تفسير قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾:

قد دلت الآية على أن الحمد كله متمحض لله تعالى.وقبل بيان ذلك نشير إلى الفرق بين الحمد والمدح فنقول:

 

قالوا: إن المدح هو الثناء سواء أكان على شيء اختياري، أو غير اختياري، فقد تمدح الإنسان على إنقاذه الغريق، وقد تمدحه أيضاً على جماله، وعلى طوله، مع أن الجمال والطول هما خلقة الله، وليس للإنسان فيهما أي اختيار.

 

وتذم بعض المخلوقات على أفعالها السيئة وعلى شكلها الذي تراه قبيحاً أو غير متناسق، مع أن القبح ليس من اختيار الإنسان.أما الحمد، فهو -كما يقولون-: الثناء على الفعل الجميل الاختياري.

 

ونحن لا نوافق على قولهم هذا، ونقول: إن هذا الحمد الوارد في هذه السورة وغيرها قد يكون على فعل اختياري كفعل الخالقية، والرازقية، والمغفرة، الخ، وقد يكون ثناءً عليه تعالى بأنه حي قيوم منزه عن الشريك، وعن النقص، وعن الصاحبة والولد، مع أن عدم وجود شريك له تعالى ليس فعلاً اختيارياً له سبحانه، بل هو ليس من مقولة الفعل أصلاً.

 

وخلاصة الأمر: إن الأفعال المشيرة إلى صفات الفعل تصدر عنه تعالى باختياره.فالله قوي لأنه يصدر عنه باختياره ما يشير إلى القوة، وهو رحيم، خالق، رازق، حكيم، لأنه يصدر عنه باختياره فعل يشير إلى الرحمة والرازقية والحكمة الخ.فيستحق الحمد لأجل ذلك، كما يستحق الحمد لأجل أنه حي قيوم، لا شريك له، ولا نقص فيه.

 

اختصاص الحمد بالله سبحانه:

وعن سبب تخصيص الحمد كله بالله تعالى: إن "أل" للجنس أو للاستغراق وعلى كلا الحالتين تفيد الاستغراق والشمول للأفراد. والفرق بينهما إنما هو بالاعتبار، والإجمال والتفصيل. أي أن حقيقة الحمد إنما يستحقها الله سبحانه، أو أن الذي يستحق جميع أفراد ومراتب الحمد هو الله سبحانه. فعلى الأول: تكون للجنس وعلى الثاني: تكون للاستغراق.

 

والسر في ذلك هو أن البسملة قد جعلتنا نعترف بأن الله الذي له صفة الألوهية متصف بجميع صفات الجمال والجلال والكمال.فإذا أردنا أن نطلب من الله سبحانه أن يفيض علينا من خلال هذه الصفات: الرزق، والمغفرة، والشفاء، والخلق، والقوة، والصحة .. الخ، فمفتاح ذلك كله هو الرحمة الإلهية، فلا بد من الدخول من بابها فإنه تعالى ممتلئ رحمة، وكثيرة هي رحماته بمقتضى "رحمان".

 

ثم لأجل استمرار الاستفادة من فيوضات الرحمة التي هي من مقتضيات صفات الألوهية لا بد من ثبات هذه الرحمة ودوامها مفيضة ومنيلة، كما ألمحت إليه كلمة "الرحيم".

 

وبعد تقديم ذلك الاعتراف بأنه سبحانه قد أفاض علينا من كل ما تقتضيه تلك الصفات بجميع فروعها من جلالية وجمالية، أو فقل: من صفات فعل أو صفات ذات، يأتي الحمد والثناء بمثابة اعتراف بهذه الفيوضات، لأنها هي التي دفعتنا لهذا الثناء.

 

وإنما اعتبرنا أن المستحق لحقيقة الحمد، أو لكل مرتبة من مراتب الحمد وكل فرد من أفراده هو الله سبحانه، لأن كل ما يصل إلينا من خلال الإفاضة المباشرة مثل خلقنا.أو بالواسطة، كإحسان الوالدين لنا.ومثل ما نستفيده من الطبيعة كالأرض، والشجر، والشمس والنجوم.إن كل ذلك إنما ينتهي إلى الله سبحانه بالمباشرة أو بالواسطة. وهذا يفسر لنا إضافة "أل" الاستغراقية أو الحقيقية إلى كلمة "حمد"، فقال: "الحمد".

 

الحمد والرحمة بداية ونهاية:

والملفت للنظر هنا: أنه سبحانه تعالى قد أفهمنا أن "الرحمانية والرحيمية" كانت هي البداية كذلك كانت هي النهاية. حيث قال: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ / الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾(1).

 

أي أننا حين نجعل اسم الله ملابساً وليس -فقط- مصاحباً لكل شيء، فإننا ندخل ونصل إليه من باب الرحمانية والرحيمية، ونستمد منه كل خير.حتى إنه هو الذي يستحق الحمد الحقيقي، أو يستحقه بجميع مراتبه وأفراده.ونبقى مع هذه الرحمة حتى نصل إلى النهاية.أي أننا مع الرحمة منذ بدء خلقنا مروراً بالرازق، والمعافي، والشافي، والمربي، وو .. وانتهاءً بالتواب والغفور .. ثم تكون النهاية الرحمة أيضاً.فلا بد أن يكون الحمد أيضاً هو النهاية، كما كانت البداية هي الحمد.وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(2).

 

إذن، فالله سبحانه يريد أن يهيئ الإنسان لأن ينظر إلى كل حياته، وكل آفاقها في بداياتها وفي سيرها التكاملي، ثم في نهايتها، نظرة شمولية، مستوعبة، وواعية وعميقة، تربط الأمور بأسبابها، ثم بنتائجها.إنه سبحانه يريد لهذا الإنسان أن يفتح عينيه على حقيقة الحياة ويسجل اعترافه المباشر بتاريخ ارتباطه بالله سبحانه، وارتباط الكون كله به تعالى، وبرعايته سبحانه له من قبل أن يخلق، وإلى ما بعد أن يبعث ويحشر.

 

والاعتراف بهذا التاريخ، والانصياع له، والإيمان به يوصل إلى الحمد، إذ لا يمكن أن تكون حامداً كل الحمد إذا لم تعرف وتعترف بكل ما صدر منه وعنه تعالى تجاهك، وتجاه كل المخلوقات في هذا الكون الأرحب الذي بناه لتستفيد منه في تكاملك في إنسانيتك وفي مسيرتك نحو الله سبحانه.

 

وهكذا يتضح: كيف أن هذه الكلمة هي في الحقيقة المفتاح للمعارف الاعتقادية، وهي الأساس القوي للنظرة إلى الكون وإلى الحياة، نظرة عميقة وواعية، من خلال التوحيد الخالص والصافي.

 

فمن الواضح: أن أحداً لا يستطيع أن يحمد الله بصدق ووعي من دون أن يملك هذه النظرة: بل إن فهم الحياة والتعاطي معها لا بد أن يكون أساسه هذه النظرة بالذات، ومستنداً إلى فهم الحمد بهذه الطريقة.

 

فكلمة الحمد إذن كبيرة جداً بحجم هذا الكون، بل هي أكبر من الكون ومن الإنسان.إنها بحجم الفيوضات الإلهية على كل الموجودات والمخلوقات.ولا سيما الذي يعنيك منها، وتستفيد منه، وتتفاعل معه.إنها بحجم العقيدة التوحيدية، بل بحجم كل الصفات الإلهية الجلالية منها أو الجمالية.

 

إذن فليس من قبيل الصدفة أن تكون أول كلمة -بعد البسملة- في السبع المثاني، التي لا بد أن تقرأ مرات في الصلاة في كل يوم هي كلمة "الحمد"؛ إنه أراد لنا أن ندخل من باب الحمد، إلى كل الحقيقة المنبسطة على هذا الوجود.مدركين حجم الارتباط بالله، ونوع، وكيفية التعاطي معه سبحانه وتعالى.

 

له الحمد في الأولى والآخرة:

ومن أجل توضيح بعض ما ذكرناه آنفاً نعود، فنقول: قد تكلم الله سبحانه عن الحمد في عدة آيات قرآنية، منها قوله تعالى: ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ﴾(3) فما هو المقصود بالأولى، وما و المقصود بالآخرة؟ وهل هذا ينسجم مع ما ذكرناه من معنى الحمد؟ وارتباطه بآية البسملة؟.وكيف نربط أيضاً بين ذلك وبين قوله: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(4)؟ وهل صحيح ما يقولونه: من أن الحمد لا بد أن يكون على فعل اختياري؟

 

إننا في مقام الإجابة على هذه الأسئلة نقول: إن صفات الألوهية؛ تقتضي نفي كل نقص عن الذات، وعن الأفعال، والمدخل لنا إلى هذه الصفات هو الرحمة الإلهية. والحمد إنما يأتي كنتيجة للاستفادة من هذه الصفات.

 

- فنستفيد منها في الخلق: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ..﴾(5)(فاطر/1).

- وفي الهداية: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا﴾(6)(الأعراف/43).

- وفي التفضيل: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا﴾(7)(النمل/15).

- وفي العلم: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾(8)(الكهف/1).

- وفي النجاة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(9)(المؤمنون/28).

- وفي العافية: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾(10)(فاطر/34).

- وفي الملك: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾(11)(سبأ/1).

- بل وقبل كل شئ في التوحيد ونفي الشريك: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾(12)(الإسراء/111).

 

فالحمد في الآية الأخيرة ليس على أمر اختياري لأن عدم الشريك ليس فعلاً له تعالى.فتخصيص الحمد بالفعل الاختياري يصبح غير دقيق.

 

ومن جهة أخرى، فإن الحمد بعد كل هذا يصبح بمثابة الدليل القاطع على تحقق ذلك كله من موقع الفيض الإلهي، وهو أيضاً تتويج لكل مسيرة التكامل الإنساني الكادح إلى الله سبحانه.فالحمد هو البداية، التي تفتتح بالفيوضات الإلهية لأصل الخلق والوجود، وكل النعم في الحياة الأولى التي هي الدنيا.وتستمر هذه الألطاف والفيوضات إلى الآخرة أيضاً، التي هي الحياة الحقيقية.كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(13).

 

فيصل الإنسان إلى الله ويعرفه، من خلال إحساسه بنعمه وتفضلاته عليه وفيوضاته المتلاحقة والغامرة.فيبحث عنه، ويعرفه ليقف موقف العرفان، لأن معرفته تعالى عن طريق الإحساس بالنعمة، تكون أعمق وأدق وأكثر تأثيراً من معرفته عن طريق الاستدلال الفلسفي، العقلي، النظري، لأن هذه المعرفة حسية، ثم تترقى لتصبح وجدانية، ثم فطرية، يتفاعل معها بأعماقه، وبكل أحاسيسه ومشاعره وبفطرته.ثم هو يبادر إلى الثناء على هذا المنعم، وبعد ذلك يبادر إلى شكره، والوقوف في موقع الطاعة والانقياد.

 

وهذا هو معنى وجوب شكر المنعم الذي دل عليه القرآن: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾(14)، ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾(15).

 

وتستمر المسيرة في هذا الحمد إلى الحياة الأخرى لتكون: ﴿آخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(16) لما شهدوه ويشهدونه من تربية ورعاية إلهية مستمرة ومتلاحقة. وكل ذلك يفسر لنا أيضاً: السبب في كون كلمة الحمد هي أول كلمة بعد البسملة في سورة الحمد، والسبع المثاني.ويتضح من ثم أن الآية منسجمة تمام الانسجام، ولا مجال لأي توهم أو اعتراض.

 

لماذا لم يقل الحمد لرب العالمين:

وأما لماذا لم يقل: الحمد لرب العالمين.بل قال: الحمد لله رب العالمين.فلعله لأنه يريد منا أن نتعامل معه، وأن نرتبط به سبحانه بما هو مستجمع لصفات الجمال والجلال، صفات الفعل، وصفات الذات، ثم يُتبع ذلك بالتنصيص على صفة المربي لتكون هذه التربية هي المبرر لمبادرتنا إلى حمده بما له من صفات الألوهية الكاملة والمطلقة.

 

وذلك لأنه تعالى إنما تعامل مع هذا الوجود كله من موقع ألوهيته له ولكل المخلوقات.وقد جاءت صفات الفعل، مثل: المربي، والخالق، والرازق، والرؤوف، والرحيم، والقوي .. الخ، لتجسد هذا التعامل.

 

لماذا الحمد؟

ونحن إنما نحمده من موقع العرفان بالفضل، الذي يقتضي الشكر للمنعم، لأن الإنسان حين يريد أن يتعامل مع الله سبحانه لا بد أن يعرفه أولاً.وأعمق درجات المعرفة هي المعرفة الوجدانية.وأعمقها وأشدها تأثيراً هي تلك الناشئة من إحساس الإنسان بالنعمة التي تستلزم معرفة المنعم والمحسن، بدرجة من درجات المعرفة.

 

وهذا هو الشيء الذي يتعاطى معه الإنسان بوجدانية وواقعية أكثر وأعمق. حيث تتناغم المعرفة الحسية في مستواها الداني مع ما هو أرقى وأسمى منها وهي المعرفة الوجدانية والضميرية والفطرية، التي هي أبعد أثراً من المعرفة التصورية الفكرية، التي هي على حد المعادلات الرياضية، أو العقلية الفلسفية، أو حتى الأمور الغيبية الصرف.

 

إذ أن الغيب هذا إنما يدخل إليه الإنسان من خلال الحس الوجداني، من حيث ملامسته ومساسه بوجوده، وبحياته ومستقبله.

 

لغة القرآن في التربية العقائدية:

ولأجل هذه الحقيقة الآنفة الذكر نلاحظ: أن الله سبحانه في قرآنه الكريم لم يتكلم عن التوحيد، وعن الله، وعن الآخرة، وعن سائر الاعتقادات بمصطلحات فلسفية أو مقتبسة من علم المنطق أو غيره.وإنما دخل إلى الأمور الاعتقادية من باب لغة الحياة، حيث ربطها بصورة مباشرة بالشأن الحياتي العملي المتجسد والملموس.لتستقر هذه الاعتقادات في القلب من خلال الإحساس، والشعور المباشر والعميق.ولتتخذ موقعها القيادي والمحرك في هذا القلب.

 

فمثلاً، تحدث الله عن التوحيد وربطه بالليل، من موقع كونه سكناً لهم، ثم ربطه بالنهار، من موقع كونه مناسباً للابتغاء من فضل الله سبحانه ثم ربط كلا الأمرين بالرحمة الغامرة، التي تعمل على توفير الأجواء الحياتية الملائمة للسعي نحو التكامل باستمرار.

 

قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾(17). ﴿وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(18).

 

فالله سبحانه قد تحدث إذن عن التوحيد بما له مساس بواقع الإنسان الذي يعيشه ويحس به، ويتفاعل معه بمشاعره وأحاسيسه لا بطريقة تجريدية ونظرية أو بصورة طرح معادلات فكرية جافة.

 

وفي سورة الحمد يريد تعالى أن يطرح قضية التوحيد من موقع التعريف بصفاته تعالى، والإحساس المباشر بآثار تلك الصفات، ثم سوق هذا الإنسان للإحساس بمدى تأثيره تعالى في كل جهات الحياة، وفي جميع مفرداتها، وفي كل الموجودات في هذا الكون الرحيب، مع الحرص الأكيد على أن يخرجه عن أن يبقى مجرد أمر تصوري، تجريدي ونظري؛ ليصبح شأناً حياتياً حياً مؤثراً، يفهمه الإنسان، ويتلمسه بوجدانه، ويتحسسه بمشاعره، من خلال إحساسه بالنعمة الغامرة، وبالعطاء، وبآثار الرحمة، والعلم، والغفران، والحكمة الإلهية، وغير ذلك من صفاته تعالى.التي يتلمس الإنسان آثارها في كل آن على مدار اللحظات، فضلاً عن الساعات، في نفسه، وفي كل ما يحيط به، وفي كل الموجودات.

 

التسبيح بحمد الله تعالى:

وفي سياق آخر نقول: إننا نجد الله سبحانه يقول: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(19). ونحن مأمورون بأن نقول في صلواتنا في كل ركوع: سبحان ربي العظيم وبحمده، وفي كل سجود: سبحان ربي الأعلى وبحمده.وقد اعتبر الشارع هذه الصيغة: تسبيحة كبيرة. فإذا أردنا أن نتجاوزها، فلا يعوض عنها إلا ثلاث تسبيحات: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله.واعتبر كلمة سبحان الله تسبيحة صغيرة بالنسبة لتلك التسبيحة الكبيرة.

 

وهنا العديد من الأسئلة:

- ما معنى هذا التسبيح؟

- وما هو الرابط بين التسبيح والحمد؟

- ولماذا كانت تلك تسبيحة كبيرة، والأخرى صغيرة؟

- ولماذا لا يقوم إلا ثلاث تسبيحات صغار مقام تلك الكبيرة فلا يكفي تسبيحتان مثلاُ؟!

 

ونقول في الجواب:

التسبيح هو تنزيه الله تعالى عن كل شائبة: سواء أكانت من الأفعال الاختيارية: كتنزيهه عن البخل، وعن الظلم، وعن القسوة.أو كانت غير اختيارية كتنزيهه عن الضعف، والحاجة، والغفلة، والنسيان، وغير ذلك من أمور تعود إلى الذات. وكتنزيهه عن أمور خارجة عن ذاته سبحانه، مثل الشريك، والولد، والصاحبة، وما إلى ذلك.

 

وتقدم أن الرحمة هي المدخل إلى الاستفادة من الفيوضات التي تقتضيها كل صفات الذات الإلهية، ليسعد هذا الإنسان بإنسانيته، وسيره التكاملي نحو الله تعالى.وبسبب شمولية هذه الفيوضات واستيعابها لكل الحياة وللكون بأسره، فقد استحق الله دون غيره حقيقة الحمد (إن كانت أل هي الجنسية) أو جميع أفراد الحمد، إن كانت أل للاستغراق.

 

وسوف نرى: أنه تعالى إذا كان يحمد من حيث ربوبيته الملازمة للرعاية والتربية، فمعنى ذلك هو شمولية الحمد واستغراقه، وذلك لأن شمولية آثار الصفات سوف تتسع لتستوعب كل ما له تأثير في هذه الرعاية؛ فالحكمة، والعطف، والعلم الدقيق بخصائص الكون والإنسان، وبما يصلح وبما يفسد، والرحمة، والغنى، والكرم، والقدرة، والقيومية الدائمة، ووالخ .. كل ذلك دخيل في هذه الرعاية والتربية، ومؤثر فيها.

 

فالفيض الإلهي لكل ما تقتضيه التربية لهذا الإنسان، والشعور بهذا الفيض يستدعي الحمد، والثناء.ثم الشكر، لهذا المنعم، والتزام كل ما يرضيه.

 

ومن الواضح: أننا حين نريد تنزيهه تعالى: نقول: سبحان الله.أي أنزه الله وأبعده عن كل شائبة، فقد يقال: هذا مجرد كلام ليس له ما يثبته.

 

فإذا سبحت الله بواسطة الحمد، ونسبت التسبيح لك شخصياً، وقررت أن هذا التسبيح والتنزيه إنما هو لله بعنوان كونه رباً أي راعياً ومربياً، فإن الأمر يصبح مختلفاً تماماً عن قولك: سبحان الله فقط، ويكون هذا هو الإثبات المطلوب.

 

وذلك لأن الحمد يكشف عن: أن الله سبحانه قد اتصف بصفة حسن ثابتة فيه استحق الحمد لأجلها، ككونه ليس له شريك، ولا ولد ولا صاحبة، ولا مكان، لا ينسى، ولا يسهو، ولأنه عالم حي قيوم قادر غني، الخ .. كما انه يعني أنه تعالى قد صدرت عنه أفعال اختيارية استحق لأجلها الثناء والحمد، هي كل ما في هذا الكون من نعم نستفيد منها مباشرة أو بالواسطة كالخلق، والرزق، والرحمة والرأفة، والشفاء، والقيومية، الخ .. فانتزعنا من هذه الأفعال الاختيارية صفات جمال وأضفناها إلى ذاته المقدسة: كالخالق والشافي والعالم، والقادر الخ .. فالحمد إذن ينتهي إليه. قال تعالى: ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(20).

 

فإذا سبحت الله بالحمد فإنك لم تنف النقص بالقول وحسب، بل جئت بما يدل على انتفاء ذلك النقص عملياً.لأن حمدك هذا يدل على صدور فعل اختياري عنه تعالى قد تجسد في الخارج، بل إن ذلك يدل على أزيد من نفي النقص، وأزيد من الكمال.

 

توضيح ذلك: أنه قد يكون شخص مستجمعاً لكل الصفات البشرية كالعينين والأذنين واليدين والرجلين والعقل .. الخ،  فهو إذن كامل لا نقص فيه.وقد يكون شخص فيه مما يزيد على هذا الكمال، ككونه جميل الصورة، أو أنه عالم.أو قوي، أو كريم، أو نحو ذلك.

 

والأمر بالنسبة للذات الإلهية من هذا القبيل، فإن نفي النقص يستبطن إثبات الكمال، وهذا مرتبة أولى،ثم يكون إثبات صفات زائدة على الكمال مرتبة ثانية، فإذا حمدته تعالى فإنك تكون أثبت له الكمال بنزاهته عن النقص بالدليل وتكون أيضاً قد أثبت صفة إضافية بالدليل أيضاُ.من حيث أن حمدك يستبطن تأثير تلك الصفة وتجسد أثرها على صفحة الواقع. فإذا أثبت الربوبية فقد جئت بدليل آخر يفيد انبساط تلك الآثار على كل وجود، وكل ما في هذا الكون الفسيح. مما يعني تنوع تلك الصفات التي أثرت هذه الآثار المتنوعة والمستوعبة لكل جهات وجودك.

 

ثم نسبت المربوبية إلى نفسك كفرد، لتؤكد على أن هذا التن-زيه والحمد هو منك على الحقيقة، لأن التربية كانت تتوخّى شخصك مباشرة، وليست أمراً بعيداً عنك قد استهدف الحياة في مجالها العام.

 

وخلاصة الأمر: إن التسبيح بالحمد يكون تنزيهاً مستدلاً عليه بالدليل الحسي، لأن الحمد يدل التزاماً على أن صفات الله سبحانه قد تجسدت بآثارها، وأصبحت واقعاً حياً، وفعلاً اختيارياً يستحق الحمد والثناء.فالدليل على نزاهة الله من النقص هو هذا الكمال المتجسد، وهو الرازقية والخالقية،والشفاء والعطاء والرأفة الفعلية.

 

فلم يعد الكمال مجرد دعوى، وإنشاء كلامي. وقد تكرر التسبيح بالحمد في كثير من الآيات: مثل قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(21)، وذلك كله يفسر لنا سرّ ترديدنا في صلاتنا: سبحان ربي العظيم وبحمده.

 

لماذا تسبيحة كبيرة:

أما لماذا كانت هذه تسبيحة كبيرة تعادلها ثلاث تسبيحات صغار هي: سبحان الله -ثلاثاً- فلعله لأجل: أن التسبيحة الكبيرة تضمنت ثلاثة تنزيهات لله تعالى:

 

1- التنزيه الأول: هو ما تضمنته كلمة "سبحان" من إنشاء للتن-زيه وتفوهٍ به.

 

2- التنزيه الثاني: أنها نسبت التنزيه لكلمة "رب" التي تلمح إلى دليل ذلك التنزيه وهو التربية والرعاية الإلهية، التي تحتاج في تحققها إلى العديد من الفيوضات والعنايات المستندة إلى صفات إلهية جمالية وجلالية متنوعة وكثيرة، كالعلم، والحكمة، والرحمة، والقوة والغنى، والحياة، والقيومية وغير ذلك. وهذا التنزيه أشد من التنزيه بمجرد نفي النقص، لأن إثبات تلك الصفات معناه إثبات شيء زائد على الكمال أيضاً. ثم نسبت هذه التربية إلى نفسك "ربي" لتؤكد على أن شخصك هو المعني بهذا التنزيه، لأنه كان المعني مباشرة بالتربية. ثم جاء وصف الله بالعظيم ليؤكد على ثبوت تلك الصفات له تعالى بصورة أتم وأعلى، أوجبت وصفه بالعظمة.

 

3- التنزيه الثالث: قوله: وبحمده. أي وأسبح بواسطة الحمد.حيث إنها تماماً مثل كلمة "رب" قد أظهرت: أنه تعالى قد فعل تجاهك باختياره ما هو جميل وحسن، صادر عن صفة جمال أو كمال ثابتة فيه تعالى. مما دعاك إلى إنشاء هذا الحمد والثناء.فإثبات صفة الكمال أيضاً بالحمد قد نزه الله عن النقص، وأثبت أمراً زائداً على الكمال وهو ما يوجب جمالاً أيضاً.

 

فهذه التنزيهات الثلاثة تصبح أقوى في الدلالة على التنزيه من كلمة سبحان الله، مجردة، فكانت تلك تسبيحة كبيرة، تعادل ثلاثة تسبيحات صغيرة، بل وتزيد عليها.لأنها دعوى للشيء مع دليله، وتثبت ما هو فوق التنزيه عن الشريك وعن النقص وغير ذلك، ولا سيما بملاحظة ما توحي به كلمة "العظيم".

 

شمولية كلمة: ﴿رَبِّ﴾:

وأخيراً، فإن ﴿رَبِّ﴾: كلمة تستبطن جميع أسماء الفعل للذات الإلهية المقدسة، لأن ربوبيته تعالى من موقع تدبيره. وهو يقتضي أن يكون حكيماً، عليماً، قادراً، خالقاً، شافياً، الخ.

 

﴿الْعَالَمِينَ﴾:

العالمون: جمع لا واحد له من لفظه وليس جمع عالم، كما زعم بعضهم. بدليل: أنهم قالوا: إن جمع المذكر السالم هو ما كان جمعاً لمذكر عاقل.والعالم ليس مذكراً ولا عاقلاً، فليس العالمون جمعاً له، وإن كان قد جاء على صورة الجمع فألحقوه به في الإعراب إلحاقاً.قال ابن مالك في ألفيته، عن جمع المذكر السالم وإلحاق بعض الألفاظ به:

 

وارفع بواوٍ وبيا اجرر وانصبسالم جمع عامر ومذنب

وشبه ذين وبه عشرونا  وبابه الحق والأهلونا

أولوا وعالمون عليونا  وأرضون شذ والسنونا

 

أضف إلى ما تقدم: أن كلمة "عالم" يراد بها كل هذا الوجود بما فيه، فإذا أردت أن تجمعها، فلا بد من تقسيمها إلى أشياء صغيرة، كعالم النبات وعالم الجماد، وعالم الحيوانات وعالم .. ثم تجمع هذه الأشياء، ومع ذلك فإن الجمع لن يتجاوز مفرده في شموليته، لأن المفرد يشمل كل شيء في الوجود، والجمع -والحالة هذه- قد لا يشمل كل شيء.فيكون الجمع أخص من المفرد أحياناً، أو مساوياً له على أبعد تقدير، وكلاهما لا يصح.

 

ما المقصود بـ ﴿الْعَالَمِينَ﴾:

وهنا سؤال؛ وهو: هل المقصود بالعالمين هو كل الموجودات والمخلوقات؟ أم المقصود نوع خاص منها؟

 

وهل تشمل الجن والملائكة.بل وحتى سائر الموجودات الأخرى، على فرض أن لها درجة من الشعور والإدراك؟ أم لا تشمل شيئاً من ذلك؟

 

ونقول: هنا جوابان، الأول منهما يصلح مقدمة للجواب الثاني، وهما:

 

أولاً: التربية للعالمين: إن المقصود بالعالمين معنى يتناسب مع أمر التربية، والانتقال من حالة النقص إلى حالة الكمال، إذ لا يمكن تربية ما يفقد القابلية للتحول والرقي والانتقال.وقد دلت الآيات على أن الجمادات، بل جميع الموجودات أيضاً، لها درجة من الشعور، والإدراك، بحيث تستطيع تسبيح الله؛ قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(22). وقال: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(23). ولم يقل: يسبح من. فإن "ما" تستعمل لغير العاقل.وكلمة "من" للعاقل.

 

وقال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾(24). وثمة آيات عن سجود الموجودات.وهي كثيرة. وثمة آيات تحدثت عن دور عاقل للنملة، وللهدهد، وتجلي الله للجبل، فجعله دكاً.وخشوع الجبل وتصدعه من خشية الله وغير ذلك.

 

وقد نلمح في القرآن أن جميع الكائنات قابلة للتربية وللتكامل، حيث أشار القرآن الكريم في آيات كثيرة إلى ربوبية ورعاية الله تعالى للجمادات أيضاً. قال تعالى: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ﴾(25) ، و﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾(26)، و﴿وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾(27).

 

وغير ذلك من آيات كثيرة قررت هذه الربوبية. إلا أن يقال: إن ربوبية كل شيء وتكامله إنما هو بحسبه، ومن خلال ما يملك من معطيات. أو يقال: المراد بالرب هنا الإله. ونقول: إن هذا الاحتمال الأخير يحتاج إلى ما يثبته. ونشير هنا إلى أمرين:

 

الأول: سجود المخلوقات وتسبيحها ليس تكوينياً. وقد حاول البعض أن يقول: إن هذا التسبيح إنما هو من حيث أن وجودها وعجيب خلقتها فيه تنزيه لله سبحانه عن كل نقص، وعن الشريك وغير ذلك، فهي تسبحه تعالى بلسان التكوين.وتسجد له بمعنى تخضع له تكويناً أيضاً .. وعرض الأمانة إنما هو تصوير رمزي لعدم قدرة هذه الموجودات تكويناً أيضاً.

 

ونقول: إن هذا التوجيه غير صحيح، فإن قوله تعالى: ﴿وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾(28)، يدفعه وينافيه، إذ أن هذا التفسير معناه: أننا نفقه تسبيحهم؟

 

وكون السجود بمعنى الخضوع التكويني فقط، ينافيه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء﴾(29).

 

فقوله: "وكثير من الناس" دليل على أن المراد بالسجود ليس هو الخضوع والانقياد التكويني.فإن الناس جميعهم يخضعون تكويناً له تعالى. وآية الأمانة أيضاً لا يصح تفسيرها بما ذكر، لأنه تعالى يقول: "وأشفقن منها" والإشفاق، إنما هو انفعال نفساني خاص، وليس خضوعاً تكوينياً.

 

إذن فنحن أمام حقيقة قرآنية هي: أن جميع المخلوقات لها درجة من الشعور والإدراك، بحيث تسبح الله، وتسجد له، وتشفق من بعض الأمور، وتقبل وترد بالاختيار والإرادة. ولكن كيف يتم ذلك !! هذا ما لا نعلمه، وقد لا يتسنى لنا العلم به وبحقيقته وكنهه، ومستوياته.

 

الثاني: تكامل الإدراك والشعور ومستواه: ويبقى أمامنا سؤالان:

الأول: عن مستوى ودرجة شعور وإدراك الموجودات، من الجماد والنبات، وغيرهما. والثاني: هل هذا الإدراك والشعور فيه قابلية النمو والتحول.أم أنه مقفل ومحدود في هذه الناحية؟

 

والجواب على كلا السؤالين هو: أننا لا نملك الكثير من المعطيات التي تجعلنا قادرين على إعطاء إجابة قاطعة في هذا المجال.بل إن أكثر ما نعرفه في هذا المجال، هو نفس ما حدثنا عنه القرآن الكريم، ونبي الإسلام العظيم. ولأجل ذلك فنحن لا نتشجع كثيراً للبحث في هذا الأمر، لأننا غير قادرين على إغنائه بالشواهد والدلائل التي نتجاوز من خلالها حدود المعارف التي رآنا الله أهلاً لأن يخاطبنا بها في آياته الكريمة، وعلى لسان نبيه العظيم. ولم يذكر لنا أكثر من كونها لها درجة من الشعور، وأنه تعالى رب لكل شيء. أما كيف؟ وإلى أي مستوى؟ وأي حد؟ فذلك ما لم يفصح لنا عنه القرآن الكريم.

 

ثانياً: العالمون خاص بالبشر:

إننا إذا تتبعنا الآيات القرآنية نجد: أن كلمة العالمين تستعمل غالباً في خصوص البشر العقلاء، كقوله تعالى:

 

- ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾(30).

- ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(31).

- ﴿صُدُورِ الْعَالَمِينَ﴾(32).

- ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(33).

- ﴿وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ﴾(34).

﴿ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾(35).

- ﴿أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾(36).

- ﴿آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(37).

- ﴿مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ﴾(38).

- ﴿لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾(39).

 

وموارد كثيرة أخرى ظاهرة في ان المقصود بالعالمين هم البشر، لقرائن فيها، مثل كونها مجتمعات فيها نساء، أو ظلم، أو تعذيب، أو ذكر، أو نحو ذلك.

 

استدلال لا يصح:

أما قوله تعالى؛ حكاية لقول فرعون وموسى (عليه السلام): ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ / قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ / قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ﴾(40). وكذا قوله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(41). فقد تخيّل بعضهم: أن المقصود بالعالمين في هذه الآية هو ما يشمل السماء والأرض، فتكون لغير العاقل.ولعله لأنه رأى أنها بدل مما قبلها.وقد أكد هذا الأمر فرعون باستعماله كلمة "ما" التي تستعمل بالأصل في غير العاقل.

 

ونقول: إنه تخيّل باطل، فأما بالنسبة لكلام فرعون، فهو يريد أن يوهّن ويحقّر مقام الربوبية الذي يتحدّث عنه موسى، ويُظهر للناس أنه رب غير عاقل، ولا يصلح لأجل ذلك للربوبية، ليثبت للناس: أنه هو ربهم الأعلى.

 

وأما كون كلمة: "رب العالمين" بدلاً مما قبلها، فذلك لا يضر، ما دام انه يمكن أن يكون موسى (عليه السلام) قد أراد التعبير عن هذا الرب بذكر ميزات عديدة له ليدفع أي لبس أو اشتباه، فذكر ربوبيته للسماء والأرض، وللعقلاء أيضاً -وهم العالمون- فليست الآية بصدد إجمال ما تقدم بجميع خصوصياته.

 

ربي أم رب العالمين:

وأما لماذا لم يقل: الحمد لله ربي، أو ربنا.بل قال: رب العالمين، فلأنه تعالى يريد منا: أن نحيا حياة اجتماعية ويعين بعضنا في مسيرتنا نحو الكمال، إذ لا يكفي التكامل الفردي والشخصي، فيكون الناس أفراداً، يحيون حياتهم الخاصة منفصلين تمام الانفصال بعضهم عن بعض.

 

فالله يتعامل معنا من موقع المربي للعالمين جميعاً، وعلينا أن نتعامل معه من موقع الاستجابة لهذه التربية وبمرونة اجتماعية عامة وإن كانت محدودة وفق ما يتوافر من إمكانات وطاقات، لا من موقع فرديتنا، ولأجل ذلك نجده تعالى يركز على هذه الناحية، فهو ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾(42) وهو ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(43) و﴿هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾(44).

 

الكون المتوازن:

ونحن إذا دققنا النظر في هذا الكون الفسيح، فإننا لا نجد سوى التوازن الدقيق والانسجام والتناسق الظاهر في كل مزاياه وزواياه، والكل يسير باتجاه الهدف المحدد -كل ميسر لما خلق له- ولا يتخلف عن هذا الأمر إلا هذا الإنسان الذي يتعامل الكثيرون من أفراده بخصوصيتهم الفردية والشخصية، ومن منطلق الأنا.

 

ولنضرب مثالاً توضيحياً لما نريد تقريره هنا: لنفترض شجرة تنمو وسط مجموعة من مثيلاتها في حديقة أو بستان.

 

فلهذه الشجرة -من جهة- خصوصيتها الفردية، وإيحاؤها الشخصي كشجرة.فيمكن أن نفترضها والحالة هذه تنمو بصورة عشوائية تضرب بجذورها وفروعها في كل اتجاه باحثة عن كمالاتها الفردية هنا وهناك.بحيث قد تصل في امتداداتها وتشعباتها إلى حدود ومستويات تحجب معها عن مثيلاتها التي بالقرب منها نور الشمس، والغذاء والماء، وتنشر الضعف والشلل في ما يحيط بها، وتزرع وتثير الفوضى،والتشويه الجمالي، والعشوائية في الإيحاء العام للبستان كله.

 

ولها خصوصية من حيث كونها جزءاً من التركيبة الجمالية، والإيحاء العام للحديقة أو البستان.وهذه الناحية تفرض درجة من التهذيب والتشذيب، وصياغة غصونها وسائر عناصر شخصيتها بطريقة لها إيحاءاتها الجمالية التي تتناغم مع إيحاءات مثيلاتها، التي تشاركها في صياغة حالة جمالية جديدة وعامة.وحينئذ لا بد أن نطلب من البستاني أن يتدخل ليتدارك أي خلل قد يطرأ على الناحية الجمالية العامة، فيبدأ عملية التشذيب بل والاستئصال أحياناً لشجرة تمثل حالة فردية شاذة لا تنسجم مع المحيط العام. وتؤدي إلى اختلال التوازن، والفوضى، والتشويش في ملامح الصورة البستانية، وأهدافها ومعطياتها.

 

ونتيجة لذلك التشذيب والتهذيب، تعود للحديقة جماليتها، وللبستان رونقه، وتسهم تلك الشجرة -إذا استطاعت المشاركة- في صنع ملامح تلك الصورة.وتسهم في الإيحاء المطلوب في مسيرة تكاملية، ومشاركة جماعية في صنع وضع جماعي سليم، وطبيعي وقويم.

 

وكذلك الحال بالنسبة للحياة الإنسانية أيضاً.وقد جاءت هذه الآية الشريفة: "رب العالمين" لتوحي بذلك كله في عملية توجيه عفوي لهذا الإنسان نحو المشاركة في صنع هذا الواقع الاجتماعي للإنسان في حياته العامة.وهي بمثابة دعوة له لصنع التوازن والانسجام في محيطه العام خلال مسيرته الإنسانية التكاملية؛ فيصوغ حياته وإنسانيته وخصائصه بطريقة تحتفظ معها بفرديتها، ولكنها تنسجم وتتوازن وتتكامل مع كل ما يحيط بها، ولا تصطدم معه، بل تشكل هي وإياه رافداً للخير والعطاء، والسمو والتكامل والنمو.

 

وقد تفرض هذه المشاركة الإيجابية الواعية والمسؤولة قدراً من التضحية من بعض الناس، فيتخلون عن خصائص وامتيازات شخصية وفردية لهم غالية وحبيبة، تكون هي الثمن لما تنعم به المجتمعات من سعادة ورخاء، ووئام وصفاء.

 

الألوهية والربوبية معاً:

وحين يستقر في وعي الإنسان: أن ثمة خالقاً مدبراً لهذا الكون فإنه يدرك: أن هذا الخالق قوي، وغني وعظيم، وقهار وما إلى ذلك من صفات ألوهية، تعني مزيداً من الإحساس بالبون الشاسع، فيما بين هذا الإنسان الضعيف، العاجز، المحتاج .. الخ، وبين ذلك الإله الخالق العظيم، وقد يتحول هذا الإحساس بالبون -بصورة لا شعورية- إلى إحساس بالبعد عنه، وبانقطاع العلاقات والروابط معه أياً كانت.

 

ولأجل ذلك نلمح مزيداً من الإصرار في الآيات القرآنية على تجسيد العلاقة بين الله وبين العباد، كواقع حي، يتلمسه هذا الإنسان بأحاسيسه الظاهرة قبل الباطنة.في كل حين، وفي كل مجال.

 

كما أن ثمة تركيزاً واضحاً على تكوين شعور قوي وعميق بربوبيته سبحانه لهذا الإنسان، ورفقه به، ورعايته له من موقع المحبة، والرعاية والتدبير لكل شؤونه على أساس الحكمة والإشراف والهيمنة.

 

فالله أوجدك، ولا يزال يرعاك، ويهتم بك، ويدبر شؤونك، وأنت لا تزال بحاجة إليه، وتتعامل معه من موقع حاجتك وغناه، وضعفك وقوته، فهو يعينك شخصياً في كل آن، وفي كل مكان.إنه هو الذي يحميك، وهو الذي يحضنك، ويرشدك، ويهديك، وهو الذي يرزقك، ويشفيك وهو الذي يرعاك ويربيك.

 

ومن باب ربوبيته لك تنفتح على كثير من صفات الجمال فيه، فهو الراحم والعطوف، والحكيم، والحنان، والمنان.وهذا كله سيجعلك تتعامل معه بروح الود والمحبة، والحميمية والصفاء، والامتنان والوفاء.

 

نتائج ثلاثة:

ونستنتج من ذلك الأمور التالية:

1- إن التعامل الصحيح مع الله ليس على أنه موجد وحسب، بل على أساس أنه موجد، ومرب، لا يزال يرعى، ويحفظ، ولسوف نبقى بحاجة إلي ذلك.

 

2- إن إحساسنا بالحاجة إليه وإلى رعايته وتربيته لنا يتطلب منا أن نؤهل أنفسنا لهذه التربية، ونستعد لها، ونتجاوب معها.فلا نشعر بالامتلاء والشبع، وعدم الحاجة إلى المزيد من الكمال والسمو.لأن شعوراً كهذا معناه منع تلك الرعاية، والهداية الإلهية من التأثير، وبالتالي الإحتجاب عن الفيوضات الإلهية الضرورية لذلك.

 

3- بما إن الإنسان يحب نفسه، ويحب الكمال لها، فهو يحب الجهة التي تساعدها وترعاها، وتسعى لرفع نقائصها لتنال ذلك الكمال المنشود. فإذا عرف وشعر -عملياً- أن الله سبحانه هو الذي يتولى ذلك من موقع المعرفة، والحكمة، والرحيمية، والقدرة، فلسوف يتجه إليه سبحانه، ويرتبط به، على أساس الاعتراف بالنقص، وبالحاجة، والعرفان بالفضل، ثم هو يتعامل معه من خلال صفات الألوهية والربوبية التي يجد فيها ما يغنيه.

 

----------------

1- سورة الفاتحة / 2-3.

2- سورة يونس / 10.

3- سورة القصص / 70.

4- سورة يونس / 10.

5- سورة فاطر / 1.

6- سورة الأعراف / 43.

7- سورة النمل / 15.

8- سورة الكهف / 1.

9- سورة المؤمنون / 28.

10- سورة فاطر / 34.

11- سورة سبأ / 1.

12- سورة الإسراء / 111.

13- سورة العنكبوت / 64.

14- سورة لقمان / 14.

15- سورة سبأ / 13.

16- سورة يونس / 10.

17- سورة القصص / 71.

18- سورة القصص / 73.

19- سورة النصر / 3.

20- سورة القصص / 70.

21- سورة النصر / 3.

22- سورة الإسراء / 44.

23- سورة التغابن / 1.

24- سورة الأحزاب / 72.

25- سورة الصافات / 5.

26- سورة المزمل / 9.

27- سورة المؤمنون / 86.

28- سورة الإسراء / 44.

29- سورة الحج / 18.

30- سورة آل عمران / 42.

31- سورة البقرة / 47.

32- سورة العنكبوت / 10.

33- سورة آل عمران / 33.

34- سورة آل عمران / 108.

35- سورة الأنعام / 90.

36- سورة الحجر / 70.

37- سورة الأنبياء / 91.

38- سورة المائدة / 20.

39- سورة المائدة / 115.

40- سورة الشعراء / 23-25.

41- سورة الجاثية / 36.

42- سورة الشعراء / 26.

43- سورة الشعراء / 47.

44- سورة الأنعام / 164.