سبب نزول الآيات (82-83-84-85-86) من سورة المائدة

 

﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾

 

سبب النّزول

المهاجرون الأوّل في الإِسلام:

كثير من المفسّرين - ومنهم الطبرسي في "مجمع البيان"، والفخر الرازي، وصاحب "المنار" ينقلون في تفاسيرهم عن المفسّرين السابقين أنّ هذه الآيات قد نزلت بحقّ "النّجاشي" صاحب الحبشة على عهد رسول الله (ص) وأتباعه، وفي تفسير "البرهان" حديث يشرح هذا الموضوع شرحاً وافياً.

 

يمكن تلخيص الرّوايات الإِسلامية والتواريخ وأقوال المفسّرين بهذا الخصوص في مايلي:

في السنوات الاُولى من بعثة رسول الله (ص) ودعوته العامّة كان المسلمون أقلية ضعيفة، وكانت قريش قد تواصت أن تضيق الخناق على مواليها وأتباعها الذين يؤمنون برسول الله (ص)، وعلى هذا فقد أصبح كلّ مسلم واقعاً تحت ضغط عشيرته وقومه يومئذ لم يكن عدد المسلمين يكفي للقيام بجهاد تحرري.

 

ولكي يحافظ رسول الله (ص) على حياة هذه الجماعة القليلة، ويهيىء قاعدة للمسلمين خارج الحجاز، إِختار لهم الحبشة وأمرهم بالهجرة إِليها قائلا: "إِنّ بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد فاخرجوا إِليه حتى يجعل الله عزّ وجلّ للمسلمين فرجاً".

 

كان رسول الله (ص) يقصد النجاشي (النجاشي اسم عام لجميع سلاطين الحبشة، مثل كسرى لملوك إِيران، أمّا النجاشي المعاصر لرسول الله (ص) فهو (أصحمة)، أي العطية والهبة بلغة الأحباش).

 

فهاجر أحد عشر رجلا وأربع نساء من المسلمين إِلى الحبشة بحراً على ظهر سفينة صغيرة استأجروها، كان ذلك في شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة، وقد أُطلق عليها اسم الهجرة الاُولى.

 

ولم يمض على ذلك وقت طويل حتى لحقهم جعفر بن أبي طالب وجمع من المسلمين، فكانوا مع السابقين جمعاً مؤلفاً من 82 رجلا سوى النساء والصبيان، وشكلت هذه المجموعة النواة الاُولى للتجمع الإسلامي المنظم.

 

كان لفكرة هذا الهجرة وقع شديد على عبدة الأصنام، لأنّهم أدركوا جيداً أنّه لن يمضي زمن طويل حتى يكون عليهم أن يواجهوا جمعاً قوياً من المسلمين الذين اعتنفوا الإِسلام - بالتدريج - ديناً لهم في أرض الحبشة حيث الأمن والأمان.

 

فشمروا عن ساعد الجد لإِحباط تلك الفكرة، فاختاروا اثنين من فتيانهم الأذكياء المعروفين بالدهاء والمكر، وهما (عمرو بن العاص) و (عمارة بن الوليد) وحملوهما مختلف الهدايا والتحف إِلى النجاشي ليوغروا صدره على المسلمين فيطردهم من بلاده، وعلى ظهر السفينة التي أقلت هذين إِلى الحبشة سكرا وتخاصما إِلاّ أنّهما - لكي ينفذا المهمّة التي جاءا من أجلها - نزلا إِلى البر الحبشي، وحضرا مجلس النجاشي بكثير من الأبهة، وخاصّة بعد أن اشتريا ضمائر حاشية النجاشي بالكثير من الهدايا والرشاوي، فوعدهم هؤلاء بالوقوف إِلى جانبهما وتأييدها.

بدأ عمرو بن العاص كلامه للنجاشي قائلا: "أيّها الملك، إِنّ قوماً خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا، وصاروا إِليك فردهم إِلينا".

 

ثمّ قدما ما حملاه من هدايا إِلى النجاشي.

 

فوعدهم النجاشي أن يبت بالأمر بعد استجواب ممثلي اللآجئين وبعد التشاور مع حاشيته.

 

وفي يوم آخر عقدت جلسة حافلة حضرتها حاشية النجاشي وجمع من العلماء المسيحيين، وممثل المسلمين جعفر بن أبي طالب، ومبعوثا قريش، وبعد أن استمع النجاشي إِلى أقوال مبعوثي قريش، إِلتفت إِلى جعفر وطلب منه بيان ما لديه.

 

قال جعفر: يا أيّها الملك سلهم، أنحن عبيد لهم؟

 

فقال عمرو: لا، بل أحرار كرام.

 

جعفر: سلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟

 

عمرو: لا، ما لنا عليكم ديون.

 

جعفر: فلكم في أعناقنا دماء تطالبونا بذخول بها؟

 

عمرو: لا.

 

جعفر: فما تريدون منّا؟ أذيتمونا فخرجنا من دياركم، ثمّ قال:

"نعم أيّها الملك خالفناهم بعث الله فينا نبيّاً أمرنا بخلع الأنداد وترك الإِستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصّلاة والزّكاة، وحرّم الظلم والجور وسفك الدّماء بغير حقّها، والزنا والربا والميتة والدّم ولحم الخنزير، وأمرنا بالعدل والإحسان وإِيتاء ذي القربى، ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي".

 

فقال النّجاشي: بهذا بعث الله عيسى، ثمّ قال النجاشي لجعفر:

هل تحفظ ممّا أنزل الله على نبيّك شيئاً؟

 

قال جعفر: نعم، فقرأ سورة مريم، فلمّا بلغ قوله: (وهزي إِليكِ بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا) قال: هذا والله هو الحقّ.

 

فقال عمرو: إِنّه مخالف لنا فردّه إِلينا.

 

فرفع النجاشي يده وضرب بها وجه عمرو وقال: اسكت، والله لئن ذكرته بعد بسوء لأفعلنّ بك وقال: ارجعوا إِلى هذا هديته، وقال لجعفر وأصحابه: إِمكثوا فإِنّكم آمنون.

 

كان لهذا الحدث أثر بالغ بعيد المدى، ففضلا عمّا كان له من أثر إِعلامي عميق في تعريف الإِسلام لجمع من أهل الحبشة، فإنّه شد من عزيمة المسلمين في مكّة وحملهم على الإِطمئنان والثقة بقاعدتهم في الحبشة لإِرسال المسلمين الجدد إِليها، إِلى أن يشتد ساعدهم وتقوى شوكتهم.

 

ومضت سنوات، وهاجر رسول الله (ص) إِلى المدينة، وارتفع شأن الإِسلام، وتمّ التوقيع على صلح الحديبية، وتوجه رسول الله (ص) لفتح خيبر، وفي ذلك اليوم الذي كان فيه المسلمون يكادون يطيرون فرحاً لتحطيمهم أكبر قلعة للأعداء اليهود، فإذا بهم يشهدون من بعيد قدوم جمع من الناس صوبهم، ثمّ ما لبثوا حتى عرفوا أن أُولئك لم يكونوا سوى المهاجرين الأوائل إِلى الحبشة وقد عادوا في ذلك اليوم إِلى أوطانهم بعد أن تحطمت قوى الأعداء الشيطانية، وقويت جذور شجيرة الإِسلام النامية.

 

وإِذ شاهد رسول الله (ص) مهاجري الحبشة، قال قولته التّأريخية: "لا أدري أنا بفتح خيبر أسر أم بقدوم جعفر"؟!

 

يروى أنّ جعفر وأصحابه جاؤوا إِلى رسول الله (ص) ومعهم سبعون رجلا، اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام فيهم بحيراء الراهب، فقرأ عليهم رسول الله (ص) سورة "يس" إِلى آخرها فبكوا حتى سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما اشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل الله فيهم هذه الآيات.

 

وروي عن سعيد بن جبير في سبب نزول الآية أنّ النجاشي أرسل ثلاثين شخصاً من أخلص أتباعه إِلى المدينة لإِظهار حبّه لرسول الله (ص) وللإِسلام، أُولئك هم الذين إِستمعوا إِلى آيات سورة "يس" فأسلموا، فنزلت الآيات المذكورة تقديراً لأُولئك المؤمنين.

 

 (لا يتعارض سبب النّزول هذا مع كون سورة المائدة قد نزلت في أواخر عمر رسول الله (ص) )، إذ أنّ هذا القول يرجع إِلى معظم آيات السورة، وليس ثمّة ما يمنع أن تكون بعض تلك الآيات قد نزلت في حوادث سابقة، ثمّ وضعت - لأسباب - بأمر من رسول الله (ص) في هذه السّورة.