الاختلاف في فهم القرآن ليس اختلافاً بين آياته

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(1).

 

ألا يُعدُّ اختلاف المفسِّرين مناقضاً لهذه الآية؟ وكيف لا يكونُ في القرآن اختلاف كثير والمفسِّرون مختلفونَ في تفسيره؟!

 

الجواب:

المراد من الإختلاف:

الواضح من الآية المباركة أنَّها بصدد البرهنة على أنَّ القرآن الكريم من عند الله تعالى وليس من صياغة أحدٍ غيره من البشر، والبرهانُ الذي قدَّمته الآيةُ لإثبات هذه الدعوى هو خلوُّه من الاختلاف بين آياته.

 

والمرادُ من الاختلاف المنفي عن آيات الكتاب المجيد هو التناقض بين معاني الآيات بحيث يكون مدلولُ بعض الآيات يقتضي شيئاً ويكون مدلولُ آياتٍ أخرى يقتضي نقيض ذلك الشيء، وكذلك فإنَّ المراد من الاختلاف المنفي هو التفاوت في مستوى آياته من حيث الفصاحة والبلاغة وقوَّة النظم بحيث تكونُ بعض آياته في أعلى درجات الفصاحة والبلاغة والبعض الآخر في أدنى درجات الفصاحة والبلاغة وقوَّة النظم أو انَّ بعضها يكون فصيحاً بليغاً ويكون البعض الآخر ركيكاً مهلهلاً، وكذلك فإنَّ معنى الاختلاف المنفي عن القرآن في الآية المباركة هو عدم التجانس في المنهجيَّة بين آيات القرآن بحيث تكونُ على غير نسَقٍ واحد، كأنْ تقتضي بعضُ آياته الدعوةَ إلى منهاج ويقتضي البعضُ الآخر الدعوة إلى منهاجٍ آخر أو ان تكون معظم آياته مقتضية لمنهجٍ واحد وتشذُّ منه آياتٌ فتكون على غير النهج الذي عليه سائر الآيات.

 

وجه الاستدلال بعدم الإختلاف:

فالاختلافُ بهذا المعنى هو المنفي عن القرآن الكريم، ووجهُ دلالة ذلك على انَّه من عند الله تعالى هو انَّه لا يتَّفق لكتابٍ بحجم القرآن متنوِّعٍ في موضوعاتِه استغرقَ نزوله أكثر من عقدين من الزمن ثم لا يتَّفق وقوع التهافت في بعض فقراتِه من حيثُ المعنى أو المنهج أو التفاوت في مستوى نظْمه من حيث الفصاحة والبلاغة.

 

وها نحن نقف على دواوين الشعراء المتميِّزين فنجد تفاوتاً بيّناً في قصائدهم حتى قيل انَّ الشاعر ليس شاعراً في جميع قصائدِه بل لا يكاد يتَّفق اتحادُ قصيدةٍ واحدة في قوة النظْم ومستوى البلاغة والفصاحة، فنجد انَّ بعض أبيات القصيدة الواحدة يكون أفصح وأبلغ من البعض الآخر بل كثيراً ما نجدُ انَّ بعض أبياتها يكون بليغاً ويكون البعض الآخر ذميماً مُستوحَشاً.

 

وكذلك عندما نقفُ على خُطَب البلغاء ومحاوراتِهم.

 

وأما ما يكتبه الحكماء والمتميِّزون من العلماء فالأمرُ فيه أكثر وضوحاَ، فلا يكاد يتَّفق لعالمٍ أو حكيمٍ واحد أنْ يحتفظ بمجموع أرائه الكثيرة على مدى عقدين من الزمن دون أنْ يطرأ على بعضِها تغيير أو تعديل بل لا يتَّفق ذلك في أقصر من هذا الزمن، فكلُّ عالمٍ يجدُ نفسه في سنته الثانية أكثرَ علماً وفهماً من سنته الأولى وهكذا، ولهذا يطرأ على الكثير من أرائه تغييرٌ أو تنضيج وتطوير.

 

وهكذا الحال عند رجال القانون، فهم مجتمعون يتبانون على منظومةٍ من القوانين يُشيِّدونها ثم يروِّجون لها فلا يلثبون حتى يقفوا على أخطاءٍ فيما قنَّنوا له وقد كانوا يرونها صواباً أو يقفوا على ثغراتٍ فيرون لزوم تداركِها.

 

وأما القرآنُ الكريم والذي نزل نجوماً على مدى أكثر من عقدين من الزمن، فرغم انَّ المعاني التي تصدَّى لبيانها متنوِّعة، فبعضُها يتصل بسُنن التاريخ والبعض الآخر يرتبط بالتشريع على تشعُّبه وسعة تفاصيله، وبعضها تصدَّى لبيان اصول العقائد، وآياتٌ تصدَّت لبيان القيم والفضائل، وتحدَّثت آياتٌ عن حوادثَ وقعت في التاريخ ووصَّفت لأحداثٍ وقعَتْ في عصر النصِّ وكشفت عن مُغيِّبات أخبرت عن وقوعها في مستقبل الأيام أو السنين، فرغم تنوُّع الموضوعات التي تناولتها آياتُ القرآن، ورغم تفاوت الزمن الذي نزلت فيه، ورغم اختلاف الأسباب التي نشأ عنها النزول، ورغم تبايُن الأحوال والظروف، فآياتٌ نزلت والحرب قائمة وأخرى نزلت في ظرف السلم وبعضُها نزلت بعد النصر وبعضُها نزلت بعد الهزيمة ونزلتْ آياتٌ في السفر وأخرى في الحضر وآياتٌ نزلت والنبيُّ (ص) في شِعب أبي طالب محاصرٌ، ونزلت حينما كان طريدًا يقذفُه صبيانُ الطائف بالحجارة، ونزلتْ حينما خرج من مكة شريدًا يتوارى عن أعين المشركين في جحور الجبال، ونزلتْ حينما عاد إليها فاتحًا مظفرَّا.

 

وخاطبت آياتُ القرآن صنوفًا من الناس، ففي آياتٍ كان الخطاب للمشركين وفي آياتٍ كان الخطاب للمؤمنين، وخاطبت آياتٌ أهلَ الكتاب من اليهود والنصارى وخاطبت في مواردَ أخرى المنافقين، وثمّة خطاباتٌ كانت للمترفين والجبَّارين وأخرى كانت للمستضعفين.

 

فرغم كلِّ ذلك التباين في الأحوال والظروف ورغم كلِّ هذا التنوُّع في الموضوعات والخطابات لا نجدُ فيه تفاوتًا في النظم، فلا تقفُ على آيةٍ يصحُّ أن يُؤتى بأحسنَ منها، وأما الشعراء أعني فحولَهم والأدباء المتميِّزين منهم فهم يكتبون ويحذفون، وكلَّما تعاقب الزمن وجدوا أنَّهم لو اختاروا هذا اللفظ في موضعِ اللفظ الذي أثبتوه لكان أولى، وتراهم يستحسنون شيئًا كتبوه ثم يمجُّونه أو يرغبون في أحسنَ منه وقد كانوا بذلوا وسعهم في تنظيمه وتزويقه، وما كان النبيُّ (ص) يقف على ما أُلقي عليه فألقاه فيُسقط لفظًا كان قد أثبته أو يستبدل لفظًا محلَّ لفظٍ آخر رغم أنّ أحوال الصدور كانت متفاوتة وهو ما يقتضي اغتشاش المزاج وانبساطه وذلك ما ينعكس على البيان لو كان قد جاء به من عنده، ورغم تعاقب الزمن وطوله وهو ما يقتضي انصقال القريحة واتِّساع القدرة الإبداعية لا نجدُ النبيَّ (ص) قد وقف على آيةٍ كان قد بلَّغها في صدر الدعوة فاستبدل بعض ألفاظِها أو غيَّر نظمها، فها نحن نجدُ آياتٍ مكيَّة ضُمِّنت في سورٍ مدنيَّة وأخرى مدنيّة ضمِّنت في سورٍ مكيّة، فلا يكاد أحدٌ قادرًا على أن يُميِّز بين مكيِّ الآيات ومدنيّها من حيث قوَّة النظم ورصانة السبْك وجزالة اللفظ، فلا تفاوتَ بين آيةٍ نزلت في صدر الدعوة وأخرى نزلت حين أزِفَ الرحيل.

 

ورغم تعاقب السنين وتباين الأحوال وتراكم التجارب المقتضي كلُّ ذلك لنموِّ العقل وشحذ الذهن وصقل المواهب وتعاظم الاستعداد النفسيِّ والفكريِّ لا نجد تمايزًا في مستوى العرض للمفاهيم والأفكار والمعارف والتشريعات، فهي منظومةٌ متناغمة متجانسة ذاتُ سياقٍ واحد، فليس في ثناياها ما ينقضُ الآخر بل أنَّ بعضَها يقوِّم الآخر بل يقفُ المتدبِّر لآيات القرآن على منظومةٍ عقائديَّة وأخرى قيميَّة وثالثة تشريعيَّة، ومنظومة في سنن التاريخ مفعمةٌ بتوصيفٍ متناهٍ في الدقة لأحوال السابقين من الأنبياء وتجارب الأُمم، ثمّ حين يستعرضُ المتدبِّر كلَّ تلك الدوائر يجدها متداخلة منتظمة في إطارٍ واحد لا ينبو منها شيء ولا يُنافر بعضُها الآخر.

 

رغم أنَّ التباين في الأحوال والتباين في الزمان واختلاف الموضوعات يقتضي التدارك الدائم والتهذيب وإعادة التنظيم والترتيب.

 

فهذا ما تحدَّت به الآيةُ المباركة عموم الناس مجتمعين ومنفردين الحاضرين منهم في زمن النصّ واللاحقين بهم إلى يوم الدين، فهي تُقدِّم القرآن بمجموعِ آياته برهانًا على أنّه من عند الله تعالى، فليس في ميسور أحدٍ أنْ يأتي بكتابٍ في حجم القرآن مشتملٍ على موضوعاتٍ ذاتِ أبعاد مختلفة وجذورٍ متباعدة يكتبُه في أحوالٍ متباينة ومتقلِّبة وحُقبٍ متباعدة ثم لا يَستدركُ على ما كتبه في صفحاته الأولى فلا يشطب شيئًا ممَّا كان قد دوَّنه ولا يُعالج رأيًا كان قد شيّده ببيانٍ يراه أكثر اتقانًا من الأول.

 

وأما النبيُّ (ص) فكان يُلقي على الناس الآيةَ في صدر الدعوة فيحفظونها ويدوِّنونها ثم تمضي الأيام والسنون وتتقلَّب الأحوال فلا يتنظَّر فيها ولا يُعيد صياغتها ولا يستجدُّ عنده ما يدعوه لإسقاطها أو تهذيبها، فلو كان ما قد جاء به مسانخاً لما يأتي به البشر لاقتضى ذلك ان يُضفى على ما جاء به حصائلَ ما أنتجته التراكمات في الخبرة والتجربة إلا انَّ الأمر لم يكن كذلك بل انَّه يضمُّ ما كان قد بلَّغه إلى ما استجدَّ وحيُه فينتظم انتظام حبَّات العِقد الزاهي على جيد فتاة بضِّةٍ ممشوقةِ القِوام فيبدو مجتمعاً ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء﴾(2).

 

فليس في نظمه وقوة بيانه تفاوت، ولا تجدُ تناقضاً في معانيه ومضامين آياته، وقد احتفظ بمنهجيَّةٍ ثبت عليها حتى آخر آيةٍ نزلت.

 

طبيعة الاختلاف بين المفسرين:

وأما الاختلاف بين المفسِّرين فهو اختلافٌ في فهمِهم لآيات القرآن، والآية المباركة لم تنفِ الاختلاف في فهم الآيات وانَّما نفت الاختلاف بين آيات القرآن، وذلك يتبيَّن من ملاحظة تمام الآية المباركة ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾(3) فالضمير في قوله ﴿لَوَجَدُواْ فِيه﴾ راجع إلى القرآن أي لوجدوا في القرآن اختلافاً كثيراً، فهي تنفي الاختلاف عن آيات القرآن، وفرقٌ واضح بين الاختلاف في فهم الآيات والاختلاف بين الآيات، على أنَّه لم يختلف المفسِّرون في قوَّة بيان القرآن وحسن نظامه وانَّه لا تفاوت بين آيات القرآن وأنَّها جميعاً في أعلى درجات الفصاحة والبلاغة، فهم مطبِقون على ذلك، كما انَّ اختلافهم في فهم بعض الآيات لم يكن اختلافاً في انَّ للقرآن منهجيَّة محددة أو متعددة، فهم رغم اختلافهم في فهم بعض الآيات مطبِقون على انَّ القرآن احتفظ بمنهجيةٍ واحدة في كل حقلٍ من حقول المعرفة التي تصدَّى لبيانها أو الدعوةِ إليها، فلن تجد مفسِّراً يرى مثلاً انَّ القرآن دعى للتوحيد وبرهن عليه إلا انَّ بعض آياته شذَّت عن ذلك فاقتضى مفادُها الدعوةَ إلى الشِرْك أو يرى انَّ القرآن دعى للقيم والفضائل وأصَّل لها إلا انَّ بعض آياته تقتضي الدعوة إلى الرذيلة أو يرى انَّه أوضح في الكثير من آياته سُنن التأريخ ونظَّر لها بتاريخ الرسالات إلا انَّه شذَّ في بعض آياته فأنبأ عمَّا يقتضي انتقاض واحدٍ من السنن التأريخيَّة التي أوضحها في آياتٍ أخرى، فالمفسِّرون رغم اختلافهم في فهم بعض آيات القرآن إلا انَّهم مطبِقون على انَّ القرآن احتفظ في كلِّ آياته بمنهجيِّة محدَّدة استقام عليها حتى آخر آيةٍ نزلت.

 

كما انَّهم وإنْ اختلفوا في فهم بعض آيات القرآن إلا انَّ هذا الاختلاف لا يعدو ان يكون اختلافاً في سعةِ مدلول الآية وضيقه أو في مدلولٍ لغوي لهذا اللفظ أو ذاك أو انَّه أراد هذا المعنى أو هو ساكت عنه أو في مصداقيَّة شيءٍ لمفهومٍ أو عدم مصداقيتِه، وكلُّ ذلك لا يؤدي إلى البناء على تناقض مرادات القرآن الكريم.

 

ثم انَّ القرآن الكريم غيرُ معنيٍّ باختلاف أفهام المفسرين الناشئ عادة عن الغفلة أو عدم الإحاطة بأدوات الفهم السليم، ولذلك تجد انَّ هذا المفسِّر قد يعدل عن فهمه حينما يقف على قرينةٍ تفطَّنَ لها غيرُه وغفل هو عنها.

 

على انَّه لا يصحُّ ان يُنسب إلى أحدٍ التناقض في الرأي لمجرَّد اختلاف الآخرين في فهم كلامه خصوصاً إذا كان كلامه يحتمل معنىً لا يقتضي التناقض في الرأي لو كان هو المراد واقعاً.

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- سورة النساء / 82.

2- سورة النور / 35.

3- سورة النساء / 82.