تفسير الآيات من 1 إلى 6 من سورة التغابن

﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ / هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ / خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ / يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ / أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ / ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ﴾

 

التّفسير:

يعلم ما تخفي الصدور:

تبدأ هذه السورة بتسبيح الله، الله المالك المهيمن على العالمين القادر على كلّ شيء ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ﴾ ويضيف ﴿لَهُ الْمُلْكُ﴾ والحاكمية على عالم الوجود كافّة، ولهذا السبب: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ﴾.

 

ولا حاجة للحديث عن تسبيح المخلوقات جميعاً لله الواحد الأحد بعد أن تطرّقنا إلى ذلك في مواضع عديدة، وهذا التسبيح ملازم لقدرته على كلّ شيء وتملّكه لكلّ الأشياء، ذلك لأنّ كلّ أسرار جماله وجلاله مطوية في هذين الأمرين.

 

ثمّ يشير تعالى إلى أمر الخلقة الملازم لقدرته، إذ يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ﴾ وأعطاكم نعمة الحرية والإختيار ﴿فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ﴾.

 

وبناءً على هذا فإنّ الإمتحان الإلهي يجد له في هذا الجو مبرّراً كافياً ومعنى عميقاً ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.

 

ثمّ يوضّح مسألة الخلقة أكثر بالإشارة إلى الهدف منها، إذ يقول في الآية اللاحقة: ﴿خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ بِالْحَقِّ﴾.

 

فإنّ هذا الخلق الحقّ الدقيق ينطوي على غايات عظيمة وحكمة بالغة، حيث يقول تعالى في الآية (27) من سورة ص: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا.

 

ثمّ يتحدّث القرآن الكريم عن خلق الإنسان، ويدعونا بعد آيات الآفاق إلى السير في آفاق الأنفس، يقول تعالى: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾.

 

 لقد صوّر الإنسان بأحسن الصور وأجملها، وجعل له من المواهب الباطنية الفكرية والعقلية ما جعل العالم كلّه ينطوي فيه.

 

 وأخيراً تنتهي الاُمور إليه تعالى ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾.

 

نعم، إنّ هذا الإنسان الذي هو جزء من عالم الوجود، ينسجم من ناحية الخلقة والفطرة مع سير هذا العالم أجمع وغاية الوجود، حيث يبدأ من أدنى المراتب ويرتقي إلى اللامحدود حيث القرب من الحقّ تبارك وتعالى.

 

جملة: ﴿فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ يراد بها الإشارة إلى المظهر الخارجي والمحتوى الداخلي على حدّ سواء.

 

 وأنّ التأمّل في خلق الإنسان وصورته، يظهر مدى القدرة التي خلق بها الباريء هذا المخلوق الرائع، الذي امتاز على كلّ ما سواه من المخلوقات.

 

ولأنّ الإنسان خلق لهدف سام عظيم، فعليه أن يكون دائماً تحت إرادة الباريء وضمن طاعته، فإنّه ﴿يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.

 

تجسّد هذه الآية علم الله اللامتناهي في ثلاثة مستويات: علمه بكلّ المخلوقات، وما في السموات والأرض.

 

ثمّ علمه بأعمال الإنسان كافّة، سواء أضمرها أو أظهرها.

 

والثالث علمه بنيّة الإنسان وعقائده الداخلية التي تحكم قلب الإنسان وروحه.

 

ولا شكّ أنّ معرفة الإنسان بهذا العلم الإلهي ستترك عليه آثاراً تربوية كثيرة، وتحذّره بأنّ جميع تحرّكاته وسكناته وكلّ تصرّفاته ونيّاته، وفي أي مكان كانت، إنّما هي في علم الله وتحت نظره تبارك وتعالى.

 

 وممّا لا شكّ فيه أنّ ذلك سيهيء الإنسان للحركة نحو الرقي والتكامل.

 

ثمّ يلفت القرآن الكريم الإنتباه إلى أهمّ عامل في تربية الإنسان وتعليمه، وهو الإتّعاظ بمصارع القرون وما جرى على الأقوام السالفة حيث يقول: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

 

ألم تمرّوا على مدنهم المهدّمة وآثارهم المدمّرة في طريقكم إلى الشام والأماكن الاُخرى، فتروا باُمّ أعينكم نتيجة كفرهم وظلمهم.

 

 اقرأوا أخبارهم في التاريخ، بعضهم أخذته العواصف، وآخرون أتى عليهم الطوفان، وكان هذا عذابهم في الدنيا وفي الآخرة لهم عذاب أشدّ.

 

ثمّ تشير الآية اللاحقة إلى سبب هذه العاقبة المؤلمة وهو الغرور والتكبّر على الأنبياء: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ وبهذا المنطق عصوا وكفروا ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا﴾ والله في غنى عن طاعتهم ﴿وَّاسْتَغْنَى اللهُ﴾ فطاعتهم لأنفسهم وعصيانهم عليها و ﴿وَاللهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ﴾.

 

ولو كفرت كلّ الكائنات لما نقص من كبريائه تعالى شيء، كما أنّ طاعتهم لا تزيده شيئاً.

 

نحن الذين نحتاج إلى كلّ هذه التعليمات والمناهج التربوية.

 

عبارة ﴿وَّاسْتَغْنَى اللهُ﴾ مطلقة تبيّن إستغناء الباريء عن الوجود كلّه، وعدم حاجته إلى شيء أبداً، بما في ذلك إيمان الناس وطاعتهم، كي لا يتصوّروا -خطأً- أنّ الله عندما يؤكّد على الطاعة والإيمان فبسبب حاجة أو نفع يصيبه سبحانه.

 

وقال آخرون في معنى عبارة ﴿وَّاسْتَغْنَى اللهُ﴾ بأنّها إشارة إلى الحكم والآيات والمواعظ التي أعطاها الله تعالى إيّاهم، إذ لا يحتاجون بعدها إلى شيء.