آيـة الوضـوء
قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾(1).
أ- مسح الرأس:
روى ثقة الاسلام أبو جعفر الكليني باسناده عن طريق علي بن ابراهيم إلى زرارة، سال ابا جعفر الباقر(ع) قال: الا تخبرني من اين علمت وقلت: ان المسح ببعض الرأس؟
فضحك الإمام (ع) ثم قال: يا زرارة، قال رسول اللّه (ع) ونزل به الكتاب ثم فصل الكلام فيه وقال: لان اللّه عز وجل يقول: ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ فعرفنا ان الوجه كله ينبغي ان يغسل، ثم قال: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ ثم فصل بين الكلامين فقال: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾ فعرفنا حين قال: ﴿بِرُؤُوسِكُمْ﴾ ان المسح ببعض الرأس، لمكان البا(2).
يعني انه غير الاسلوب وزاد حرف الربط (البا) بين الفعل ومتعلقه، مع عدم حاجة اليه في ظاهر الكلام، حيث كلا الفعلين (الغسل والمسح) متعديان بانفسهما، يقال: مسحه مسحا، كما يقال: غسله غسلا(3) فلا بد هناك من نكتة معنوية في هذه الزيادة غير اللازمة حسب الظاهر، إذ زيادة المباني تدل عل زيادة المعاني.
وقد اشار (ع) إلى هذا السر الخفي بافادة معنى التبعيض في المحل الممسوح، استنباطا من موضع البا هنا ذلك انه لو قال: (وامسحوا رؤوسكم)، لاقتضى الاستيعاب كما في غسل الوجه.
فقوله: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾ يستدعي التكليف بالمسح مرتبطا بالرأس، اي ان التكليف هو حصول ربط المسح بالرأس، الذي يتحقق بأول امرار اليد المبتلة بأول جزء من اجزاء الرأس إذ حين وضع اليد على مقدم الرأس -مثلا- وامرارها، يحصل ربط المسح بالرأس، وعنده يسقط التكليف، لان المكلف به قد حصل بذلك ولا تعدد في الامتثال، كما قرر في الاصول.
فكانت زيادة (البا) هي التي دلتنا على هذه الدقيقة في شريعة المسح، بعد ورود القول به من رسول اللّه (ع) فيا له من استنباط رائع مستند إلى دقائق الكلام.
هذا وغير خفي ان هذه الاستفادة الكلامية لا تعني استعمال البا في معنى التبعيض -كما وهمه البعض- بل ان بنية الكلام وتركيبه الخاص (بزيادة ما لا لزوم فيه ظاهرا) هو الذي افاد هذا المعنى، اي كفاية مسح بعض الراس فالتبعيض في الممسوح مستفاد من جملة الكلام لا من خصوص البا إذ ليس التبعيض من معاني الباالبتة، فلا موضع لما نازع بعضهم في كون البا تفيد التبعيض.
قال الشيخ محمد عبده: ونازع بعضهم في كون البا تفيد التبعيض، قيل: مطلقا، وقيل: استقلالا، وانما تفيده مع معنى الالصاق ولا يظهر معنى كونها زائدة.
قال: والتحقيق ان معنى البا الالصاق لا التبعيض أوالالة، وانما العبرة بما يفهمه العربي من: مسح بكذا أومسح كذا فهو يفهم من: مسح راس اليتيم أوعلى راسه، ومسح بعنق الفرس أوساقه أوبالركن أوالحجر، انه امر يده عليه، لا يتقيد ذلك بمجموع الكف الماسح ولا بكل اجزاء الراس أو العنق أو الساق أو الركن أو الحجر الممسوح فهذا ما يفهمه كل من له حظ من هذه اللغة، مما ذكر، ومن قوله تعالى: ﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾(4) -على القول الراجح المختار ان المسح باليد لا بالسيف- ومن مثل قول الشاعر:
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالاركان من هو ماسح
واخيرا ينتهي إلى القول بان ظاهر الاية الكريمة ان مسح بعض الرأس يكفي في الامتثال، وهو ما يسمى مسحافي اللغة، ولا يتحقق الا بحركة العضو الماسح ملصقا بالممسوح فلفظ الاية ليس من المجمل(5).
وهكذا استدل الإمام (ع) لعدم وجوب استيعاب الوجه واليدين في مسحات التيمم بدخول (البا) في قوله تعالى: ﴿فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ﴾(6) إذ لم يقل: امسحوا وجوهكم وايديكم، لئلا يفيدالاستيعاب فيهما.
ولم يحتمل محمد بن ادريس الشافعي في آية الوضؤ ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾ غير هذا المعنى، اي المسح لبعض الرأس قال: (وكان معقولا في الاية ان من مسح من راسه شيئا فقد مسح براسه، ولم تحتمل الاية الاهذا، وهو اظهر معانيها أومسح الراس كله قال: ودلت السنة على ان ليس على المر مسح راسه كله وإذا دلت السنة على ذلك، فمعنى الاية: ان من مسح شيئا من راسه اجزاه)(7).
وزاد -في الام- (إذا مسح الرجل باي راسه شا ان كان لا شعر عليه، وباي شعر راسه، باصبع واحدة أوبعض اصبع أوبطن كفه، أوامر من يمسح به اجزاه ذلك فكذلك ان مسح نزعتيه أواحداهما أوبعضهما اجزاه، لانه من راسه)(8).
وقد بين وجه المعقولية في الاية بقوله: (لانه معلوم ان هذه الادوات موضوعة لافادة المعاني، فمتى امكننااستعمالها على فوائد مضمنة بها وجب استعمالها على ذلك، وان كان قد يجوز وقوعها صلة للكلام وتكون ملغاة لكن متى امكننا استعمالها على وجه الفائدة، لم يجز لنا الغاؤها، ومن اجل ذلك قلنا: ان البا في (الاية) للتبعيض ويدل على ذلك انك إذا قلت: مسحت يدي بالحائط كان معقولا مسحها ببعضه دون جميعه، ولوقلت:مسحت الحائط كان المعقول مسحه جميعه دون بعضه، فقد وضح الفرق بين ادخال البا وبين اسقاطها، في العرف واللغة ثم ايد ذلك بما رواه عن ابراهيم(9) قال: إذا مسح ببعض الرأس اجزاه، قال: ولو كانت (امسحوا رؤوسكم) كان مسح الرأس كله قال: فاخبر ابراهيم ان (البا) للتبعيض، وقد كان عند اهل اللغة مقبول القول فيها(10).
قال الرازي: حجة الشافعي انه لوقال: مسحت المنديل، فهذا لا يصدق الا عند مسحه بالكلية، اما لو قال: مسحت يدي بالمنديل، فهذا يكفي في صدقه مسح اليدين بجز من اجزا ذلك المنديل(11).
وهذا الذي ذكره الشافعى، وان كان يتوافق -في ظاهره- مع نظرة الإمام الصادق (ع) ولعله ناظر اليه، لكنه يتخالف معه في مواضع:
احدها: زعمه ان (البا) استعملت -هنا- بمعنى التبعيض نظير (من) التبعيضية في حين انه لم تات (البا) في اللغة للتبعيض ولا شاهد عليه البتة واستناده إلى كلام ابراهيم النخعي غير وجيه، لانه لم يصرح بذلك، بل ان كلامه ككلام الإمام الصادق يهدف إلى -ان موضع (البا) هنا افاد اجزا مسح بعض الرأس- بالبيان الذي تقدم -وهذا يعني ان (البا)- في موضعها الخاص هنا تفيد التبعيض في مسح الرأس -وهذا غير كونها مستعملة- في معنى التبعيض، كما عرفت.
الثاني: ان التمثيل بالمنديل غير صحيح، لان المنديل مما يمسح به وليس ممسوحا، إذ لا يقال في العرف واللغة: مسحت المنديل فقولنا: مسحت يدي بالمنديل، يفيد كون اليد هي الممسوحة لا المنديل.
الثالث: ان الشافعي لم يشترط ان يكون المسح باليد، قال: فإذا رش الما على جز من راسه(12) ولعله اخذ بالملاك قياسا ولاندري كيف يكون الرش مسحا؟(13)، خروجا عن مدلول لفظ الشرع؟.
والحنفية قالوا بكفاية مسح ربع الرأس من اى الاطراف، ويشترط ان يكون بثلاث اصابع اما المالكية والحنابلة فقد أوجبوا مسح الرأس كله، واغفلوا موضع (البا)(14).
كما ان المذاهب الاربعة جميعا اغفلوا جانب (البا) في آية التيمم فأوجبوا مسح الوجه كله، وكذا مسح اليدين مع المرفقين(15).
يقول القرطبي وهو مالكي المذهب: واما الرأس فهو عبارة عن الجملة التي منهاالوجه، فلما عين اللّه الوجه للغسل بقي باقيه للمسح، ولولم يذكر الغسل للزم مسح جميعه، ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والانف والفم قال: وقد اشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه، فانه سئل عن الذي يترك بعض راسه في الوضؤ، فقال: ارايت ان ترك غسل بعض وجهه اكان يجزئه؟ قال: ووضح بهذا الذي ذكرناه ان الاذنين من الرأس، وان حكمهما حكم الرأس واما (البا) فجعلها مؤكدة زائدة ليست لافادة معنى في الكلام قال: والمعنى: وامسحوا رؤوسكم(16).
ب- مسح الرجلين
من المسائل المستعصية التي اشغلت فراغا كبيرا في التفسير والادب الرفيع، هي مسالة مسح الارجل في الوضؤ مستفادا من كتاب اللّه تعالى.
فقد زعم بعضهم ان القراة بالخفض تتوافق مع مذهب الشيعة الإمامية في وجوب المسح، والقراة بالنصب تتوافق مع سائر المذاهب ولكل من الفريقين دلائل وشواهد من السنة أوالادب ولغة العرب، يجدها الطالب في مظانها.
غير ان الوارد عن ائمة اهل البيت (ع) في تفسير الاية الكريمة هو التصريح بان القرآن نزل بالمسح على الارجل، وهكذا نزل به جبرائيل، وعمل به رسول اللّه (ع) وامير المؤمنين وأولاده الاطهار وهكذا خيار الصحابة وجل التابعين لهم باحسان.
فقد روى الشيخ باسناده الصحيح إلى سالم وغالب ابني هذيل عن أبي جعفر(ع) سالاه عن المسح على الرجلين؟ فقال: هو الذي نزل به جبرئيل (ع)(17).
يعني: ان الذي يبدومن ظاهر الكتاب هو وجوب مسح الرجلين، عطفا على الرؤوس ولايجوز كونه عطفا على الوجوه والايدي، لاستلزامه الفصل بالاجنبي وهو لا يجوز في مثل القرآن وهذا سوا قرئ بخفض الارجل ام بنصبها اما على قراة الخفض فظاهر، وقد قرا بها ابن كثير وابو عمرو وحمزة من السبعة، وشعبة احد رأويي عاصم لكن مقتضاها المسح لبعض الارجل كما في الرأس.
ام قرئ بالنصب عطفا على المحل، لان محل ﴿بِرُؤُوسِكُمْ﴾ نصب مفعولا به لامسحوا وهو فعل متعد يقتضي النصب وقد اقحمت (البا) اقحاما لحكمة افادة التبعيض حسبما عرفت.
وقد قرا النصب ايضا ثلاثة من السبعة: نافع وابن عامر والكسائي وحفص الرأوي الاخر لعاصم وهي القراة المسندة إلى أبي عبد الرحمان السلمي عن امير المؤمنين (ع) وقد مضى شرحها في فصل القراات من التمهيد(18).
غير ان القراة بالنصب تستدعي الاستيعاب، (19) لتعلق الفعل ﴿امْسَحُواْ﴾ بالممسوح بلا واسطة، وحيث حددت الارجل بالكعبين كالايدي بالمرفقين، كان ظاهره ارادة استيعاب ما بين الحدين (من رؤوس الاصابع إلى الكعبين)، الأمر الذي يؤكد صحة قراة النصب وهي القراة التي جرى عليها المسلمون، وهي المختارة حسب الضوابط التي قدمناها وعلى اى تقدير، سوا اقرئ بالخفض ام بالنصب، فهو عطف على الرؤوس، وليس عطفا على الايدي، فلا موجب لارادة الغسل في الارجل.
ومن ثم فظاهر الكتاب هو المسح كما نص عليه ائمة اهل البيت وعن مولانا امير المؤمنين (ع): ما نزل القرآن الا بالمسح(20) وعن ابن عباس: ان في كتاب اللّه المسح، ويابى الناس الا الغسل(21).
وهذا استنكار على العامة في مخالفتهم لظاهر القرآن المتوافق مع قواعد الفن في الادب والاصول.
قال الشيخ محمد عبده: والظاهر انه عطف على الرأس، اي وامسحوا بارجلكم إلى الكعبين.
قال: اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما، فالجماهير على ان الواجب هو الغسل، والشيعة الإمامية انه المسح وذكر الرازي عن القفال ان هذا قول ابن عباس وانس بن مالك وعكرمة والشعبي وابي جعفر محمد بن علي الباقر قال: وعمدة الجمهور في هذا الباب عمل الصدر الأول ومايؤيده من الاحاديث القولية وقد اسهب المقال ونقل عن الطبري اختياره الجمع بين الأمرين ثم اردفه بكلام الالوسي وتحامله على الشيعة بما يوجد مثله في كتب اهل السنة في كلام يطول وان شئت فراجع(22).
1- سورة المائدة / 6.
2- الكافي الشريف ج3 / ص30 / رقم 4 والاية من سورة المائدة.
3- قال ابن مالك: علامة الفعل المعدى ان تصل ها غير مصدر به نحوعمل.
4- سورة ص / 33.
5- تفسير المنار ج6 / ص226-227.
6- سورة المائدة / 6.
7- احكام القرآن للشافعي، جمع وترتيب ابي بكر البيهقي صاحب السنن ج1 / ص44.
8- الام -الشافعي- ج1 / ص41.
9- هو ابراهيم بن يزيد النخعي الكوفي الفقيه، كان مفتي اهل الكوفة، قال ابن حجر: كان رجلا صالحا فقيها متوقيا قليل التكلف، مات سنة (96) وهو مختف من الحجاج (تهذيب التهذيب ج1 / ص177).
10- احكام القرآن -ابي بكر الجصاص- ج2 / ص341.
11- التفسير الكبير ج11 / ص160.
12- راجع: الفقه على المذاهب الاربعة للجزيري، ج1 / ص60-61.
13- زعما بان المطلوب هو بل بعض الرأس بالما باى سبب كان حتى وان لم يصدق عليه المسح الشريعة.
14- راجع: الفقه على المذاهب، ج1، ص 56 و58 و61.
15- المصدر ص161.
16- تفسير القرطبي ج6 / ص87.
17- الاستبصار ج1 / ص64 / رقم 189/1.
18- التمهيد ج2 / ص159 و232.
19- اي الاستيعاب طولا من رؤوس الاصابع الى الكعبين فقد روى الكليني باسناده الصحيح الى احمد بن محمد بن ابي نصر البزنطي عن الامام ابي الحسن الرضا(ع) قال: سالته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه على الاصابع فمسحها الى الكعبين الى ظاهرالقدم فقلت: لوان رجلا قال باصبعين من اصابعه هكذا؟ قال: لا الا بكفه (الكافي الشريف ج3 / ص30 / رقم 6). اما ما ورد من الاجتزا بثلاثة اصابع (ان المسح على بعضها المصدر رقم 4) فهو ناظر الى جانب العرض.
20- راجع: الوسائل -الحر العاملي- ج1 / ص295 / رقم 1095 / 8.
21- المصدر رقم 7.
22- تفسير المنار ج6 / ص227 و235.