﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾

﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ / فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾(1).

اللغة:

أول الشيء ابتداؤه ويجوز أن يكون المبتدأ له آخر ويجوز أن لا يكون آخر له لأن الواحد أول العدد ولا نهاية لآخره ونعيم أهل الجنة له أول ولا نهاية له وأصل بكة البك وهو الزحم يقال بكة يبكه بكا إذا زحمه ويباك الناس إذا ازدحموا فبكة مزدحم الناس للطواف وهو ما حول الكعبة من داخل المسجد الحرام وقيل سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم ولم يمهلوا والبك دق العنق وأما مكة فيجوز أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكة وإبدال الميم من الباء كقوله (ضربة لازب ولازم) ويجوز أن يكون من قولهم أمتك الفصيل ما في ضرع الناقة إذا مص مصا شديدا حتى لا يبقى منه شيء ومك المشاش مكا إذا تمشش بفيه فسميت مكة بذلك لقلة مائها وأصل البركة الثبوت من قولهم برك بروكا أو بركا إذا ثبت على حاله فالبركة ثبوت الخير بنموه ومنه البركة شبه الحوض يمسك الماء لثبوته فيه ومنه قول الناس تبارك الله لثبوته لم يزل ولا يزال وحده.

النزول:

قال مجاهد تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء والأرض المقدسة وقال المسلمون بل الكعبة أفضل فأنزل الله تعالى ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ﴾.

المعنى:

﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ أي بني للناس ولم يكن قبله بيت مبني وإنما دحيت الأرض من تحتها وهو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق الله تعالى السماء والأرض من تحتها وهو خلقة الله قبل الأرض بألفي عام وكانت زبدة بيضاء على الماء عن مجاهد وقتادة والسدي وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال أنها كانت مهاة بيضاء يعني درة بيضاء وروى أبو خديجة عنه (عليه السلام) قال إن الله أنزله لآدم من الجنة وكان درة بيضاء فرفعه الله تعالى إلى السماء وبقي رأسه وهو بحيال هذا البيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه أبدا فأمر الله تعالى إبراهيم (عليه السلام) وإسماعيل (عليه السلام) ببنيان البيت على القواعد وقيل معناه إن أول بيت وضع للعبادة ولم يكن قبله بيت يحج إليه البيت الحرام وقد كانت قبله بيوت كثيرة ولكنه أول بيت مبارك وهدى وضع للناس عن علي (عليه السلام) والحسن وقيل أول بيت رغب فيه وطلب منه البركة مكة عن الضحاك وروى أصحابنا أن أول شيء خلقه الله من الأرض موضع الكعبة ثم دحيت الأرض من تحتها وروى أبو ذر أنه سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن أول مسجد وضع للناس فقال المسجد الحرام ثم بيت المقدس.

﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ قيل بكة المسجد ومكة الحرام كله يدخل فيه البيوت عن الزهري وضمرة بن ربيعة وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وقيل بكة بطن مكة عن أبي عبيدة وقيل بكة موضع البيت والمطاف ومكة اسم البلدة وعليه الأكثر وقيل بكة هي مكة والعرب تبدل الباء ميما مثل سبد رأسه وسمده عن مجاهد والضحاك...

﴿مُبَارَكًا﴾ يعني كثير الخير والبركة وقيل مباركا لثبوت العبادة فيه دائما حتى يحكى على أن الطواف به لا ينقطع أبدا وقيل لأنه يضاعف فيه ثواب العبادة عن ابن عباس ورووا فيه حديثا طويلا وقيل لأنه يغفر فيه الذنوب ويجوز حمله على الجميع إذ لا تنافي ﴿وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي دلالة لهم على الله تعالى لإهلاكه كل من قصده من الجبابرة كأصحاب الفيل وغيرهم وباجتماع الظبي في حرمه مع الكلب والذئب فلا ينفر عنه مع نفرته عنه في غيره من البلاد وبانمحاق الجمار على كثرة الرماة فلو لا أنها ترفع لكان يجتمع هناك من الحجارة مثل الجبال وباستئناس الطيور فيه بالناس وباستشفاء المريض بالبيت وبأن لا يعلوه طير إعظاما له إلى غير ذلك من الدلالات وقيل معناه أنهم يهتدون به إلى جهة صلاتهم أو يهتدون إلى الجنة بحجة وطوافه.

﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ أي دلالات واضحات والهاء في فيه عائد إلى البيت وروي عن ابن عباس أنه قرأ فيه آية بينة مقام إبراهيم فجعل مقام إبراهيم وحده هو الآية وقال أثر قدميه في المقام آية بينة والأول عليه القراء والمفسرون أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها وأركان البيت وازدحام الناس عليها وتعظيمهم لها وقد مضى ذكر مقام إبراهيم في سورة البقرة وسئل الصادق (عليه السلام) عن الحطيم فقال هو ما بين الحجر الأسود والباب قيل ولم سمي الحطيم قال لأن الناس يحطم بعضهم بعضا وهو الموضع الذي فيه تاب الله على آدم وقال (عليه السلام) إن تهيأ لك أن تصلي صلاتك كلها الفرائض وغيرها عند الحطيم فافعل فإنه أفضل بقعة على وجه الأرض وبعده الصلاة في الحجر أفضل وروي عن أبي حمزة الثمالي قال قال لنا علي بن الحسين أي البقاع أفضل فقلنا الله تعالى ورسوله وابن رسوله أعلم فقال لنا أفضل البقاع ما بين الركن والمقام ولو أن رجلا عمر ما عمر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان ثم لقي الله تعالى بغير ولايتنا لا ينفعه ذلك شيئا وقال الصادق (عليه السلام) الركن اليماني بابنا الذي ندخل منه الجنة وروي أنه من روي من ماء زمزم أحدث له به شفاء وصرف عنه داء قال المفسرون ومن تلك الآيات مقام إبراهيم (عليه السلام) وأمن الداخل فيه وأمن الوحوش من السباع الضارية وأنه ما علا عبد على الكعبة إلا عتق وإذا كان الغيث من ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمن وإذا كان من ناحية الركن الشامي كان الخصب بالشام وإذا عم البيت كان في جميع البلدان وسائر ما ذكرناه قبل من الآيات...

وقوله: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ عطف على مقام إبراهيم وفي مقام إبراهيم دلالة واضحة لأنه حجر صلد يرى فيه أثر قدميه ولا يقدر أحد أن يجعل الحجر كالطين إلا الله وروي عن ابن عباس أنه قال أن الحرم كله مقام إبراهيم ومن دخل مقام إبراهيم يعني الحرم كان آمنا وقيل فيه أقوال (أحدها) إن الله عطف قلوب العرب في الجاهلية على ترك التعرض لمن لاذ بالحرم والتجأ إليه وإن كثرت جريمته ولم يزده الإسلام إلا شدة عن الحسن (وثانيها) أنه خبر والمراد به الأمر ومعناه أن من وجب عليه حد فلاذ بالحرم لا يبايع ولا يشاري ولا يعامل حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد عن ابن عباس وابن عمر وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام) وعلى هذا يكون تقديره ومن دخله فأمنوه (وثالثها) إن معناه من دخله عارفا بجميع ما أوجبه الله عليه كان آمنا في الآخرة من العذاب الدائم وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وأجمعت الأمة على أن من أصاب فيه ما يوجب الحد أقيم عليه الحد فيه ثم لما بين الله فضيلة بيته الحرام عقبه بذكر وجوب حجة الإسلام فقال ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ ومعناه ولله على من استطاع إلى حج البيت سبيلا من الناس حج البيت أي من وجد إليه طريقا بنفسه وماله واختلف في الاستطاعة فقيل هي الزاد والراحلة عن ابن عباس وابن عمر وقيل ما يمكنه معه بلوغ مكة بأي وجه يمكن عن الحسن ومعناه القدرة على الوصول إليه والمروي عن أئمتنا أنه وجود الزاد والراحلة ونفقة من يلزمه نفقته والرجوع إلى كفاية إما من مال أو ضياع أو حرفة مع الصحة في النفس وتخلية السرب من الموانع وإمكان السير...

﴿وَمَن كَفَرَ﴾ معناه ومن جحد فرض الحج ولم يره واجبا عن ابن عباس والحسن.

﴿فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ لم يتعبدهم بالعبادة لحاجته إليها وإنما تعبدهم بها لما علم فيها من مصالحهم وقيل إن المعني به اليهود فإنه لما نزل.

قوله: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا﴾ فلن يقبل منه قالوا نحن مسلمون فأمروا بالحج فلم يحجوا وعلى هذا يكون معنى ﴿مَن كَفَرَ﴾ من ترك الحج من هؤلاء فهو كافر والله غني عن العالمين وقيل المراد به كفران النعمة لأن امتثال أمر الله شكر لنعمته وقد روي عن أبي أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال من لم يحبسه حاجة ظاهرة من مرض حابس أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد وفي هذه الآية دلالة على فساد قول من قال إن الاستطاعة مع الفعل لأن الله أوجب الحج على المستطيع ولم يوجب على غير المستطيع وذلك لا يمكن إلا قبل فعل الحج.

المصدر:

تفسير مجمع البيان في تفسير القران إلى الطبرسي (ت 548هـ).


1- سورة آل عمران / 96-97.