السلوك الظاهري للمنافق والمؤمن

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ / وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ / وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَاد ُ/ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾(1).

 

 

تتناول هذه الآيات الكريمة صورة تعبر عن نموذجين من النماذج البشرية والتي لا يخلو منها زمان أو مكان، فالنموذج المنافق المتلون الساعي لاستغلال حاجة الناس وطيبتهم وبساطتهم.

 

فيصور نفسه مثالا للطيبة والطهر والنقاء ليكسب ثقتهم، فيستسلمون لحلو الكلام الصادر عنه ولأساليبه الناعم ملمسها ومواثيقه المغلظة المؤكدة .. والله تعالى شاهد على ما يحويه قلب هذا الإنسان المنافق وزيفه، وبما أن سلوك النفاق منبعه باطني يرجع لنفس خبيثة ومريضة، فإن هذا المنافق سرعان ما يظهر مرضه على السطح الخارجي لسلوكه، وتلوّن الخبائث تصرفاته ليظهر على حقيقته عندما يصل إلى مبتغاه الذي سعى من أجله متلونًا بألوان النفاق، لذلك نجد أن القرآن الكريم يعطي صورة هذا الإنسان بحقيقتها عندما ينفذ إلى أعماقه الداخلية وتفاصيل حياته فيصوره بحقيقته بأنه إذا تولى الأمر وملك رقاب النّاس فإن عدالته التي كان يظهرها وصدقه الذي يعلنه وطيبته التي استغفل بها الناس واستغلهم تنقلب لأنها زائفة ويظهر صورته الحقيقية، فهو شديد الجدال والكره والعداوة للذين آمنوا وللحق الذي جاءه ولذلك جاء التعبير القرآني بلفظ (وهو ألدّ الخصام).

 

فالتجربة هي التي تكشف هذا الإنسان وتسفر عن مدّعاه، فهو يحمل كل المعاني الشريرة في نفسه ولكنه كان يسترها وراء حجاب وقناع من الصدق والموادعة حتى يصل إلى ما يريد من جاه وشهرة... وما أن يستقيم له الأمر ويحقق ما يريد حينها يبدأ في التحرك في الأجواء الحاقدة وتظهر عليه سلوكيات الطغيان والبغي والتي تكون نتيجتها إهلاك الحرث والنسل، حيث يثير في المجتمع المشاكل والخلافات والمنازعات ويتوسل بكل الوسائل.

 

ولأن في هذا السلوك فساد وإفساد؛ فالله تعالى يبغض هذا السلوك ويبشر صاحبه بالعذاب الأليم.

 

وفي المقابل تنقل الآيات الكريمة صورة أخرى تمثل النموذج الإيماني الكامل الذي تتحد فيه الصفات العظيمة، فيكون ظاهره وباطنه الإيمان والتسليم والتضحية في خدمة دين الله والسعي لتحصيل مرضاته تعالى، ذلك هو الإنسان الذي باع نفسه لله ووهبها إليه ليحصل على المغفرة والرضوان والدرجة الرفيعة.

 

هذا النموذج الذي يعيش الحب الإلهي والعشق الإلهي، فهو لا يرى للنفس حرية بعيدة عن طاعة الله وإرادته، لذلك تجده يعيش الإحساس العميق بالمسئولية تجاه الدين والأمة ويسخِّر كل طاقاته الروحية والفكرية والجسدية في سبيل الله وفي سبيل نصرة دينه الحق.

 

وهذا النموذج هو نموذج الرساليين الذين يعيشون حياتهم من أجل الرسالة والعدالة، ويسعون إلى إعلاء كلمة الله، ولتكون الحاكمية لله وحده لا إلى طغاة الأرض وفراعنتها، والله تعالى هو الذي يتقبل من هذه النماذج أعمالها ويستقبل نفوسها العظيمة المجاهدة والتي تواجه الجهاد والموت بكل اطمئنان وسعادة، لأن في ذلك إعلاءً لكلمة الله وخذلانً للشيطان وأعوانه.

 

ولعل المصداق الأعظم لهذه الآية ولهذا النموذج الكامل المجاهد هو المولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فهو الذي وهب حياته كلها لنصرة دين الله، وباع نفسه لله، وهو الذي فدى رسول الله (ص) بِروحِهِ عندما بات على فراشه حينما كان الرسول الأعظم (ص) يستعد للخروج من مكة، وهو يعلم علم اليقين أن فراعنة قريش قد سعوا إلى قتل الرسول ووأد الرسالة، وقد جهزوا عددا من فتيانهم للهجوم على دار الرسول (ص)، فلم تأخذه رهبة من ذلك ولا خوف مادام الأمر فيه سلامة للدين ونصرة للرسول الأمين (ص)، فبات على فراشه وهو يقول: أو تسلم أنت يا رسول الله. هذا هو التسليم والإيمان الذي ما بعده إيمان.

 

وشتان بين من بات على فراش النبي العظيم (ص) وهو يستعد لتلقي الموت نيابةً عنه ونصرةً للدِّين، وبين من نزل فيه (لا تحزن) وبين من قيل فيه: لا أشبع الله له بطنًا.

 

-------------

1- سورة البقرة / 204-207.