وقفة فاحصة عند لفظة ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى محمّد وآله الطاهرين.

 

قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾(1).

 

لا شكّ أنّ السعي بين الصفا والمروة، فريضة واجبة، وشرطٌ حتمٌ أي ركن في الحج، وكذا في العمرة، سواء أكانت مفردةً أم متمتعاً بها إلى الحج.

 

ولفظة ﴿فَلاَ جُنَاحَ﴾ تعني عدم البأس، وهذا يعني الترخيص في الفعل فحسب دون اللزوم، فما وجه هذا التعبير الموهم خلافَ المقصود؟

 

الجناح: الإثم ومنها لا جناح عليك.

 

وقد حاول المفسّرون ومن ورائهم الفقهاء، محاولات شتى في حلّ هذا المُشكل وتوجيه هذا المعضل.

 

قال الإمام الرازي: ظاهر قوله تعالى: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ انه لا إثم عليه. والذي يصدق أنه لا إثم في فعله، يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، ثم يمتاز كل واحد من هذه الثلاثة عن الأخر بقيد زائد.

 

فإذن ظاهر هذه الآية لا يدل على أنّ السعي بين الصفا والمروة واجب أوليس بواجب، لأنّ اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه ألبتة على خصوصيّة، فلا بُدّ في فهم الخصوصية من الرجوع إلى دليل آخر..(2).

 

وأخرج الطبري بإسناده عن عروة بن الزبير، قال: سئلت عائشة: أرأيت قول الله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ والله ما على حد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة! فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي. إنّ هذه الآية لو كانت كما أوّلتها، كانت لا جناح عليه أن لا يطوّف بهما .. قالت: نزلت الآية في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلّون لمناة .. وكان من أهلّ لها يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة .. فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ذلك، فنزلت الآية.

 

قالت: وقد سنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الطواف بينهما، فليس لأحد ان يترك الطواف بينهما ..(3).

 

فقد أقرّت أنّ الآية بذاتها لا تدل على الوجوب، غير أنّ عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) وسنّته في الالتزام كان دليلاً على وجوب الإِتيان به.

 

وأخرج الترمذي بإسناده عن سفيان قال: سمعت الزُهْري يحدّث عن عروة، قال: قلت لعائشة: ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئاً، وما أبالي أن لا أطوف بينهما. فقالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، طاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وطاف المسلمون -وساق الحديث إلى قوله- ولو كانت كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما.

 

قال الزُهْري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك، وقال: إنّ هذا لَعِلمٌ. ولقد سمعتُ رجالاً من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب، يقولون: إنّ طوافنا بين هذين الحَجَرين من أمر الجاهليّة. وقال آخرون من الأنصار: إنّا أُمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر به بين الصفا والمروة .. فأنزل الله الآية .. قال أبو بكر بن عبد الرحمن فأراها نزلت في هؤلاء وهؤلاء .. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح(4).

 

وأورد القرطبي الحديث في تفسيره، ثم قال: وأخرجه البخاري بمعناه، وفيه: أن أبا بكر بن عبد الرحمن قال: إنّ هذا لَعِلْمٌ ما كنتُ سمعته ..(5).

 

ثم نقل القرطبي تحقيقاً لابن العربي حول تأويل عائشة لهذه الآية، قال: وتحقيق القول فيه إنّ قول القائل: لا جناح عليك أن تفعل، إباحة الفعل. وقوله: لا جناح عليك أن لا تفعل، إباحة لترك الفعل. فلما سمع عروة الآية: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ﴾ زعم أنّ ترك الطواف جائز. ثم لما رأى الشريعة مطبقة على أن لا رخصة في ترك الطواف رأى تعارضاً، فطلب الجمع بين هذين المتعارضين. فنبّهته عائشة على أنّ الآية لا تدل على جواز ترك الطواف، وإنما كانت تدل على ذلك إذا كانت: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ﴾. فلم يأت هذا اللفظ لا باحة ترك الطواف، ولا فيه دليل عليه. وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرّج منه ..(6).

 

غير أنّ جماعة من أهل الجمود في النظر، صمدوا على إرادة جواز الترك، ومن ثم نسبوا إلى بعض كبار الصحابة والتابعين أيضاً أنهم قرؤوا: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾.

 

فقد أخرج الطبري بإسناده عن أبي عاصم قال: حدثنا ابن جُرَيج قال: قال عطاء: لو أن حاجّاً أفاض بعد ما رمى جمرة العقبة، فطاف بالبيت ولم يسع، فأصاب امرأته، لم يكن عليه شيء، لا في حج ولا في عمرة. من أجل قول الله -كما في مصحف ابن مسعود-: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾.

 

قال: فعاودتُه بعد ذلك، فقلت: إنّه قد ترك سنّة النبي (صلى الله عليه وآله): قال: ألا تسمعه يقول: ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾، فأبى أن يجعل عليه شيئاً .. فقد أخذ التطوع بمعنى التبرّع.

 

وأيضاً أخرج عن سفيان عن عاصم الأحول قال: سمعت أنساً يقول: الطواف بينهما تطوع .. أي تبرّع ومندوب إليه.

 

وروى نحوه عن مجاهد، قال: لم يُحرَّج من لم يطف بهما .. أي لم يأت إِثماً، لأنه غير واجب.

 

وروى عن عطاء عن عبد الله بن الزبير، قال: هما تطوع ..(7). أي الطواف بينهما.

 

وذكر القرطبي أنه في مصحف أبيّ كذلك أي: أن لا يطوف بهما .. كما نسب إلى ابن عباس أيضاً أنه قرأ كذلك(8).

 

قال القرطبي: اختلف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة، فقال الشافعي وابن حنبل: هو ركن. وهو المشهور من مذهب مالك .. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشعبي: ليس بواجب، فإن تركه أحد من الحاج حتى يرجع إلى بلاده، جبره بالدّم، لأنه سنّة من سنن الحج. وهو قول مالك في «العُتبيّة» (كتاب في مذهب الإمام مالك كتبه محمد بن أحمد العتبي القرطبي) ..(9).

 

وذكر البيضاوي في التفسير الإجماع على أنه مشروع في الحج والعمرة، وإنما الخلاف في وجوبه، فعن أحمد أنه سنة، و به قال أنس وابن عباس. لقوله تعالى: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ فانه يفهم منه التخيير. قال: وهو ضعيف، لأنّ نفي الجناح يدل على الجواز، الداخل في معنى الوجوب، فلا يدفعه. وعن أبي حنيفة أنه واجب يجبر بالدّم. وعن مالك والشافعي أنه ركن ..(10).

 

وذكر ابن قدامة عن أحمد روايتين، إحداهما: إنّه ركن لا يتمّ الحج إلاّ به. والثانية: أنه سنة لا يجب بتركه دم. ثم رجح مذهب أبي حنيفة، أنه يجبر بدم، قال: وقول عائشة في ذلك بكونه ركناً معارض بقول من خالفها من الصحابة ..(11).

 

قال الرازي: احتج أبو حنيفة لعدم الركنيّة بوجهين، أحدهما هذه الآية ﴿فَلاَ جُنَاحَ﴾، قال: وهذا لا يقال في الواجبات. وقد أكدّه تعالى بقوله: ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ فبيّن أنه تطوّع وليس بواجب. وثانيهما قوله (صلى الله عليه وآله): «الحجُّ عرفة»، ومن أدرك عرفة فقد تم حجّه.

 

ثم أخذ في الرّد على الوجهين، ودعم مذهب غيره (12).

 

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي في كتاب الخلاف: السعي بين الصفا والمروة ركن لا يتمّ الحج إلاّ به، فإن تركه أوترك بعضه ولو خطوةً واحدةً، لم تحلّ له النساء، حتى يأتي به.

 

قال: وعلى ذلك إجماع فقهاء الإماميّة، وقد فعله النبيُّ (صلى الله عليه وآله) وأَمَرنا بالاقتداء به: "خُذُوا عنّي مناسككم" وقال: "إن الله كتب عليكم السعي .." ومعناه: فَرَض ..(13).

 

قلت: لا شك أنّ السعي بين الصفا والمروة، ركن من أركان الحج والعمرة، وعلى ذلك دلّت الآثار، وعليه استمرت سيرة المسلمين المتلقاة من فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآله الأطهار وصحابته الأخيار.

 

أمّا الآية الكريمة صدراً وذيلاً فلا صلة لها بمسألة وجوب السعي أو ندبه أو إباحته ونحو ذلك من الأحكام التكليفية أو الوضعية. وإنما هي: دفع لتوهّم الحظر على ما اصطلح عليه علم الأصول.

 

وذلك أنّ الآية نزلت في عمرة القضاء(14). كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد شرط على المشركين ضمن شروط عقد عليها صلح الحديبيّة سنة ستّ من الهجرة: أنه في العام القابل يأتي هو وأصحابه لأداء العمرة، على أن يرفعوا الأصنام التي كان المشركون وضعوها حول البيت، وعلى جبلي الصفا والمروة، لمدة ثلاثة أيام ليقوم المسلمون بأداء مناسكهم خلالها.

 

وكان المشركون قد وضعوا على جبل الصفا صنماً يقال له: أساف، وعلى المروة: نائلة، كانوا إذا سعوا التمسوا أعتابهما.

 

ثم لمّا قدم النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه لأداء العمرة سنة سبع من الهجرة، ورفع المشركون أصنامهم من البيت والمسعى، أحرم هو وأصحابه وطاف بالبيت وسعى، تخلّف بعض أصحابه بسبب تشاغلهم ببعض شؤونهم الخاصة، فلم يتمكّنوا من السعي خلال الأيام الثلاثة، فأعاد المشركون أصنامهم، ومن ثمّ تحرج هؤلاء المتخلفون عن أداء السعي، ظناً منهم أنّ وجود الأصنام يتنافى وأداء عبادة السعي لله خالصةً .. فنزلت الآية دفعاً لتوهم الخطر ورفعاً لظنّ المنافاة .. كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) فقد روى أبو النضر محمد بن مسعود العيّاشي السمرقندي بإسناد رفعه إلى الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، سئل عن السعي بين الصفا والمروة، فريضة هو أو سنة؟ فقال: فريضة! فقيل له: أَليس يقول الله تعالى: (فلا جناح عليه أن يطوّف بهما)؟

 

قال: كان ذلك في عمرة القضاء، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام، فتشاغل بعض أصحابه حتى أعيدت. فجاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يسألونه الحال .. فنزلت الآية ..(15).

 

أي لا حرج بذلك، لأن السعي إنما يقع لله، والأعمال بالنيّات. فلا منافاة بين وجود الأصنام ووقوع السعي لله عزّ وجلّ .. والصفا والمروة من شعائر الله، لا يتلوّثان بوضع الأصنام عليهما.

 

وقوله تعالى: ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾.

 

يعني: أنّ الله: ينظر إلى قلوبكم ونيّاتكم في ضمائركم، فان كان العمل الذي يقوم به العامل، خيراً وكان قاصداً به الله، فالله يشكره عليه، وهو أعلم بما في الصدور.

 

﴿إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا﴾(16).

﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا﴾(17).

 

فمعنى تطوّع خيراً، القيام بالطاعة عن نيّة صادقة لله تعالى، وهذا المعنى لا يستدعي أن يكون العمل الذي يتطوّع به العامل، مندوباً إليه فقط، بل الواجب أيضاً كذلك، فهو من الخير الذي ينبغي الأداء به عن تطوّع، أي عن رغبة في الخير واستسلام لله عزّ وجلّ.

 


1- سورة البقرة / 158.

2- التفسير الكبير ج4 / ص159.

3- تفسير الطبري ج2 / ص29.

4- جامع الترمذي ص5، كتاب التفسير ج48 / ص208-209  / 2965.

5- تفسير القرطبي 2 / ص178.

6- تفسير القرطبي 2 / ص182.

7- تفسير القرطبي ج2 / ص30.

8- تفسير القرطبي ج2 / ص182.

9- تفسير القرطبي ج2 / ص183.

10- تفسير البيضاوي ج1 / ص202، وهكذا قال محمّد رشيد رضا: روى عن أحمد أنه مندوب المنار ج2 / ص45.

11- المغني -ابن قدامة- ج3 / 407-408.

12- التفسير الكبير ج4 / ص160.

13- الخلاف ج1 / ص449، م140 من كتاب الحج.

14- وسميّت عمرة القضاء، لأنها وقعت شرطاً في عقد الصلح الذي ابتدأ. بلفظ: هذا ما قضى به.

15- تفسير العياشي 1: 133/70، وراجع: التبيان -الشيخ أبي جعفر الطوسي- 2 / ص44، ومجمع البيان -الطبرسي- ج1 / ص240، والميزان -العلامة الطباطبائي- ج1 / ص391، والصافي، الفيض الكاشاني ج1 / ص154، وكنز الدقائق -المشهدي- ج1 / ص384، وتفسير أبي الفتوح الرازي ج1 / ص391.

16- سورة الأنفال / 70.

17- سورة الأحزاب / 51.