سبب نزول الآية (55) من سورة المائدة

 

﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾

 

اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية فيه، فروى أبو بكر الرازي في كتاب أحكام القرآن على ما حكاه المغربي عنه، والطبري، والرماني، ومجاهد، والسدي: إنها نزلت في علي (ع) حين تصدق بخاتمه وهو راكع، وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) وجميع علماء أهل البيت. وقال الحسن والجبائي: انها نزلت في جميع المؤمنين. وقال قوم نزلت في عبادة بن الصامت في تبرئه من يهود بني قينقاع، وحلفهم إلى رسول الله والمؤمنين. وقال الكلبي نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه لما أسلموا فقطعت اليهود موالاتهم، فنزلت الآية. واعلم إن هذه الآية من الأدلة الواضحة على إمامة أمير المؤمنين (ع) بعد النبي بلا فصل. ووجه الدلالة فيها أنه قد ثبت أن الولي في الآية بمعنى الأولى والأحق. وثبت أيضا أن المعني بقوله " والذين آمنوا " أمير المؤمنين (ع) فإذا ثبت هذان الأصلان دل على إمامته، لان كل من قال: ان معنى الولي في الآية ما ذكرناه قال إنها خاصة فيه. ومن قال باختصاصها به (ع) قال المراد بها الإمامة. فان قيل دلوا أولا على أن الولي يستعمل في اللغة بمعنى الأولى والأحق ثم على أن المراد به في الآية ذلك، ثم دلوا على توجهها إلى أمير المؤمنين (ع) قلنا: الذي يدل على أن الولي يفيد الأولى قول أهل اللغة للسلطان المالك للامر: فلان ولي الأمر قال الكميت:

 

ونعم ولي الأمر بعد وليه * ومنتجع التقوى ونعم المؤدب

 

ويقولون: فلان ولي عهد المسلمين إذا استخلف للامر لأنه أولى بمقام من قبله من غيره وقال النبي صلى الله عليه وآله (أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل) يريد من هو أولى بالعقد عليها. وقال تعالى: " فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب " (1) يعني من يكون أولى بحيازة ميراثي من بني العم. وقال المبرد: الولي والأولى والأحق والمولى بمعنى واحد والامر فيما ذكرناه ظاهر، فاما الذي يدل على أن المراد به في الآية ما ذكرناه هو ان الله تعالى نفى أن يكون لنا ولي غير الله وغير رسوله، والذين آمنوا بلفظة " إنما " ولو كان المراد به الموالاة في الدين لما خص بها المذكورين، لان الموالاة في الدين عامة في المؤمنين كلهم. قال الله تعالى " والمؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " (2) وإنما قلنا: أن لفظة (إنما) تفيد التخصيص، لان القائل، إذا قال إنما لك عندي درهم فهم منه نفي ما زاد عليه، وقام مقام قوله: ليس لك عندي إلا درهم. ولذلك يقولون إنما النحاة المدققون البصريون ويريدون نفي التدقيق عن غيرهم. ومثله قولهم: إنما السخاء سخاء حاتم يريدون نفي السخاء عن غيره، قال الأعشى:

 

ولست بالأكثر منهم حصى * وإنما العزة للكاثر (3)

 

أراد نفي العزة عن من ليس بكاثر. واحتج الأنصار بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (إنما الماء من الماء) في نفي الغسل من غير انزال. وادعى المهاجرون نسخ الخبر، فلولا أن الفريقين فهموا التخصيص لما كان الامر كذلك ولقالوا (إنما) لا تفيد الاختصاص بوجوب الماء من الماء. ويدل أيضا على أن الولاية في الآية مختصة أنه قال: " وليكم " فخاطب به جميع المؤمنين ودخل فيه النبي صلى الله عليه وآله وغيره ثم، قال ورسوله، فاخرج النبي صلى الله عليه وآله من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته، فلما قال " والذين آمنوا " وجب أيضا أن يكون الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية. وإلا. أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه وأدى إلى أن يكون كل واحد منهم ولي نفسه، وذلك محال. وإذا ثبت أن المراد بها في الآية ما ذكرناه، فالذي يدل على أن أمير المؤمنين (ع) هو المخصوص بها أشياء: منها - أن كل من قال: ان معنى الولي في الآية معنى الأحق قال إنه هو المخصوص به. ومن خالف في اختصاص الآية يجعل الآية عامة في المؤمنين وذلك قد أبطلناه. ومنها - ان الطائفتين المختلفتين الشيعة وأصحاب الحديث رووا أن الآية نزلت فيه (عليه السلام) خاصة. ومنها - أن الله تعالى وصف الذين آمنوا بصفات ليست حاصلة إلا فيه، لأنه قال: " والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " فبين أن المعني بالآية هو الذي أتى الزكاة في حال الركوع. وأجمعت الأمة على أنه لم يؤت الزكاة في حال الركوع غير أمير المؤمنين (ع)، وليس لاحد أن يقول: إن قوله " وهم راكعون " ليس هو حالا لـ " يؤتون الزكاة " بل المراد به أن من صفتهم إيتاء الزكاة، لان ذلك خلاف لأهل العربية، لان القائل إذا قال لغيره لقيت فلانا، وهو راكب لم يفهم منه الا لقاؤه له في حال الركوب، ولم يفهم منه أن من شأنه الركوب. وإذا قال: رأيته وهو جالس أو جاءني وهو ماش لم يفهم من ذلك كله إلا موافقة رؤيته في حال الجلوس أو مجيئه ماشيا. وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون حكم الآية مثل ذلك. فان قيل: ما أنكرتم أن يكون الركوع المذكور في الآية المراد به الخضوع كأنه قال يؤتون الزكاة خاضعين متواضعين كما قال الشاعر:

 

ولا تهين الفقير علك أن * تركع يوما والدهر قد رفعه (4)

 

والمراد علك أن تخضع، قلنا الركوع هو التطأطأ المخصوص، وإنما يقال للخضوع ركوعا تشبيها ومجازا، لان فيه ضربا من الانخفاض، يدل على ما قلناه نص أهل اللغة عليه، قال صاحب العين: كل شئ ينكب لوجهه فتمس ركبتيه الأرض أولا تمس بعد أن يطأطئ رأسه فهو راكع قال لبيد:

 

أخبر أخبار القرون التي مضت * أدب كأني كلما قمت راكع (5)

 

وقال ابن دريد: اراكع الذي يكبو على وجهه، ومنه الركوع في الصلاة قال الشاعر:

 

وأفلت حاجب فوق العوالي * على شقاء تركع في الظراب (6)

 

أي تكبوا على وجهها. وإذا كانت الحقيقة ما قلناه، لم يجز حمل الآية على المجاز. فان قيل قوله " الذين آمنوا " لفظ جمع كيف تحملون ذلك على الواحد؟قيل: قد يعبر عن الواحد لفظ الجمع إذا كان معظما عالي الذكر قال تعالى " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " (7) وقال: " رب ارجعون " وقال " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها " (8) ونظائر ذلك كثيرة. وقال: " الذين قال لهم الناس قد جمعوا لكم " (9) ولا خلاف في أن المراد به واحد، وهو نعيم بن مسعود الأشجعي. وقال: " أفيضوا من حيث أفاض الناس " (10) والمراد رسول الله صلى الله عليه وآله وقال " الذين قالوا لاخوانهم وقعودا لو أطاعونا ما قتلوا " (11) نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول. فإذا ثبت استعمال ذلك كان قوله " الذين يقيمون الصلاة " محمولا على الواحد الذي قدمناه. فان قيل: لو كانت الآية تفيد الإمامة لوجب أن يكون ذلك إماما في الحال ولجاز له أن يأمر وينهى ويقوم بما يقوم به الأئمة. قلنا: من أصحابنا من قال: إنه كان إماما في الحال ولكن لم يأمر لوجود النبي صلى الله عليه وآله وكان وجوده مانعا من تصرفه، فلما مضى النبي صلى الله عليه وآله قام بما كان له. ومنهم من قال - وهو الذي نعتمده - أن الآية دلت على فرض طاعته واستحقاقه للإمامة. وهذا كان حاصلا له. وأما التصرف فموقوف على ما بعد الوفاة كما يثبت استحقاق الامر لولي العهد في حياة الامام الذي قبله وإن لم يجز له التصرف في حياته. وكذلك يثبت استحقاق الوصية للوصي وان منع من التصرف وجود الموصي. وكذلك القول في الأئمة وقد استوفينا الكلام على الآية في كتب الإمامة بما لا يحتمل بسطه هاهنا. فان قيل: أليس قد روي أنها نزلت في عبادة بن الصامت أو عبد الله بن سلام وأصحابه؟فما أنكرتم أن يكون المراد بالذين آمنوا هم دون من ذهبتم إليه؟قلنا: أول ما نقوله: إنا دللنا على أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين (ع) بنقل الطائفتين، ولما اعتبرناه من اعتبار الصفة المذكورة في الآية وأنها ليست حاصلة في غيره بطل ما يروى في خلاف ذلك، على أن الذي روي في الخبر من نزولها في عبادة بن الصامت لا ينافي ما قلناه، لان عبادة لما تبرأ من حلف اليهود أعطي ولاية من تضمنته الآية، فأما ما روي من خبر عبد الله بن سلام فبخلاف ما ذهبوا إليه لأنه روي أن عبد الله بن سلام لما أسلم قطعت اليهود حلفه وتبرؤوا منه فاشتد ذلك عليه، وعلى أصحابه فأنزل الله تعالى الآية تسلية لعبد الله ابن سلام وأصحابه وأنه قد عوضهم من محالفة اليهود، ولاية الله وولاية رسوله وولاية الذين آمنوا. والذي يكشف عما قلناه أنه قد روي أنها لما نزلت خرج النبي صلى الله عليه وآله من البيت، فقال لبعض أصحابه (هل أعطى أحد سائلا شيئا فقالوا: نعم يا رسول الله قد أعطى علي بن أبي طالب السائل خاتمه، وهو راكع. فقال النبي صلى الله عليه وآله الله أكبر قد أنزل الله فيه قرآنا) ثم تلا الآية إلى آخرها. وفي ذلك بطلان ما قالوه. وقد استوفينا ما يتعلق بالشبهات المذكورة في الآية في كتاب الاستيفاء وحللناها بغاية ما يمكن، فمن أراده وقف عليه من هناك. فأما الولي بمعنى الناصر فلسنا ندفعه في اللغة لكن لا يجوز أن يكون مرادا في الآية لما بيناه من نفي الاختصاص. وإقامة الصلاة اتهامها بجميع فروضها من قولهم فلان قائم بعمله الذي وليه أي يوفي العمل جميع حقوقه، ومنه قوام الآمر. وفي الآية دلالة على أن العمل القليل لا يفسد الصلاة.


1- سورة مريم آية 4 - 5.

2- سورة التوبة آية 72.

3- اللسان (كثر) والأكثر هنا والكاثر بمعنى العدد الكثير وليس هو للتفضيل.

4- قائله الأضبط بن قريع الأسدي. وهو في اللسان (ركع). وقد مر في موارد كثيرة من هذا الكتاب.

5- اللسان (ركع) وقد مر في 1 / 195.

6- اللسان (ركع) وقد مر في 1 / 195.

7- سورة الحجر آية 9.

8- سورة ألم السجدة آية 13.

9- سورة آل عمران آية 172.

10- سورة البقرة آية 199.

11- سورة آل عمران آية 168.