النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) -2

ثانيا: الدعوة إلى الهدى:

1- معسكرات الانحراف:

لم يكن طريق الدعوة بالطريق السهل. فالانحراف كان شاسعا وعميقا، وعلى امتداد ليلة ظهرت له مخالب وأنياب تدافع عن الأهواء والشذوذ، فأهل مكة كانوا قد أقسموا قبل إرسال الرسول إليهم، لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من تلك الأمم التي كذبوا رسلهم، وعندما جاءهم الرسول النبي الأمي الذي لم يعهدوا فيه إلا كل خلصة كريمة، نسوا ما كانوا قد أقسموا به من قبل وغاصوا في مستنقعات الأوحال على دروب الانحراف.

 

ومن داخل الأوحال قذفوا أتباع الهدى بجميع ما يستقيم مع ثقافة الانحراف. يقول تعالى عن خط الصد في مكة: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾(1).

 

قال المفسرون: حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يكونوا أهدى من إحدى الأمم التي جاءهم نذير. فلما جاءهم تباعدوا عنه وهربوا! فهذا الخط من خطوط الصد وضع في طريق الدعوة العديد من العراقيل دفاعا عن أهوائه وطريق آبائه. نفورهم واستكبارهم لا يقودهم إلا إلى السنة الجارية في الأمم الماضية، وهي العذاب الإلهي، ولن تجد لسنة الله تبديلا، والله تعالى يبعث الرسل لإقامة الحجة، ولكن لا يكون للناس على الله حجة. وحط الصد في مكة لبس الحجة كاملة وهو يقف على خنادق الإنحراف والشذوذ. يقول تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ / أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ / أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا﴾(2).

 

فالذي يسمك بحجر ويقف على خندق من خنادق الصد أقيمت عليه الحجة بالدعوة، ولا يبالي الله به في أي واد هلك، ولم يكن حال أهل الكتاب بأحسن من حال كفار قريش، فلقد شاركوهم خطوط الصد ولكن كل حسب طريقته.

 

وأهل الكتاب كانوا يستفتحون ويستنصرون بخروج محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فلما بعثه الله كفروا به وحسدوه قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ﴾(3) وأهل الكتاب تصدروا خطوط الصد بعد هجرة الرسول إلى المدينة ولذا كانت آيات القرآن التي نزلت على رسول الله في المدينة لتكشف كيدهم أكثر مما نزل عليه في مكة. وباختصار لقد وقف في وجه الدعوة جميع أبناء الشذوذ والانحراف الذين استقامت أهواؤهم مع أهواء الظالمين في الأمم الماضية من عهد نوح (عليه السلام)، ولقد قدمت الدعوة الإسلامية إلى هؤلاء الدواء الشافي من كل داء لنخرجهم من الظلمات إلى النور فمنهم من آمن ومنهم من كفر.

 

2- الداعي إلى الله:

أمام معسكرات الشذوذ وخيام الإنحراف تلى رسول الله (صلى عليه وآله وسلم) آيات القرآن الكريم في مكة ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ / وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ / قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾(4).

 

قال المفسرون: أنا كأحدكم مأمور بعبادته مخلصا له الدين، ولا ذاك فحسب، بل مأمور بأن أكون أول المسلمين لما ينزل إلي من الوحي، فأسلم له أولا ثم أبلغه لغيري، فأنا أخاف ربي وأعبده بإخلاص آمنتم به أو كفرتم(5).

 

عقب ذلك قال: "فاعبدوا ما شئتم" وهذا أمر تهديدي. بمعنى أن عبادتهم لن تنفعهم، لأنهم مصيبهم وبال إعراضهم عن عبادة الله، حيث يخسرون أنفسهم بإيرادها بالكفر مورد الهلكة، كما يخسرون أهلم بحملهم على الكفر والشرك، وهذا هو الخسران الحقيقي لأنه لا زوال له ولا انقطاع.

 

وأمام معسكرات الشذوذ وخيام الانحراف تلى الرسول الأعظم: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ / وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾(6).

 

قال المفسرون: الدعوة تبشير وإنذار. ولا يرجع إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمرها شيئا. وإنما الأمر إلى الله. ومعنى الآيات قل: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ -مكة المشرفة- التي حرمها الله ولم يشكر أهلها هذه النعمة. نعمد تحريم بلدهم. بل عبدوا الأصنام! ولكي لا يتوهم كفار مكة أن الله يملك مكة.. فيكون حاله حال سائر الأصنام. جعلوا لكل منها جزء من أجزاء العالم كالسماء والأرض وبلدة كذا وقوم كذا وأسرة كذا قال: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ إشارة إلى سعة ملكه تعالى وقوله: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أي من الذين أسلموا له فيما أراد ولا يريد إلا ما يهدى إليه الخلقة وتهتف به الفطرة وهو الدين الحنيف الفطري الذي هو ملة إبراهيم.

 

وقوله: ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ أي أمرت أن أقرأ القرآن عليكم. فمن اهتدى بهذا القرآن فالذي ينتفع به هو نفسه، ولا يعود نفعه إلي. ومن لم يهتد به بالإعراض عن ذكر ربه. وهو الضلال. فعليه ضلاله ووبال كفره لا علي. لأني لست إلا نذرا مأمورا بذلك ولست عليه بوكيل والله هو الوكيل عليه(7).

 

وأمام معسكر الإنحراف تلى الرسول الأعظم قول الله تعالى: ﴿وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾(8).

 

قال المفسرون، أي آمنت بالكتب السماوية التي نزلها الله على رسله. وأمرت أن أعدل بينكم أي أسوي بينكم. فلا أقدم قويا على ضعيف ولا غني على فقير ولا كبير على صغير ولا أفضل أبيض على أسود ولا عربي على عجمي ولا هاشميا أو قرشيا على غيره، فالدعوة متوجهة إلى الجميع والناس قبال الشرع الإلهي سواء.

 

فقوله: ﴿آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ﴾ تسوية بين الكتب المنزلة من حيث الإيمان بها وقوله: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ تسوية بين الناس من حيث الدعوة وما جاء به الشرع وقوله: ﴿اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ يشير إلى أن رب الكل هو الله الواحد تعالى وفليس لهم أرباب كثيرون حتى يلحق كل بربه ويتفاضلوا بالأرباب، بل الله هو رب الجميع، وهم جميعا عباده المملوكون له المدبرون بأمره وقوله: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ يشير إلى أن الأعمال وإن اختلفت من حيث كونها حسنة أو سيئة ومن حيث الجزاء. ثوابا أو عقابا إلا أنها لا تتعدى عاملها. فلكل امرئ ما عمل. فلا ينتفع أحد بعمل آخر. ولا يتضرر بعمل غيره وقوله: ﴿لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾ أي لا خصومة بيننا وبينكم بتفاوت الدرجات.

 

لأن ربنا واحد. ونحن لأننا جميعا عباده ولكل نفس ما عملت، فلا حجة في البين. أي لا خصومة حتى نتخذ لها حجة(9).

 

هذا هو شرع النبي الأعظم الذي أذاع معسكر الانحراف على الغوغاء والرعاع على امتداد الزمان أنه بدأ بالسيف وكان القهر عنوانه، هذا هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي صد عن سبيله رموز الانحراف والشذوذ الذين توغلوا في عالم الطمس والقردية واستمع إليهم القردة والخنازير في كل مكان.

 

لقد جاء ليقول: "أمرت" ولم يرفع سيفا إلا بأمر وذلك بعد أن خرج عليه أصحاب المخالب والأنياب يريدون إطفاء نور الله. ولكن أبي الله إلا أن يتم نوره. لقد أعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبيله في مكة في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ / قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ /لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ / قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾(10).

 

قال المفسرون: أمره الله أن يخبرهم بأن ربه الذي يدعو إليه. هداه بهداية إلهية إلى صراط مستقيم وسبيل واضح قيم. لا تخلف فيه ولا اختلاف.

 

دينا قائما على مصالح الدنيا والآخرة أحسن القيام، لكونه مبنيا على الفطرة ملة إبراهيم حنيفا. مائلا عن التطرف بالشرك إلى اعتدال التوحيد وما كان من المشركين. وأمره تعالى أن يخبرهم بأنه عامل بما هداه الله إليه. كما أنه مأمور بذلك. ليكون أبعد من التهمة عندهم وأقرب إلى تلقيهم بالقبول. فإن من أمارة الصدق أن يعمل الإنسان بما يندب إليه ويطابق فعله قوله. فقال له سبحانه قل: إنني جعلت صلاتي ومطلق عبادتي ومحياي بجميع ما له من الشؤون الراجعة إلي من أعمال وأوصاف وأفعال وتروك. ومماتي بجميع ما يعود إلي من أموره وهي الجهات التي ترجع منه الحياة. جعلتها كلها لله رب العالمين. من غير أن أشرك به فيها أحدا. فأنا عبد في جميع شؤوني: في حياتي ومماتي لله وحده وجهت وجهي إليه. لا أقصد شيئا ولا أتركه إلا له. ولا أسير في مسير حياتي ولا أرد مماتي إلا له. فإنه رب العالمين. يملك لكل ويدبر أمرهم. وقد أمرت بهذا النحو من العبودية. وأنا أول المسلمين به فيما أراده من العبودية التامة في كل باب وجهة(11).

 

فهل في سبيل رسول الله إكراه كما أشاعت جماهير الطمس على طريق القهقري؟ ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ / وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾(12) ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾(13).

 

3- هدم انحراف بلادة الفكر والوجدان:

طالب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معسكر الانحراف بالنظر في الكون، ليعلموا أن النظام القائم في الكون يدل على توحيد الله تعالى. فالتدبير السائد على جميع أنحائه متواصل. وجميع أجزائه مسخرة لنظام واحد. تلى (عليه الصلاة والسلام) عليهم في مكة قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ / فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ / كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ / قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَََلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ / قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(14).

 

قال المفسرون: قل لهم يا محمد من يرزقكم من السماء بالأمطار والثلوج ونحوه. ومن الأرض بإنباتها نباتا وتربيتها الحيوان ومنها يرتزق الإنسان. وبركة هذه النعم الإلهية يبقى النوع الإنساني. أمن يملك السمع والأبصار منكم فتتم بهما فائدة رزقكم حيث ترزقون بتشخيصهما من طيبات الرزق.

 

فهو تعالى متصرفا في الحواس الإنسانية التي بها ينتظم للإنسان أنواع التمتع من الأرزاق المختلفة التي أذن الله تعالى أن يتمتع بها. فالإنسان إنما يشخص ويميز ما يريده. مما لا يريده بأعمال السمع والبصر واللمس والذوق والشم فيتحرك نحو ما يريده. ويتوقف أو يفر مما يكرهه بها.

 

فالحواس هي التي تتم بها فائدة الرزق الإلهي. وإنما خص الله السمع والبصر من بينها بالذكر لظهور آثارهما في الأعمال الحيوية أكثر من غيرها. والله تعالى هو الذي يملكهما ويتصرف فيهما بالإعطاء والمنع والزيادة والنقيصة. ولولا نعم الله هذه ما وفقتم وفنيتم عن آخركم. ﴿وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ من يخرج من الأمور غير المفيدة في باب. أمور مفيدة في ذلك الباب بالكينونة والتوالد.

 

كخلق الإنسان الحي والحيوان الحي والنبات الحي من التراب الميت وبالعكس. وكخروج الإنسان العاق الصالح من الإنسان الذي لا عقل له ولا صلاح وبالعكس وخروج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. ومن يدبر الأمر في جميع خلقه؟ ﴿فَسَيَقُولُونَ اللّهُ﴾ اعترافا بأنه الذي ينتهي إليه جميع هذه التدبيرات في الإنسان وغيره ولأن الوثنيين يعتقدون ذلك. أمر الله نبيه أن يوبخهم أولا على ترك تقوى الله بعبادة غيره مع ظهور الحجة. ثم يستنتج لهم من الحجة وجوب توحيده تعالى فقال: ﴿فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ ثم قال: ﴿فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾ وقد وصف الله بالحق ليكون توضيحا لمفاد الحجة وتوطئة وتمهيدا لقوله بعده: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾ لأنه إذا كانت ربوبيته تعالى حقه. فإن الهدى في اتباعه وعبادته. لأن الهدى مع الحق لا غير. وعلى هذا فلا يبقى عند غيره. الذي هو الباطل إلا الضلال. ثم تمم الآية بقوله: ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ أي إلى متى تصرفون عن الحق الذي معه الهدى إلى الضلال الذي مع الباطل.

 

وقوله بعد ذلك: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ الإشارة بقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ إلى ما تحصل من الآية السابقة. أن المشركين صرفوا عن الحق. وفسقوا عنه فوقعوا في الضلال. إذ ليس بعد الحق إلا الضلال. ومعنى قوله: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أن الكلمة الإلهية والقضاء الحتمي الذي قضى به في الفاسقين -وهو أنهم لا يؤمنون- هكذا حقت وثبتت في الخارج وأخذت مصداقها وهو أنهم صرفوا عن الحق فوقعوا في الضلال. أي إنا لم نقض عدم هدى الفاسقين وعدم إيمانهم ظلما ولا جزافا.

 

وإنما قضينا ذلك. لأنهم صرفوا عن الحق وفسقوا فوقعوا في الضلال ولا واسطة بينهما.

 

ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَََلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ لأن الذي بيده كل شئ ثم يعيده يستحق أن يعبده الناس. اتقاء من يوم لقائه. ليأمن من أليم عذابه. وينال عظيم ثوابه يوم القيامة. والله تعالى له ذلك ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ أي إلى متى تصرفون عن الحق ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ وتوضيح ذلك.. أن من المرتكز في الفطرة الإنسانية. وبه يحكم عقله. إن من الواجب على الإنسان أن يتبع الحق.

 

والهادي إلى الحق واجب اتباعه لما عنده من الحق. ومن الحق. ومن الواجب ترجيحه على من لا يهدي إليه. أو يهدي إلى غيره. لأن اتباع الهادي إلى الحق اتباع لنفس الحق الذي معه وجوب اتباعه ضروري. وقد اعتمد في الحجة على هذه المقدمة الضرورية.

 

فافتتح بسؤالهم عن شركائكم. هل فيهم شركاءهم. هل فيهم من يهدي إلى الحق؟ ومن الواضح أن لا جواب للمشركين في ذلك. لأن شركاءهم سواء أكانوا جمادا غير ذي حياة كالأوثان والأصنام. أم كانوا من الأحياء كالملائكة وأرباب الأنواع والجن والطواغيت من فرعون ونمرود وغيرهما. لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. وإذا لم يكن للمشركين جواب في ذلك. أمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب بإثباتها لله فقال: ﴿قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ فإن الله سبحانه هو الذي يهدي كل شئ إلى مقاصده التكوينية والأمور التي يحتاج إليها في بقائه كما في قوله: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(15) وقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى / وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾(16) وهو الذي يهدي الإنسان إلى سعادة الحياة ويدعوه إلى الجنة والمغفرة بإذنه. بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع. وأمرهم ببث الدعوة الحقة الدينية بين الناس.. وإذ تحقق أنه ليس من شركائهم من يهدي إلى الحق. وأن الله سبحانه يهدي إلى سألهم بقوله: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾ أن يقضوا في الترجيح بين أتباعه تعالى وأتباع شركائهم. وهو تعالى يهدي إلى الحق وهم لا يهدون ولا يهتدون إلا بغيرهم. ومن المعلوم أن الرجحان لمن يهدي على من لا يهدى أي لا تباعه تعالى على أتباعهم. والمشركون يحكمون بالعكس، ولذلك لامهم ووبخهم بقوله: ﴿فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(17).

 

إن هذا من مواجهات الإسلام مع أعدائه. فالدعوة الإسلامية تشق طريقها على أساس التوحيد الخالص. ومنذ أن بعث الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) والإسلام لا يرى غير الله من يملك أي شئ. فالله وحده له ملك السماوات والأرض وما بينهما. وهو سبحانه المدبر لجميع خلقه. وهو الغني بذاته وعلى الإطلاق وغيره فقير. وهو الواحد القهار الذي لا يماثله شئ في وجوده وهو العزيز الذي لا يغلبه شئ وغير ذليل. النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلى على أسماع بني الإنسان في مكة آيات الله التي تدعو إلى النظر في الكون كي تضاء منطقة الفكر والوجدان لديهم ويفروا من حياة الظلام ولا يتمسكوا بقيود الضلال لأن تمسكهم يدرجهم في القوم الفاسقين الذين حقت عليهم كلمة الله. فهل دعوة الإسلام لإيقاظ الفكر ونجاة بني الإنسان جريمة؟ إن جماهير الطمس والقهقري اعتبروها جريمة. وويل للظالمين من عذاب يوم عظيم. 

 

المصدر:

1- الانحرافات الكبرى

2- القرى الظالمة في القرآن الكريم.

 


1- سورة فاطر / 42.

2- سورة الأنعام / 155-157.

3- سورة البقرة / 89.

4- سورة الزمر / 11-13.

5- الميزان: 237 / 11.

6- سورة النمل / 90-92.

7- الميزان: 404 / 15.

8- سورة الشورى / 15.

9- الميزان: 34 / 18.

10- سورة الأنعام / 161-164.

11- الميزان: 394 / 7.

12- سورة الأنفال / 22-23.

13- سورة الفرقان / 44.

14- سورة يونس / 31-35.

15- سورة طه / 50.

16- سورة الأعلى / 2-3.

17- الميزان 57 / 10.