تفسير قوله تعالى: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾

هناك عدة أمور لا بد من الحديث عنها في هذا المقام، وهي التالية:

 

ارتباط الآية بما قبلها:

لكي نفهم بصورة اعمق مدى ارتباط هذه الآية بما سبقها، فعلينا أن نشير إلى التسلسل الطبيعي لما تحدثت عنه الآيات السابقة، فنقول:

 

إنه بعد أن تأكد الاعتقاد بالله سبحانه، وبصفاته -جمالية والجلالية- ثم بيوم الدين، فلا بد أن تترك هذه الاعتقادات آثارها على العقل، والمشاعر، والمفاهيم والعواطف، وغير ذلك. ثم هي قد أنتجت عقائد تفصيلية أثارت حركة، وسلوكاً، وموقفاً هو عبادة توحيدية خالصة له تعالى.

 

وكان لا بد أن يكون ذلك السلوك والعمل، وتلك العبادة منسجمة مع طبيعة الهدف الذي يسعى إليه الإنسان، وهو أن يحقق هذا الإنسان ذاته، ويستجمع خصائصه ومزاياه الإنسانية، ويقيم حالة من التوازن فيما بين تلك الخصائص والمزايا، ليحقق من خلال ذلك انسجامها مع ذلك الهدف، وتناغمها معه بصورة إيجابية وبنّاءة ودافعة للحركة الصحيحة باتجاهه، ومن ثم باتجاه مواقع الزلفى والقرب من الله سبحانه وتعالى.

 

وبعبارة أخرى: إن الإنسان إنما يسعد بإنسانيته، وباقامة حالة من التوازن بين كل خصائصه ومزاياه وطاقاته بجميع تنوعاتها، لأن حالة التوازن هذه هي التي تعطيه السلام والطمأنينة في ظل الرضى، والرعاية الإلهية. وأي خلل واهتزاز في حالة التوازن هذه -بسبب اقتراف معصية، أو بسبب تربية خاطئة- سيؤدي إلى اهتزاز هذا السلام النفسي وتقويضه، وسينعكس سلباً على درجة القرب من الله سبحانه. قال تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(1).

 

ومن الواضح: أن إقامة حالة التوازن هذه، وسعادة الإنسان بإنسانيته،ثم السعي نحو الله سبحانه لنيل درجات القرب والرضى منه تعالى، أن ذلك إنما يتم بالعمل، والممارسة، فلا بد من أطروحة عملية تقدم لهذا الإنسان نهجاً يساعد على تحقيق ذلك، وتقدم له أيضاَ قوانين وأحكاماً سلوكية تحمي خطواته على هذا الطريق من أن تزل وتنحرف.وهو أيضاً بحاجة إلى العون والرعاية والهداية.

 

ولا بد أن نتلمس هذا النهج، وتلك النظم والقوانين والأحكام ونطلبها منه تعالى لأنه سبحانه -بصفته رب العالمين- هو وحده العارف بما خلق، وهو وحده المطلع على كل الغيب وعلى جميع الأسرار، وهو المربي، والعالم بطبيعة المر بوب، والعالم بسبل الوصول إليه، والاتصال به.

 

فقوله: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾(2) يأتي كنتيجة طبيعية لقوله تعالى ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾(3) فهو الجهة التي نلجأ إليها بصورة عفوية وطبيعية.

 

فإذا كان لا بد من عبادة توصل إليه تعالى، ولا بد من كدح وعمل ومواجهة مصاعب ومتاعب، فإن طلب المعونة، وطلب الهداية إلى الضوابط والأحكام التي تضمن سلامة الحركة يصبح أمراً ضرورياً.

 

فالعبادة ليست هدفاً، وإنما هي وسيلة تستبطن العمل الذي يحقق الهدف ولكي يكون العمل مؤثراً لأثره دون أية سلبيات، فلا بد من نهج وخطة وضوابط تمنع من الخطأ، وتجعل الحركة بالاتجاه الصحيح.

 

الطلب الجازم:

وقد جاء طلب الهداية هذا بتّياً وجازماً، فلم يقل: اهدني إن شئت، أو إن أحببت، لأن المطلوب في كل دعاء وطلب من الله هو ذلك. فقد أمرنا بالإلحاح في الطلب، وبالجزم والبت فيه. فإنه تعالى يحب إلحاح الملحين من عباده المؤمنين.

 

الإسلام لا يغني عن طلب الهداية:

وقد يخطر ببال البعض أن يقول: ما دمنا قد أسلمنا وآمنا، فقد حصلت الهداية، فلماذا نطلبها وهي موجودة لدينا؟ وهل هذا إلا طلب الحاصل؟ ولماذا كلفنا الله سبحانه بطلبها في صلواتنا كل يوم عشر مرات على الأقل؟

 

ونقول في الجواب:

أولاً: صحيح: أن الله سبحانه قد رسم لنا بالإسلام طريق الهداية. ولكن مجرد العمل بأحكامه لا يكفي لتحقيق الهدف المطلوب، وهو أن يحقق الإنسان إنسانيته ويستكمل مزاياها ليصل من خلال ذلك إلى الله سبحانه، وينال درجات القرب منه.

 

فالكل يصلي، لكن صلاتهم لا تنهاهم عن المنكر، بل بعضهم ينتهي عنه، وبعضهم لا ينتهي، والذين ينتهون عن المنكر، بعضهم أرسخ امتناعاً وانتهاءً من بعض. وعدا عن ذلك فإن الصلاة هي معراج المؤمن، وقربان كل تقي، لكن الكثيرين -وإن كانت صلاتهم تنهاهم عن الفحشاء- لا يكون لهم عروج بها، ولا تكون قرباناً لهم، إلا بمقدار ضئيل وضعيف.

 

إذ كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ.وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء وهذا الحد الأدنى من العمل قد يسقط التكليف، ويمنع من العقاب. ولكن قد لا يثاب المرء عليه، ولا يفيده شيئاً في إيصاله إلى هدفه الأسمى.

 

وقد صرح أمير المؤمنين (عليه السلام)، بأن العبادة درجات ومراتب، فقال: "إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار. وأن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد. وأن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار" وهو الذي يقول: "ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك".

 

فالعمل الذي يسقط التكليف هو الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل، ثم بقدر إخلاص الإنسان في عبادته، وبقدر ما يبذله من جهد، بقدر ما يكون القرب والرضى. فإذا كان الإنسان في درجة ومرتبة، فإنه يحتاج إلى الهداية وإلى المعونة لينتقل منها إلى درجة أعلى، ثم إلى الاعلى منها، وهكذا. ووسائل ذلك هو الصبر، والإخلاص والجهد، وجهاد النفس.

 

ولكل من-زلة ودرجة خصوصياتها وآفاقها، ومسؤولياتها التي تختلف في حجمها وتفاصليها عن سابقتها. ولها كذلك واجباتها التي تنسجم معها، ومع ما استجد لهذا الإنسان، وما انفتح عليه من معارف وآفاق، وأحوال وغيرها .. فهي إذن تحتاج إلى هدايات إلهية جديدة، ليعرف كيف يتعامل مع هذا الواقع الجديد، ليتفاعل، ثم ليتأقلم معه، وليتمكن من تهيئة الوسائل لاستمرار تحركه باتجاه مراحل أخرى أرحب وأوسع وأرقى. فلا بد له من هداية في محيطه قبل الانتقال، ثم هداية في حركته الانتقالية، ثم هداية ثالثة حين بلوغه المرحلة الجديدة. فهو كالمسافر الذي يحتاج إلى هداية أولية، ثم إلى هدايات في كل مرحلة يصل إليها، ثم إلى هداية بعد الوصول ليكون على علم بتفاصيل وحالات ومناخ البلد الذي وصل إليه.

 

والعبادة والقرب من الله سبحانه لا ينحصر بالصلاة والصوم والحج .. بل إن كل عمل يمكن أن يكون عبادة. وقد يكون تفكرك بالله، ومحاسبتك نفسك في آخر ساعة من نهار أفضل من عامة عباداتك، الخاوية والخالية من الإخلاص والتفكر، بل قد يصاحبها رياء وعجب، يخرجها من دائرة كونها مظهراً من مظاهر التوحيد، لتكون شركاً موبقاً ومهلكاً.

 

وقد يكون نومك عبادة إذا كنت صائماً. ولا تكون صلاتك عبادة، كما أن كدك على عيالك، وإحسانك لوالديك ومرابطتك على الثغور، وسعيك في قضاء حاجات المؤمنين، قد يوصلك إلى الدرجات العلى، والمراتب السامية، التي ترفعك إلى درجة عبادة الأحرار. وإذا كانت كل درجة تجعل الإنسان ينفتح على الله سبحانه، بعقله ووعيه، وفكره ومعرفته بصورة أتم وأكبر، فإن صلاته -إذا بلغ بعض المراحل- ربما تصير أكثر معراجية، وأشد نهياً له عن المنكر، وأمراً له بالمزيد من المعروف. ثم يصبح دعاؤه مستجاباً. بل قد يصبح المستحب عنده واجباً، والمكروه حراماً، والصغيرة من الذنوب يراها كبيرة. ثم يزداد تكاملاً ورقياً حتى يصبح يرى بعين الله، وينطق بما يريده الله، ويصير يومه أفضل من أمسه. ويفهم بعمق مغزى قول علي (عليه السلام): من اعتدل يوماه فهو مغبون.

 

ويلحق من ثم بدرجات الأولياء والأصفياء.

 

وهذا هو السير الطبيعي الذي مر به الأنبياء والأوصياء، فوصلوا إلى ما يريدون، ونالوا ما يشتهون بعلمهم وبجهدهم وجهادهم. وإن علمهم بالحلال والحرام تفسير القرآن، وإن كان واحداً، ولكنهم يتفاوتون في علمهم بملكوت الله سبحانه، وبأسرار الخليقة. ويزدادون في علمهم هذا، كما جاء في بعض الروايات.

 

فالحاجة إلى هداية الله وتسديده، ومعونته وتوفيقه، وفتح آفاق المعرفة بالله، والالتذاذ بقربه، وإدراك ألطافه، والتفاعل مع بركاته. هذه الحاجة مستمرة ومتجددة، وتحتاج إلى هداية بعد هداية. ولا بد من طلبها منه تعالى. ولا بد من الإلحاح والإصرار على هذا الطلب "اهدنا الصراط المستقيم".

 

وثانياً: إن المراد هو استمرار الهداية الإلهية، لأنه إذا وكلنا إلى أنفسنا فإن أهواءنا وشهواتنا، والمغريات والضغوطات تتسلط علينا فتزين لنا الانحراف والخطأ.حتى لنرى الحق باطلاً، والباطل حقاً، ونقع في المآثم والمظالم، ونصبح في ظلمات بعضها فوق بعض.

 

﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(4).

﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(5).

 

وفي ناحية الهداية أيضاً يكون الأمر كذلك. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾(6).

وقال سبحانه: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾(7).

 

فالحاجة إلى المعونة والهداية قائمة ودائمة. فطلبها لا بد أن يستمر، ليشملك اللطف الإلهي الغامر. أما إذا انقطعت عن طلب الهداية، وأحسست بعدم الحاجة إليها، فقد قطعت صلتك بالله، واستوجبت قطع اللطف الإلهي عنك، وأصبحت عرضة للأهواء والشهوات، لتتلاعب بك، وللشياطين لتغويك وتطغيك. وهذا ما لا يرغب به عاقل، ولا يرضى به حتى جاهل.

 

ونجد في اللغة العربية ما يشهد لكون اهدنا بمعنى ثبتنا. وذلك فيما لو قلت لأحدهم: قف حتى أعود إليك. فكلمة: قف، يطلب بها الثبات على حالة الوقوف. وليس المطلوب، أن يقف بعد أن يكون قاعداً. وكلمة اهدنا هي الأخرى من هذا القبيل.

 

أنواع الهداية وأقسامها:

وقد قسم بعضهم الهداية إلى أربعة أقسام هي:

 

1- هداية الإلهام: وهي نوع من الهدايات التي تدفع الطفل لتناول ثدي أمه، والارتضاع منه بمجرد أن ينفصل عن رحم أمه؛ فالحواس وحدها لا يمكن أن تدفعه إلى ممارسة هذا الفن الرفيع. وكذلك ليس لديه من الإدراك في تلك الفترة ما يمكنه من ذلك، فضلاً عن أن يتعلم ذلك من معلم أو أن يقرأه في كتاب، أو غيره.

 

2- الهداية الحسية: فإن الحواس لها دور في الهداية، فالبصر يهدي إلى الأشكال والأحجام والألوان. وبالسمع تهتدي إلى الأصوات، وتميز بينها، وتعرف الشجي من النشاز. والقوي من الضعيف، وما إلى ذلك. وبواسطة اللمس تعرف الحار والبارد، واللين والقاسي، والخشن والأملس الخ، وكذلك بالنسبة إلى حاسة الشم في المشمومات، وحاسة الذوق في المطعوم والمشروب.

 

3- الهداية العقلية: التي ندرك بها ما لا يقع تحت قدرة الحواس، ولا ينال بالإلهام، وذلك مثل الحسن، والقبح، والعدل والظلم، والتوافق والتضاد، والتناقض وعدمه وما إلى ذلك.

 

4- الهداية الشرعية: وهي تكون فيما يعجز العقل عن درك كنهه، ويقف حائراً أمامه. وقد تحول الأهواء، والغرائز والشهوات دون وصول العقل إليه، حينما تهيمن عليه تلك الأهواء والشهوات، وتفقده القدرة على التمييز، فتشتبه عليه الأمور، ويخلط الحق بالباطل. فيأتي دور الشرع ليحل محل العقل في الهداية والبيان.

 

وبعد هذا البيان نقول: كأنهم يريدون أن يقولوا: إن معنى الآية الشريفة هو: اهدنا إلى شريعتك، وبها، في المواقع التي يعجز العقل، والإلهام، والحواس عن إدراك وجه الصواب فيها.

 

ونقول: إن هذا البيان غير مقبول.

 

أولاً: لأنه كلام غائم، ولا سيما فيما يرتبط بقدرات العقل على الإدراك، وحدوده ومجالاته.

 

ثانياً: إن الهداية على تفسيرهم هذا تنتهي بمجرد تعليم الشريعة، فإذا عرفت أحكامها فلا حاجة لقوله اهدنا كل يوم عشر مرات أو أكثر، لأن أمور الشريعة والدين محددة ولا زيادة فيها، والزيادة إنما هي فيما هو خارج عنها.

 

ثالثاً: قد ذكرنا فيما تقدم: أن الهداية ليست مجرد تلقين ودلالة، ثم تقبل أو لا تقبل، على حد قوله تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ، ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾. بل الهداية إلى النجدين هي إحدى مراتبها.

 

وتوضيح ذلك:

هذه الهداية ليست هي -كما يقول بعضهم- التوفيق الإلهي. ليردّ عليه بعض آخر: بأن الهدايات التوفيقية خاصة بالأنبياء. بل هي هداية بعد هداية تزيد وتتسع باستمرار، تبعاً لما يستجد للإنسان من معارف، وتنفتح أمامه من آفاق. ويواجهه من أمور جديدة تحتاج إلى حل، وإلى استكناه حقيقتها، والانسياب في آفاقها.

 

وذلك على حد قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى. فإن المعرفة كلما اتسعت، كلما زادت معرفة الإنسان بحجم المجهولات التي يحتاج إلى كشفها. وكثرت الألغاز التي تحتاج منه إلى حل، فإن الخير يوصل بعضه إلى بعض، ويهدي بعضه إلى بعض، كما ويشد بعضه أزر بعض.

 

ولا يختص ذلك بالأنبياء، ما دام أن عبادات الإنسان، والتزامه بأحكام الله من الأوامر والزواجر له آثاره عليه، فتصقل روحه، وفكره وعقله وتجربته؛ وتزيد من طاقاته، وتهيؤه لنيل مراتب أعلى وأرقى.

 

وبالوصول إليها، والحصول عليها يكتسب المزيد، فيوظفه لنيل موقع جديد من مواقع القرب والزلفى له تعالى، ويصبح أقدر على مواجهة نفسه، وصدها عن شهواتها، ثم مواجهة المغريات والمشكلات بعزم أشد، وقدرات أعظم.

 

الهداية والجبر الإلهي:

وقد ادعى بعض المفسرين: أن قوله تعالى: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ .. يدل على صحة قول الأشاعرة: إنه تعالى هو فاعل الخير والشر. أما العبد فلا يوجد فعله ولا يخلقه. ولذا نسبت الهداية هنا لله تعالى؛ فهو الذي يفعل ويوجد. ولكنه نسب الضلال للعبد في قوله: ﴿وَلاَ الضَّالِّينَ، مع أن الله سبحانه هو الذي يضلهم تأدباً معه تعالى. إذن فقوله تعالى: ﴿اهدِنَا يمثل رداً على المعتزلة والرافضة.

 

ونقول: إن هذا التأدب -لو صح- فهو دليل على قبح صدور ذلك منه تعالى. وإذا لم يجز نسبة القبح إليه تعالى لفظاً، فما بالك بنسبته إليه وصدورها منه خارجاً؟

 

إن المراد من ﴿اهدِنَا ليس هو إيجاد الهداية بطريق جبري وقسري وتكويني، بل المراد: هو المساعدة في الهداية، فإذا قلت لإنسان: ساعدنا على هذا الأمر، فإنك أنت الذي تبذل الجهد، وتعمل، وتؤثر فيه بصورة مباشرة ثم يساعدك الآخرون.

 

وإذا كانت الهداية بمعنى الدلالة، والتوفيق والتسديد، فالأمر يصير أوضح؛ فإنك إذا قلت لرجل: اهدني ودلني، فإن دلالته لك لا تعني أنه قد خلق المعرفة فيك وأجبرك عليها.بل هو يدلك، وأنت تختار أن تعمل بهذه الدلالة، أو لا تعمل.

 

إنه سبحانه في نفس سورة الحمد، قد نسب الفعل إلى العبد. وذلك في قوله: ﴿نَعْبُدُ. ﴿نَسْتَعِينُ. فأنت الذي تعبد. وأنت الذي تفعل، وتريد منه أن يعينك، ويقويك، وينشطك، ويشجعك لتحقق المزيد من النجاح والفلاح، ثم تطلب المزيد من الهداية والدلالة إلى كل ما يوجب القرب، والمزيد من المحفزات والمشجعات، والتوفيقات والبركات.

 

ولو صح ما ذكروه في ﴿اهدِنَا للزم التناقض بينه وبين ﴿نَعْبُدُ. ﴿نَسْتَعِينُ﴿الضَّالِّينَ﴾. حيث جُعل الله فيها معيناً هنا. ومجبِراً على الهداية خالقاً لها هناك.

 

وإذا صح: أنه نسب الضلال إلينا تأدباً. فلماذا نسب إلينا الفعل في نعبد ونستعين، إذ لا معنى للتأدب فيهما لننسبهما إلى غيره تعالى. إذ لا قبح في نسبتهما إليه سبحانه.

 

إهدنا الصراط أو إلى الصراط:

وقد يدور بخلد البعض هنا سؤال، وهو: لماذا قال سبحانه هنا: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، ولم يقل اهدنا إلى الصراط؟ فما هو الفرق بين التعدية المباشرة، وتسلط الفعل على المفعول مباشرة وبين التعدية بواسطة حرف الجر.

 

والجواب: إن التعدية المباشرة تشير إلى الهداية الحسية، أما التعدية بإلى. فتشير إلى الهداية الإرشادية. أي أن الأولى تصلك بالصراط المستقيم، فتلمسه بيدك. والثانية ترشدك إلى الصراط، وتدلك عليه ولو من بعيد.

 

ومن الواضح: أن الهداية الحسية التي يتجسد الواقع فيها أمامك أشد إغراء ودعوة. وهي التي يحصل فيها الإنسان على السكون واليقين، بصورة اعمق وأشد. وهي الأقوى والأجلى والأوضح. ثم هي الأضمن للوصول. من أية هداية أخرى. وهي أقصى درجات الهداية، وأشدها قطعية.

 

ونحن بحاجة ماسة إلى هذا الضمان، وإلى السكون والاطمئنان، لخطورة الأمر، من حيث كونه يتعلق بمصير الإنسان، وبكل حياته ووجوده وحركته.

 

فكأنه قال: اجعلنا نتحسس الصراط بصورة مباشرة، ولا تكتف بمجرد الدلالة الإرشادية إليه، لأننا نريد أن نسلكه، لنصل منه إلى الهدف الأسمى، والغاية الفضلى.

 

مناقشة وردّها:

وقد يقال: إننا لا نجد فرقاً بين قولنا دخلت الدار، ودخلت إلى الدار ونقول:

 

أولاً: هذا صحيح في هذا المثال، ولكنه ليس صحيحاً في سائر الموارد، والسبب في ذلك هو أن مادة: (دخل) تختلف عن مادة (هدى). فإن (دخل) لا تقبل إلا نوعاً واحداً من المعنى، وهو الولوج في الشيء. أما كلمة (هدى) فهي قابلة لأكثر من نوع من المعنى، فهناك هداية حسية، وهناك هداية إرشادية الخ .. فهدى الصراط تشير إلى الحسية، وإلى الصراط تشير إلى الإرشادية، فلا يصح قياس الثانية على الأولى.

 

ثانياً: إننا بالرغم مما ذكرناه أنفاً نشعر بوجود فرق بين قولنا: دخلت الدار، ودخلت إلى الدار. فإن قلت: (إلى الدار) فإنك تكون قد لاحظت كيفية الدخول، وآليته، والطريق إليه، ولم تلحظ في قولك: (دخلت الدار) شيئاً من ذلك.

 

الصراط المستقيم:

وقد ورد في العديد من الروايات: أن المقصود بالصراط المستقيم: الإسلام. وفي بعضها: علي بن أبي طالب (عليه السلام). وفي بعضها: الأئمة (عليهم السلام).

 

فلماذا اختلفت الروايات؟ وهل هي متضادة فيما بينها؟

 

الجواب:

إنها غير متضادة، لأننا إذا اهتدينا إلى علي (عليه السلام)، وإلى الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين)، فإننا نهتدي إلى الإسلام. وإذا اهتدينا إلى الإسلام، فإنه يهدينا إلى علي (عليه السلام) والأئمة عليهم السلام، لأن المقصود بعلي هو علي المعصوم والهادي إلى الحق، وليس المقصود هو الرجل المكون من لحم ودم وينشأ من هذا البيان سؤال.

 

وهو أنه لماذا عدل سبحانه عن كلمة الإسلام، أو علي، أو الأئمة إلى كلمة الصراط .. أي لماذا لم يقل: إهدنا إلى الإسلام، مثلاً؟.

 

ونجيب:

أولاً: إن الهدف هو الوصول إلى الله سبحانه، ونيل درجات الزلفى لديه. والإسلام وسيلة للوصول إلى الهدف،وعلي والأئمة (عليهم السلام) هم الإدلاء والهداة، إلى تلك الوسيلة، والمعينون على الوصول. وقد أراد الله سبحانه من عدوله عن التصريح بذلك أن يشعر هذا الإنسان بأن ثمة غاية سامية، وهدفاً مقدساً، لا بد أن يسعى إليه، ويسلك السبل الموصلة، ويتطلب الهداية من الإدلاء عليه.

 

فإذا تحدث عن صراط وطريق، علم أن للطريق نهاية، وللصراط غاية. وعلى الإنسان أن يتساءل عنها، ويبحث ويستدل. فإذا عرف أنها رضا الله سبحانه. فإنه سوف لن يتساهل في جعلها نصب عينيه في كل موقف، وحركة وسلوك.

 

أما كلمة: (الإسلام) أو (الأئمة) أو (علي) فهي لا تدل على ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بل لا بد من التماس البيان من جهات أخرى، وقد لا يخطر على البال طلب بيان من هذا القبيل.

 

ثانياً: إن الله سبحانه أراد أن يشير إلى القيمة السامية لأحكام الإسلام، فإذا شعر الإنسان بأن الإسلام هو الصراط المستقيم، الموصل إلى الله سبحانه، فإن الشعور يعطي المضمون الإسلامي في مجال الممارسة قيمة روحية وإيمانية. ويدفع إلى المزيد من الارتباط الروحي والمعنوي بالإسلام، وإلى المزيد من الإخلاص، والتقدير، والتقديس.

 

إذن، فلا مجال لأن تكون صلاة هذا الإنسان كنقر الغراب، ولا لأن تكون عباداته مجرد طقوس، وحركات خاوية. بل عليه أن يدرك أن الإسلام، والإمام، والأئمة ليسوا هم الهدف المقصود لذاته.وإنما هم وسائل ووسائط عليه أن يستفيد منهم للدلالة والهداية، والمعونة في الوصول إلى الهدف والحصول عليه.

 

إنهم هم الأكثر قدرة على المساعدة في الوصول إلى الأهداف العليا، والغايات السامية. وذلك بما لديهم من معرفة دقيقة وعميقة، ثم بما لهم من قيمة روحية ومعنوية، وبموقعهم المتميز في التكوين الإيماني والعقيدي للإنسان المسلم.

 

ثالثاً: إن ذلك يبعد الإنسان عن ان يتعصب لغير جهة تبرر التعصب المعقول والمقبول. حيث يفهمه أن المطلوب ليس هو التعصب للإسلام، لأنه دين موروث، فإن التعصب للإسلام أي بما هو موروث يكون جريمة كبيرة وعظيمة، وإنما المطلوب هو التعصب للإسلام، لأنه الصراط المستقيم، ولأنه الحق والصدق. وما سواه باطل ومزيف، أو مشوه ومحرف.

 

 

(ال) في الصراط للجنس أو للعهد:

وقد يسأل البعض عن كلمة (ال) في الصراط هل هي للجنس، أو للعهد؟

 

ونقول: إنه لا مبرر لكونها عهدية، لأن العهد إما ذكرى، أو ذهني أو خارجي. ولم يتضح توفر أي من هذه الأمور الثلاثة في هذا المورد. وحتى لو كانت عهدية، فإنه العهد، إنما هو للإسلام، أو الدين الحق. وحين تكون جنسية فذلك أقوى في الدلالة على المقصود، حيث تشير إلى أن طبيعة الصراط المستقيم هي الإيصال إلى الهدف.

 

فيكون المراد: أن الصراط جنس منحصر في فرد، كالشمس، التي هي معنى عام وكلي منحصر في هذا الجرم السماوي المضيء بالنهار وإذا أنحصر الجنس في فرد، فإن كل القلوب والعقول، والأبصار، وحركة اليد في إشاراتها تتوجه إليه مباشرة وإلى خصوصيته، بسبب تفرده وتعينه.

 

وصف الصراط بالمستقيم: لماذا؟

قالوا: إن كلمة (الصراط) تعني الخط الأقرب بين نقطتين. فهو إذن يستبطن الاستقامة. لأن أقرب خط بين نقطتين هو الخط المستقيم وهذا الخط واحد، ولا يمكن التعدد فيه. وهو أيضاً يصلك بالهدف بصورة مباشرة.

 

ولذا، لو افترضنا خطين متوازيين يسيران، فإنهما لن يلتقيا في نقطة وهدف واحد، بل يصل إليه أحدهما دون الآخر. اما في صورة التعرج فقد يصل الخطان إلى الهدف، وقد يكون التخلف عنه منهما معاً، أو من أحدهما.

 

والخطوط المتعرجة تكون:

- أطول.

- وتتعدد.

- وقد لا توصلك إلى الهدف.

 

وقد أشار سبحانه إلى ذلك حين قال: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(8). والخط المستقيم باتجاه هدف إذا انحرف عن الاستقامة، فإنه لن يصل إلى الهدف قطعاً. نعم لو انحرف مرة أخرى فإن كان الانحراف الثاني باتجاه الهدف، فإنه يصل إليه، وإن لم يكن باتجاهه فإنه يحتاج إلى انحراف آخر، وهكذا.

 

فإن كان الصراط يستبطن معنى الاستقامة حقاً، فإن المقصود هنا من كلمة: (المستقيم) هو التأكيد على خصوصية الصراط هذه، وذلك من أجل:

 

- التصريح والتأكيد على أقربيته إلى الهدف بالنسبة لسائر الطرق، بدلاً من الاعتماد على الانتقال من المعنى التركيبي إلى المعنى التجزيئي، الذي يفصل الصفة عن موصوفها ذهناً.

 

- الإشارة إلى قصره، وسرعة الوصول من خلاله إلى درجات القرب والفوز بها.

- الإشارة إلى أنه الطريق الواحد، الذي لا ثاني له.

- الإشارة إلى إيصاله الأكيد، في مقابل غيره مما قد لا يوصل أصلاً.

 

-----------------

1- سورة الرعد / 28.

2- سورة الفاتحة / 6.

3- سورة الفاتحة / 7.

4- سورة المطففين / 14.

5- سورة الصف / 5.

6- سورة محمد / 17.

7- سورة البقرة / 2.

8- سورة الأنعام / 153.