن نزول العذاب عليهم وفسروا في الأرض فانظروا كيف عاقبة المكذبين حتى يتبين لكم أن الدعوة النبوية التي هي إنذار حق إن الرسالة ليست كما تزعمون(10).

 

إن أصحاب العقول الفارغة يستمعون إلى نداء النبي وهو يبلغ عن ربه ومطالبته لهم بأن يجتنبوا عبادة العجول مع أشكالها فيقولون لو كان النهي صحيحا ما شاء الله أن نعبد غيرها. فإن قلت لقد شاء الله وأرسل لكم رسولا ليزيل من عقولكم بصمات سلفكم الضال ومعه المعجزة التي تثبت رسالته إليكم. هرولوا إلى مظلات السلف وقالوا كما قال الذين من قبلهم إن هذا إلا خلق الأولين وما سمعنا بهذا من قبل يكفينا ما دونه فقهاء الآباء وإنا على آثارهم مقتدون. هكذا لا يسمع الصم الدعاء. وإذا كان هذا الفريق قد حاول الالتفات حول الرسالة. فإن الفريق الأقذر منه هو الذي حاول الدخول من باب القضاء والقدر يقول تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ / قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾(11) إنه فريق فقهاء الجدل الذي ينام في حاضره تحت مظلة سلفه الضال. ولكي يخدم سنة آبائه القومية. يفتح لأهوائه العنان، قال ببساطة: هب أننا مشركون. ألم يشأ الله لنا ذلك لماذا نلام على الشرك.

 

قال المفسرون: وهي حجة داحضة باطلة. فالذين من قبلهم قالوا بهذا ولو كان قولهم صحيحا ما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم. (قل هل عند كم من علم) أي بأن ما تفعلوه هو بأمر الله ﴿فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ أي فتظهره لنا ﴿إِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾ والخيال. والمراد بالظن هنا. الإعتقاد الفاسد. ﴿وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾ تكذبون على الله فيما ادعيتموه(12) وقال صاحب الميزان: الآية تذكر احتجاجهم بهذه الحجة، ثم ترد عليهم بأنهم جاهلون بها. وإنما يركنون فيها إلى الظن والتخمين. فإنهم احتجوا بها لإثبات أن شركهم وتحريمهم ما رزقهم الله، بإمضاء من الله سبحانه. لا بأس في ذلك. فحجتهم: أن الله لو شاء منا خلاف ما نحن عليه من الشرك والتحريم.

 

لكنا مضطرين على ترك الشرك والتحريم. فإذا لم يشأ كان ذلك إذنا في الشرك والتحريم فلا بأس بهذا الشرك والتحريم. كانت هذه حجتهم. وهذه الحجة لا تنتج هذه النتيجة. إنما تنتج أن الله سبحانه إذ لم يشأ منهم ذلك. لم يوقعهم موقع الاضطرار والإجبار وفهم مختارون في الشرك والكف عنه. والتحريم وتركه. فله تعالى أن يدعوهم إلى الإيمان به ورفض الافتراض. فلله الحجة البالغة ولا حجة لهم في ذلك. إلا اتباع الظن والتخمين.

 

وقوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ كأن الفاء الأولى لتفريع مضمون الجملة على ما تقدم من قولهم: ﴿لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ إلخ والفاء الثانية للتعليل. فيكون الكلام من قبيل قلب الحجة على الخصم بعد بيان مقتضاها.

 

والمعنى: أن نتيجة الحجة قد التبست عليكم بجهلكم واتباعكم الظن وخرصكم في المعارف الإلهية فحجتكم تدل على أن لا حجة لكم في دعوته إياكم إلى رفض الشرك، وترك الافتراء عليه. وأن الحجة إنما هي لله عليكم. فإنه لو شاء لهداكم أجمعين. أجبركم على الإيمان وترك الشرك والتحريم. وإذا لم يجبركم على ذلك. وأبقاكم على الاختيار. فله أن يدعوكم إلى ترك الشرك والتحريم. وبعبارة أخرى: يتفرغ على حجتكم. أن الحجة عليكم. لأنه لو شاء لأجبر على الإيمان. فهداكم أجمعين. ولم يفعل بل جعلكم مختارين. يجوز بذلك دعوتكم إلى ما دعاكم إليه(13).

 

وهكذا أخرج فقهاء الانحراف كل ما في جعبتهم لمواجهة الدعوة الإسلامية في مكة. أرادوا أن يحاصروا الدعوة فزجوا باسم الله في عمليات الصد عن سبيل الله. ولكن حجج الله كانت لهم بالمرصاد. وقلد دخل من باب القضاء والقدر العديد من حملة المعاول التي تهدم الفطرة. وكم مارس فقهاء الانحراف من عمليات التمييع التي نسجت في النهاية شباك التغييب حول الفطرة الأمر الذي أدى بمعظم القافلة البشرية أن تسير بلا هدف. يقترفون كل منكر تحت لافتة لقد أمر الله بهذا ويحرفون كل نص ويقولون لقد شاء الله ذلك ولو شاء غير ذلك ما حرفنا وما تأولنا وما سرنا وراء من ترفضون. إن القول بالجبر لم يقل الإسلام به. لأنه لو قال به لما أقام حجته على العقلاء الذين يقولون أن الخير يجب أن يؤثر والحسن يجب أن يفعل والقبيح يجب أن يجتنب عنه. ويقولون بأنه لا بد من جزاء ومجازاة الإحسان بالإحسان والإساءة. ومن أحكامهم أن الأمر والنهي وكل حكم تشريعي لا يتوجه إلا إلى المختار دون المضطر والمجبر على الفعل. فلو أنه سبحانه أجبر على الطاعات أو المعاصي. لم يكن جزاء المطيع بالجنة والعاصي بالنار إلا جزافا في مورد المطيع. وظلما في مورد العاصي والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء. ولا حجة في قبيح.

 

ولكن الإسلام جاء بما تستقيم عليه الفطرة لتغمر الحجة جميع العقلاء والأغبياء وقد قال تعالى: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾(14) ويقول: ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾(15) يقول صاحب الميزان(16): إن التشريع ليس مبنيا على أساس الجبر في الأفعال. فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم أولا. وهي متوجهة إلى العباد من حيث أنهم مختارون في الفعل والترك ثانيا. والمكلفون إنما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير وشر اختيارا. كما أن ما ينسبه القرآن إلى الله تعالى من الإضلال والخدعة والمكر والإمداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الإنسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوب إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألوان النقص والقبح والمنكر. فإن جميع هذه المعاني راجعة في النهاية إلى الاضلال وشعبه وأنواعه. ليس كل إضلال حتى إضلال البدوي وعلى سبيل الإغفال المنسوب إليه ولا لائق بجنابه تعالى. بل الثابت له الإضلال مجازاة وخذلانا لمن يستقبل بسوء اختياره ذلك كما قال تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾(17): ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾(18) وقال: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ﴾(19).

 

إن معسكر الانحراف دخل من الباب الذي ترفضه الفطرة متاجرين بخلق أفعال العباد كي يحافظوا على شذوذ القديم ويعبرون به إلى المستقبل كي يزدحم طريق الطمس. وقيما سئل أبو الحسن (عليه السلام) عن أفعال العباد، أهي مخلوقة لله تعالى؟ فقال: لو كان خالقا لها لما تبرأ منها. وقد قال سبحانه: ﴿أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم. وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم(20) وقيل لأبي عبد الله هل فوض الله الأمر إلى العباد؟ قال: الله أكرم من أن يفوض إليهم. قيل: أأجبر الله العباد على أفعالهم؟ قال: الله أعدل من أن يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه(21) وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله. ومن زعم أن أخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه"(22) وروي عن الرضا (ع) أنه قال: "إن الله عز وجل لم يطع بإكراه. ولم يعص بغلبة. ولم يهمل العباد في ملكه. هو المالك لما ملكهم. والقادر على ما أقدرهم عليه".

 

فإن أمر العباد بطاعته. لم يكن الله منها صادا. ولا منها مانعا. وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل. وإن لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال (عليه السلام): من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه"(23).

 

وكما تاجر فقهاء الانحراف بقضية الإجبار تاجروا أيضا بلافتة الحسنة والسيئة. وحاولوا وضع رداء التمييع عليها كي تواصل القافلة مسيرها في ظلمة الليل إلى الدجال. وهم يظنون أن الحسنات والسيئات تلقى عليهم من السماء ليصيب الله بها من يشاء ولا دخل لهم فيما يقترفوه من سيئات. لقد جاء الإسلام ليصحح هذه المفاهيم ليهلك من هلك عن بينة. مبينا أن لكل شئ غاية فمثلا الحياة النباتية لشجرة ما تؤدي إلى إثمارها ثمرة كذا. فهذه الثمرة هي غاية وجودها، فإذا كان هذا هو حال النبات. فما بالك بالإنسان. إن الإنسان له هدف وغاية وعلى امتداد طريقه يصيب الحسنات والسيئات، والحسنات هي الأمور التي يستحسنها الإنسان بالطبع. كالعافية والنعمة والأمن. وكل ذلك من الله.

 

والسيئات هي الأمور التي تسوء الإنسان كالمرض والذلة والمسكنة والفتنة. وكل ذلك يعود إلى الإنسان إليه سبحانه. يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (24) لا ينافي ذلك رجوع جميع الحسنات والسيئات بنظر كلي آخر إليه تعالى. كما قال سبحانه: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا / مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾(25) وقال في الميزان: وإياك أن تظن أن الله سبحانه حين أوحى هذه الآية إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) نسي الحقيقة الباهرة التي أبانها بقوله: ﴿اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾(26) وقوله: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾(27) فعد سبحانه كل شئ مخلوقا حسنا في نفسه. وقد قال جل شأنه: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾(28) وقال: "لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى"(29) فمعنى قوله: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ﴾ (الآية) أن ما أصابك من حسنة -وكل ما أصابك حسنة- فمن الله. وما أصابك من سيئة فهي سيئة بالنسبة إليك حيث لا يلائم ما تقصده وتشتهيه وإن كانت في نفسها حسنة فإنما جرتها إليك نفسك باختيار ها السيئ. واستدعتها كذلك من الله. فالله أجل من أن يبدأك بشر وضر. والآية وإن كانت خصت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخطاب. لكن المعنى عام للجميع. وبعبارة أخرى. هذه الآية والآيتين الأخريين ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا﴾ "الآية" ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَة﴾ "الآية" متكفلة الخطاب الاجتماعي لتلفها للخطاب الفردي.

 

فإن للمجتمع الإنساني كينونة إنسانية وإرادة واختيارا غير ما للفرد من ذلك، فالمجتمع ذو كينونة يستهلك فيها الماضون والغابرون من أفراده. ويؤاخذ متأخر وهم بسيئات المتقدمين. وليس يصح ذلك في الفرد بحسب حكمه في نفسه أبدا. فهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصيب في غزوة أحد في وجهه وثناياه. وأصيب المسلمون بما أصيبوا.

 

هو (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي معصوم إن أسند ما أصيب به إلى مجتمعه وقد خالفوا أمر الله ورسوله. كان ذلك مصيبة سيئة صابته بما كسبت أيدي مجتمعه وهو فيهم كموسى عليه السلام فقد أصاب بني إسرائيل عذاب التيه في الصحراء بما كسبت أيديهم كان موسى (عليه السلام) فيهم، وإن أسند إلى شخصه الشريف كان ذلك محنة إلهية أصابته في سبيل الله. وفي طريق دعوته الطاهرة إلى الله على بصيرة. فإنما هي نعمة رافعة الدرجات. وكذا كل ما ما أصاب قوما من السيئات إنما تستند إلى أعمالهم على ما يراه القرآن ولا يرى إلا الحق. وأن ما أصابهم من الحسنات فمن الله سبحانه.

 

والله تعالى يذكر في آياته، أن شيئا من خلقه لا يقدر على شئ مما يقصده من الغاية. ولا يهتدي إلى خير إلا بإقدار الله وهدايته قال تعالى: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(30) وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾(31) ويتبين بهاتين الآيتين وما تقدم من معنى آخر.

 

لكون الحسنات لله عز اسمه. وهو أن الإنسان لا يملك حسنة إلا بتمليك من الله وإيصال منه. فالحسنات كلها لله والسيئات للإنسان. وبه يظهر معنى قوله تعالى: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ فلله سبحانه الحسنات بما أن كل حسن مخلوق له. والخلق والحسن لا ينفكان. وله الحسنات بما أنها خيرات. بيده الخير لا يملكه غيره إلا بتمليكه. ولا ينسب إليه شئ من السيئات من حيث إنها سيئة غير مخلوقة وشأنه الخلق. وإنما السيئة فقدان الإنسان مثلا رحمة من لدنه تعالى أمسك عنها بما قدمت أيدي الناس(32) وهكذا أطاح الإسلام بالحجة الشيطانية التي أراد بها فقهاء الشيطان أن يتخذوا منها سندا شرعيا لإضلال أكثر الناس والسير بهم في طريق القهقري الذي يحمل أعلام الغايات الشيطانية.

 

ثانيا: هدم الأهواء الشيطانية: بعد أن طرح فقهاء الشيطان فكر اللافكر وعلم اللاعلم من داخل باب القضاء والقدر والحسنة والسيئة. حاصروا الفطرة بعلوم الأهواء التي تتميز بأنها لا غاية لها ولا هدف إلا الصب في نهاية المطاف داخل الوعاء الشيطاني. والإسلام في مكة بعد أن قام بتصحيح النظر في الكون ودل الإنسان على الطريق المستقيم مبينا له أنه ليس حصاة ملقاة على قارعة الطريق تحركها الأقدام والرياح حيث تريد. خاطب رسوله الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) الإنسان في أعماقه. كي يأخذ الإنسان بأسباب النجاة ويحطم الأصنام الراسخة في نفسه. لقد أخبرهم بأن اتباع الأهواء فيه تحقير منهم للكون وإذا كان الأقدمون قد حقروا وانتقصوا من الإنسان. فإن أبناءهم قاموا بتوسيع رقعة التحقير لتشمل الكون كله وذلك لأن إتباعهم للهوى يقتضي بأن يأتيهم الله بتشريع يلائم الأهواء وفي هذا مفسدة للتدبير السائد في الكون قال تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ﴾(33).

 

قال المفسرون: إن الإنسان حقيقة كونية مرتبطة في وجودها بالكون العام. وله في نوعيته غاية هي سعادته. وقد خط له طريق إلى سعادته وكماله ينالها بطي الطريق المنصوب إليها نطير غيره من الأنواع الموجودة.

 

وقد جهزه الكون العام وخلقته الخاصة به من القوي والآلات بما يناسب سعادته والطريق المنصوب إليها. وهي الاعتقاد والعمل اللذان ينتهيان به إلى سعادته.

 

فالطريق التي تنتهي بالإنسان إلى سعادته. أعني الإعتقادات والأعمال الخاصة المتوسطة بينه وبين سعادته. وهي التي تسمي بالدين وسنة الحياة. فتعينه حسب اقتضاء النظام العام الكوني والنظام الخاص الإنساني الذي نسميه الفطرة وتابعه لذلك. وهذا هو الذي يشير إليه تعالى بقوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾(34) فسنة الحياة التي تنتهي بسالكها إلى السعادة الإنسانية طريقة متعينة يقتضيها النظام بالحق. وتكشف عنها تجهيزات وجوده بالحق. وهذا الحق هو القوانين الثابتة غير المتغيرة التي تحكم في النظام الكوني الذي أحد أجزائه النظام الإنساني. وتدبره وتسوقه إلى غاياته وهو الذي قضى به الله سبحانه فكان حتما مقضيا. فلو اتبع الحق أهواءهم. فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به أهواؤهم. لم يكن ذلك إلا بتغير أجزاء الكون عما هي عليه وتبدل العلل والأسباب غيرها. وتغير الروابط المنتظمة إلى روابط جزافية مختلة متدافعة توافق مقتضياتها ومجازفات أهوائهم. وفي ذلك فساد السماوات والأرض ومن فيهن في أنفسها والتدبير الجاري فيها. لأن كينونتها وتدبيرها مختلطان غير متمايزين. والخلق والأمر متصلان غير منفصلين(35) بين لهم أن أهل الأهواء يطالبون بتشريع ينسجم مع ما يهوونه من الإعتقاد والعمل وما يريدوه من الفحشاء والمنكر والفساد. وبما أن الهوى لا يقف عند حد ولا يستقر على قرار. فإنهم يريدون مع كل جيل كونا جديدا ينسجم مع حركتهم. وهذا خبر فطرة الوجود.

 

ولكن طابور الأهواء في معسكر الانحراف وقف على حطام حججه التي حطمها الإسلام له. أمسك بذيول آبائه ليكمل مسيرة الانحراف حتى نهايتها. وبعد قيام الحجة عليه أوصى تعالى إلى رسوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ / إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾(36).

 

قال المفسرون: أمر الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع ما يوحي إليه من الدين وأن لا يتبع أهواء الجاهلين المخالفة للدين الحق. ويظهر من الآية. أن كل حكم عملي لم يستند إلى الوحي الإلهي ولم ينته إليه فهو هوى من أهواء الجاهلين غير منتسب إلى العلم. قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا﴾ أي أن لك إلى الله سبحانه حوائج ضرورية لا يرفعها إلا هو. والذريعة إلى ذلك اتباع دينه لا غير. فلا يغني عنك هؤلاء الذين اتبعت أهواءهم شيئا من الأشياء إليها الحاجة أو لا يغني شيئا من الإغناء. قوله: ﴿وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ المراد بالظالمين المتبعون لأهوائهم المبتدعة وبالمتقين المتبعين لدين الله. والمعنى: (إن الله ولي الذين يتبعون دينه لأنهم متقون والله وليهم. والذين يتبعون أهواء الجهلة. ليس هو تعالى وليا لهم. بل بعضهم أولياء بعض لأنهم ظالمون).

 

حتى يكونوا أولياء لك لا يغنون عنك من الله شيئا. وتسمية المتبعين لغير دين الله بالظالمين هو الموافق(37) لما يستفاد من قوله تعالى: ﴿أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ / الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ﴾(38).

 

فأهل الأهواء بجميع أنواعها وألوانها يربطهم جميعا رباط واحد. ويسرون في اتجاه واحد يحدده طريق الطمس الذي يسير القردة عليه أدلة لمن خلفهم.

 

وهم ما سلكوا هذا الطريق إلا بعد أن رفضوا الطريق الحق. قال تعالى لرسوله: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا / أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾(39) قال المفسرون: المراد باتخاذ الهوى إلها: طاعته واتباعه من دون الله. وقد أكثر الله سبحانه في كتابه ذم اتباع الهوى. وعد طاعة الشئ عبادة له في قوله: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ / وَأَنْ اعْبُدُونِي﴾(40) وقوله: ﴿أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ أي لست أنت وكيلا عليه قائما على نفسه وبأموره حتى تهديه إلى سبيل الرشد. فليس في مقدرتك ذلك. وقد أضله الله وقطع عنه أسباب الهداية وفي معناه قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾(41) وقوله: ﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾(42) والآية كالإكمال للتفصيل الذي في قوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ﴾(43).

 

ثم يقول الله تعالى لرسوله: بل أتظن أن أكثرهم لهم استعداد لسماع الحق ليتبعه. أو استعداد عقل الحق ليتبعه فترجوا اهتداءهم فتبالغ في دعوتهم ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ﴾ أي أن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون. أي أنهم ليسوا إلا كالأنعام والبهائم في أنها لا تعقل ولا تسمع إلا اللفظ دون المعنى ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ أي من الأنعام. وذلك أن الأنعام لا تقتحم على ما يضر ها. وهؤلاء يرجحون ما يضرهم على ما ينفعهم. وأيضا الأنعام إن ضلت عن سبيل الحق. فإنها لم تجهز في خلقتها بما يهديها إليه. وهؤلاء مجهزون وقد ضلوا(44).

 

إن طابور الأهواء لم يبنوا شركهم على التعقل. بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم. لقد ظلموا أنفسهم أولا فأدى بهم هذا الظلم إلى ركوب طريق الضلال. يقول تعالى: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾(45).

 

قال المفسرون: كان مقتضى الظاهر أن يقال: بل اتبع الذين أشركوا. ولكنه قال: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ فوصفهم بالظلم ليتعلل به ما سيصفهم بالضلال بعد ذلك في قوله: ﴿فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ فالظلم يستتبع الإضلال الإلهي. قال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾(46).

 

إن الرسالة الخاتمة كانت رحمة من الله للعالمين. لقد قامت بتعرية طريق السلف الذي التقط المنهج الشيطاني. في أول الطريق. وقام بتعرية حججهم الواهية التي صاغوا لتحفظ لهم سنتهم القومية وترتع فيها أهواؤهم. وتعرية الإسلام لطريق الانحراف الهدف منه إقامة حجة الصراط المستقيم. ولم يكن الهدف في يوم من الأيام إكراه الناس على الإيمان. كما ادعى طابور الانحراف. الشذوذ على امتداد تاريخه. قال تعالى لرسوله: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾(47).

 

قال المفسرون: والمعنى في الآيات: لا تأسف عليهم. واتل ما يوحى إليك واصبر نفسك مع المؤمنين الفقراء وقل للكفار: الحق من ربكم. ولا تزد على ذلك. فمن شاء منهم أن يؤمن فليؤمن ومن شاء منهم أن يكفر فليكفر. فليس ينفعنا إيمانهم ولا يضرنا كفرهم. بل ما في ذلك من نفع أو ضرب وثواب أو تبعه عذاب عائد إليهم أنفسهم فليختاروا ما شاؤوا فقد اعتدنا للظالمين النار وللصالحين جنات تجري من تحتها الأنهار(48) وقال تعالى: ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾(49).

 

قال المفسرون: أي إن تكفروا بالله فلم توحدوه. فإنه غني عنكم لذاته لا ينتفع بإيمانكم وطاعتكم ولا يتضرر بكفركم ومعصيتكم. فالنفع والضرر إنما يتحققان في مجال الإمكان والحاجة. وأما الواجب الغني بذاته فلا يتصور في حقه انتفاع ولا تضرر وقوله: ﴿وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ دفع لما ربما يمكن أن يتوهم من قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ﴾ إنه إذا لم يتضرر بكفر ولم ينتفع بإيمان. فلا موجب له أن يريد منا الإيمان والشكر فدفعه بأن تعلق العناية الإلهية بكم يقتضي أن لا يرضى بكفركم وأنتم عباده. والمراد بالكفر كفر النعمة الذي هو ترك الشكر بقرينة مقابلة قوله: ﴿وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ والمحصل: أنكم عباد مملوكون لله سبحانه منغمرون في نعمه ورابطة المولوية والعبودية. وهي نسبة المالكية والمملوكية. لا تلائمه أن يكفر العبد بنعمة سيده فينسى ولاية مولاه ويتخذ لنفسه أولياء من دونه ويعصي المولى ويطيع عدوه وهو عبد عليه طابع العبودية لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا(50).

 

إن الإسلام عندما قام بتحطيم السلف الوثني وحججه كان يفسح الطريق أمام الإنسانية كي تتبين خطاها وتأخذ بأسباب الهدى. بعد أن أوحى الشيطان إلى أوليائه كي يفتحوا أبواب الفتن ويدخلوا من باب رافعين رايات القضاء والقدر والحسنة والسيئة تارة وحرية الإنسان الشخصية تارة أخرى. وأولياء الشيطان اعتبروا أن هذه أقرب الطريق للدخول بأكثر الناس تحت ظلال الظلام الشيطانية من أجل تتفيذ المخطط الشيطاني الذي حمله الشيطان على عاتقه منذ أن رفض السجود لآدم. وبينما كان فقهاء الشيطان وتلاميذه يسيرون نحو غاياتهم. كانت سهامهم توجه إلى صدر الإسلام فيتهمونه تارة بأنه دين جامد لم يقدم دليلا على أنه من عند الله وتارة أخرى على أنه دين يصادر الحرية ولا هم له إلا السلب والنهب!

 

وإذا كنا هنا لم نقدم سوى بعض من الآيات المكية فقط. فإننا نقول لمعسكر الانحراف. هل في حجج الإسلام سلب ونهب وإكراه؟ هل وجدتم جمود؟ هل علم معسكر الانحراف نظام أعطى خصومه الحرية الكاملة الإبداء آرائهم وصححها بما يخدم إنسانيتهم أكثر من الإسلام؟ إن الإسلام جاء ليتكلم هو لن يتكلم إلا إذا تكلم الطرف الآخر. وبعد أن يقول الإسلام كلمته يذر الظالمين يخوضوا ويلعبوا حتى يأتيهم اليوم الذي يوعدون. فهل في هذا إكراه وإجبار؟ فإذا كانت الإجابة بلا.. فلماذا قلتم وتقولون وستقولون عن الإسلام بأنه دين للجمود والدماء؟ إن القول الذي تقولون به من ثقافة طريق الطمس والإسلام أسمي من أن ينظر في ثقافة قردية الطمس فهؤلاء لهم يوم حدده الله. وفيه يكون عذاب الاستئصال. ونحن وإياكم في انتظاره. إن الزيت السلفي بدأ في الجفاف على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والذين تاجروا بالأديان أصبحت تجارتهم راكدة. إن الجفاف الأكبر قادم. معه ستقطع حبال الأهواء التي يتدلى فيها أبناء الانحراف. وسيسقطون بينما تكون قوافل الهدى التي على الصراط المستقيم ترتل كتاب ربها بآياته التي قرأها رسولهم أول مرة. والله ولي المتقين.

 

المصدر:

1- الانحرافات الكبرى.

2- القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1-  سورة لقمان / 21.

2-  سورة الزخرف / 22.

3-  سورة إبراهيم / 10.

4-  سورة الأعراف / 28.

5-  سورة النساء / 11.

6-  سورة المجادلة / 22.

7-  سورة النحل / 35-36.

8-  سورة الأنعام / 50.

9-  الميزان: 241 / 12.

10-  الميزان: 245 / 12.

11-  سورة الأنعام / 148-149.

12-  ابن كثير: 186 /.

13-  الميزان: 317 / 7.

14-  سورة النساء / 165.

15-  سورة الأنفال / 42.

16-  الميزان: 95 / 1.

17-  سورة البقرة / 26.

18-  سورة الصف / 5.

19-  سورة غافر / 34.

20-  الميزان: 101 / 1.

21-  الميزان: 103 / 1.

22-  الميزان: 103 / 1.

23-  الميزان: 99 / 1.

24-  سورة الأنفال / 53.

25-  سورة النساء / 78-79.

26-  سورة الزمر / 62.

27-  سورة السجدة / 7.

28-  سورة مريم / 64.

29-  سورة طه / 52.

30-  سورة طه / 50.

31-  سورة النور / 21.

32-  الميزان: 15 / 5.

33-  سورة المؤمنون / 71.

34-  سورة الروم / 3.

35-  الميزان: 47 / 15.

36-  سورة الجاثية / 18-19.

37-  الميزان: 167 / 18.

38-  سورة الأعراف / 44-45.

39-  سورة الفرقان / 43-44.

40-  سورة يس / 60-61.

41-  سورة القصص / 56.

42-  سورة فاطر / 22.

43-  سورة الجاثية / 23.

44-  الميزان: 224 / 15.

45-  سورة الروم / 29.

46-  الميزان: 177 / 16.

47-  سورة الكهف / 29.

48-  الميزان: 304 / 13.

49-  سورة الزمر / 7.

50-  الميزان: 239 / 17.