إنَّ ما يُبعث يوم القيامة هو عين البدن

المسألة:

عند رجوع الأرواح إلى الأبدان في يوم القيامة هل يعيدُها الله تعالى إلى عين البدن الذي كانت متعلّقة به في الحياة الدّنيا أم أنَّ الله تعالى يخلق لها بدنًا آخر مِثل هذا البدن كما في قوله تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾(1)؟ وما المقصود بكلمة: (مثل)؟.

 

الجواب:

ما يُبعث هو عين البدن:

نعم الذي يبعثُه اللهُ تعالى يوم القيامة هو عينُ البدن الذي كان في الدُّنيا، وقد نصَّ القرآنُ الكريم والرّواياتُ الواردة عن الرَّسول(ص) وأهل بيتِه (ﻉ) على ذلك.

 

فمِن الآيات الدَّالة على ذلك قوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ / بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾(2).

 

وقوله تعالى: ﴿.. قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾(3).

 

معنى قوله ﴿يَخْلُقَ مِثْلَهُم﴾:

وأمَّا قوله تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾(4)، فالمُراد من المثليّة في الآية المباركة ليس هو المُشابَهَة حتى يُقال أنَّ البدن الذي يُبعث يوم القيامة هو غيرُ البدن الذي كان في الدنيا غايته أنَّه يُشبهه ويماثلُه.

 

بل إنَّ المثليَّة في الآية المباركة مساوقٌ للعينيَّة، ومَنشأُ التَّعبير بالمثليَّة هو أنَّ البدن حينما بَلِيَ وتلاشى بعد الموت فإنَّ إعادته كما هُوَ يكون بمثابة الخَلق الجديد المصحِّح لإطلاق عُنوان المثليَّة عليه كما يشير لذلك قولُهُ تعالى في سورة السَّجدة ﴿أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾(5)، فإنَّ المُصحِّحَ لتوصيف البدن بعد بعثه بالجديد هو أنَّه بعد أنْ ضلَّ في الأرض أي تَفَرَّقَت أجزاؤُهُ وتلاشت عِظَامُهُ فإنَّ بعثه بعدئذٍ يكون بمثابة الخلق الجديد، أي المخلوق الجديد.

 

فالمصحِّح لاطلاق المِثليَّة والجديد على البدن بعد بعثه إنَّما هو باعتبار أنَّه مُنشّأٌ بإنشاءٍ ثانٍ، فالإنشاء الأوَّل والذي وقع في الدّنيا غير الإنشاء الثّاني الذي يقع في الآخرة وإنْ كانت المادَّة المُنشَّأَة في النَّشأتَين واحدة، فالإنسان في الدّنيا والآخرة كالكوز المصنوع من الفخّار فلو أنَّ أحدًا هشَّم الكوز ثُمَّ أعاد صياغته بعين المادَّة الفخّارية التي كان مكونًا منها فإنّه يصحّ أنْ يُقال أنَّ هذا الكوز بعد صياغته الثَّانية هو عين الكوز الأوَّل كما يصحُّ أن يُقال أنَّه مثلُه بلحاظ تعدّد الصّياغة، وإنْ كانت المادَّة متَّحدة.

 

وبما ذكرناه يتَّضح بأنّه لا منافاة بين الآية المذكورة وبين الآيات الأُخرى الصّريحة في أنَّ الذي يُبعثُ يوم القيامة هو عَين البدن الذي كان في الدّنيا كقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ﴾(6).

 

وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(7).

 

هذا وقد أفاد بعضُ المفسِّرين(8) أنَّ لفظ المِثل قد يُطلَق ويُراد مِنه عين الذّات والنّفس، وذلك يُعرف بالقرائن المحتفَّة بالكلام، فقول أحدِهم لآخر: "مثلك لا يفعل كذا" معناه أنت لا تفعله، وكذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ..﴾(9)، معناه ليس كذاته شيءٌ، وليس معناه أنَّه ليس لمُماثله مثيل إذْ ليس لله تعالى مماثل، على أنَّ الآية بصدد نفي المماثل لله تعالى فكيف يصحُّ أنْ تثبتَ له مماثلاً ثم تنفي أنْ يكون لمماثلِه مماثل.

 

فهذه إذن قرينةٌ قطعيةٌ على أنَّ المِثل في الآية أُطلق وأُرِيد مِنه الذَّات والنَّفس ولم يُقصد منها المعنى المقتضي للمغايرة.

 

وهُنا احتمالٌ آخرٌ لمعنى قوله تعالى: ﴿يَخْلُقَ مِثْلَهُم﴾ وهو أنَّ الضَّمير عائدٌ على السّماوات والأرض وعليه يكون معنى الآية المباركة أنَّ الذي هو قادر على أنْ يَخلُقُ السّماوات والأرض والتي هي أعظم خلقًا من الإنسان قادرٌ ببديهة العقل أن يخلق مثلها أي مثل السّماوات والأرض.

 

فتكون ما أفادته الآية برهانًا على قدرته على إعادة الإنسان بعد أنْ أصبح رُفاتًا، إذْ أنَّ القادر على خلق السماوات والأرض وخلقِ مثلها قادرٌ بالضّرورة على إعادة خلق الإنسان بعد أنْ أصبحَ عِظامًا ورفاتًا.

 

فلا وجه لا ستبعادهم وقولهم: ﴿أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ..﴾(10)، إذْ أنَّ بعثهم بعد خلقِهم الأوَّل أيسرُ عليهِ من خلق السّماوات والأرض ومثلهم.

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- سورة يس / 81.

2- سورة القيامة / 3-4.

3- سورة يس / 78-79.

4- سورة يس / 81.

5- سورة السجدة / 10.

6- سورة القيامة / 3.

7- سورة النور / 24.

8- تفسير مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج6 / ص297.

9- سورة الشورى / 11.

10- سورة السجدة / 10.