الخلـق والهـدايـة

قال تعالى:

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾.

 

﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾

إننا نعتقد وفقاً لما ورد في الروايات المباركة الواردة عن أهل بيت العصمة (ع) أن ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ جزء وآية من كل سورة(1)، باستثناء سورة (براءة) .. وقد حاولنا تفسير مفردات هذه الآية المباركة، أعني آية ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ في تفسير سورة (الفاتحة)، وقد عرضنا هناك ما لعله يكون مفيداً، ورأيناه سديداً .. ولكي لا يلزم التكرار، فإننا نحيل القارىء الكريم إلى ذلك الكتاب، ملتمسين منه العذر، والعذر عند كرام الناس مقبول إن شاء الله تعالى.

 

ولنشرع في بيان ما فهمناه من سائر آيات سورة ﴿هَلْ أَتَى﴾، فنقول: (هَلْ) للإنكار أو التقرير: تبدأ آيات هذه السورة المباركة بعد آية: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ بقوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾.

 

فبدأ تعالى بكلمة: (هَلْ) فقيل: إن كلمة (هل) هنا بمعنى (قد)، أي قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً .. وذلك قبل أن يخلقه الله .. أو قبل أن تنفخ فيه الروح .. أو حينما كان لا يزال نطفة.

 

وقيل: هي استفهامية، جوابها الإثبات، أي نعم قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً.

 

فلا فرق من حيث النتيجة بين هذا القول وبين سابقه.

 

ونقول: لعل الصحيح هو ذلك وعكسه معاً .. أي أنه بالنسبة لهذه النشأة الإنسانية قد أتى عليه زمان لم يكن شيئاً مذكوراً، كما قال الإمام الحسين عليه السلام في دعاء يوم عرفة: ابتدأتني بنعمك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً، خلقتني من التراب، ثم أسكنتني الأصلاب الخ .. وهو من جهة أخرى مذكور عند الله في جميع نشآته .. أي أن (هل) إستفهامية، لكن المقصود من الاستفهام، الانكار على من يزعم أنه قد أتى على الإنسان زمان لم يكن مذكوراً فيه .. وإظهار أنه قد أخطأ بزعمه هذا .. ويكون نفس الإنكار مؤذناً بالإجابة، فلا يحتاج إلى التصريح بها، أو يقصد به التقرير، وتسجيل الاعتراف ممن يحتمل في حقه الإنكار، أو ممن يكون إقراره حجة على غيره .. فيُسأل هذا السؤال ليقرَّ بالحقيقة، ويقول: لا، لم يأت على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، بل كان مذكوراً في كل حين وزمان.

 

وعلى كل حال، فإن جواب إنكار الإثبات هو النفي، وجواب إنكار النفي هو الإثبات.

 

فالأول: كقوله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(2)؟

فالجواب: لا.

 

وكقوله تعالى: ﴿ءأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأمِّيَ إِلَهَيْنِ ..﴾.

فالجواب: لا، لم أفعل ذلك.

 

والثاني: كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾(3)؟!

فجواب هذا التقرير، -الذي دخلت فيه همزة الاستفهام على النفي بـ (لم)- هو الإثبات، فيقال: بلى، قد جعلت له عينين.

 

ولازم التقرير المبدوء بكلمة (لم) هو الإقرار بما دخل عليه حرف النفي، كما ظهر من قوله في الجواب: نعم جعلت له عينين .. فالنتيجة جاءت عكس ما دخل عليه الاستفهام، فإن دخل على النفي أجيب بالإثبات، وإن دخل على الإثبات أجيب بالنفي.

 

ومعنى الآية: أن هذا الإنسان، منذ بدء وجوده ما زال مذكوراً عند الله، في مختلف مراحل وجوده، من خلال استمرار الرعاية والعطاء الإلهي له .. فهو تعالى لم يزل يرعاه ويربيه، وينميه، ويحافظ عليه، ويسيِّر أموره.

 

فالآية لا تتحدث عن الإنسان قبل أن يُخلق .. حتى يقال: إن كلمة هل: بمعنى قد. أو يقال: إنها استفهام، جوابه الإثبات .. فإنه قبل أن يخلق لم يكن شيئاً أصلاً، فضلاً عن أن يكون شيئاً مذكوراً.

 

هذا بالإضافة إلى أن ذلك لا يختص بهذا الإنسان، بل جميع المخلوقات كذلك. فإن عدم ذكرها إنما هو لعدم وجودها.

إلا أن يقال: إن المراد التذكير بنعمة الخلق والذكر معاً.

 

ونقول في جوابه: إنه كلام لا محصل له، إذ لا معنى لقولك، إنك قبل أن تخلق لم تكن شيئاً مذكوراً. بل اللازم أن يقال: لم تكن شيئاً أصلاً. وهذا معناه أن تصير القضية سالبة بانتفاء موضوعها .. فهو من قبيل قولك: إن لم يكن لك ولد ذكر فلا تختنه، أو فلا تلبسه قميصاً. وهي ليست سوى قضية لفظية صورية من دون أي معنى، وليس لها فائدة، لأن الحديث ليس عن وجود الإنسان التخيلي الافتراضي، بل هو تعالى يريد أن يمتن على هذا الإنسان، ويذكره بنعمه الجليلة، وأياديه الجميلة. وهذا يناسب أن يسأله عن أنه هل مر عليه حين، لم يكن الله سبحانه يمده بالنعم، ويتعاهده بالرعاية .. فيكون الجواب: لا، بل الإنسان دائماً محل العناية والرعاية الإلهية.

 

هل البسيطة وهل المركبة:

وقد بدأت السورة بصيغة سؤال: ﴿هَلْ أَتَى﴾ .. والسؤال يثير في الإنسان، الرغبة في المتابعة والمراقبة الدقيقة. فإذا كان السؤال موجهاً إليه مباشرة، فإن ذلك سيزيده تحفزاً، ويقظة، وتنبهاً، وسيجعله أمام مسؤولية لا بد من التصدي لها. ويتأكد الاهتمام بالسؤال إذا كان السائل هو الله، الخالق، العالم بالسر وما يخفى، لأنه يعلم أنه ليس استفهاماً حقيقياً، بل إما تقريري أو إنكاري، فبأي شيء يطلب منه أن يقر أمام الله؟ وأي شيء ينكره الله عليه، ويريد ردعه عنه؟

 

وماذا يريد الله سبحانه من وراء هذا التقرير، أو ذلك الإنكار؟! .. لماذا اختار كلمة: (أَتَى)؟:

 

وقد يسأل سائل: لماذا قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ﴾ ولم يقل: هل مر على الإنسان.

 

ونجيب:

أولاً: إن كلمة: ﴿هَلْ أَتَى﴾ تشير إلى أن السؤال إنما هو عن الإنسان، أو عن الشيء الموجود والثابت، وأنه هل أتى عليه في الماضي البعيد والمستمر حتى ساعتنا هذه، لحظةٌ أو زمان لم يكن شيئاً مذكوراً؟!.

 

فكلمة ﴿أَتَى﴾ تشير إلى هذا التحول المستمر آناً فآناً، من السابق إلى اللاحق، مع وجود الإنسان في جميع هذه الآنات.

 

ولو أنه قال: هل مر على الإنسان. فإن مفاده أن ما جعل موضوعاً للكلام قد مر عليه هذا الأمر، ولكن هل هذا الموضوع -وهو الإنسان- موجود الآن، أو ليس بموجود، بل هو قد زال وانقضى، فهذا ما لا يدل عليه الكلام، فالقدر المتيقن هو مرور هذا الأمر على الشيء الذي جعل موضوعاً في الكلام في وقت سابق .. ولكنك إذا بدلت كلمة: (مرّ)، بكلمة (أتى)، فإن الكلام يدل على ثبات ووجود هذا الإنسان في جميع الآنات التي تسأل عنها، فهو نظير قولك فلان أتى عليه مئة سنة، فالحديث عنه إنما هو في حال كونه لا يزال موجوداً، وحياً يرزق.

 

ثانياً: إنك حين تأتي بالاسم الظاهر، وتجعله محوراً للكلام، فلا بد أن تأتي بضميره الآتي بعده بصيغة الغائب. فلاحظ قوله: ﴿لَمْ يَكُنْ﴾ و﴿نَبْتَلِيهِ﴾ و﴿هَدَيْنَاهُ﴾ فهذه الغيبة في مقام الذكر والخطاب، قد توحي للإنسان الغافل بتوافق الخصوصية اللفظية، وهي الغيبة عن مقام الخطاب والذكر، مع الخصوصية الخارجية، وهي الغيبة في الواقع.

 

فاذا جاء التعبير بكلمة (مر)، فقد يتأكد هذا الإيحاء الذي ظهر في الأمرين السابقين أيضاً لدى الإنسان الغافل، الذي قد ينساق مع هذا التخيل ليفهم الكلام على أنه حديث عن مخلوق سابق.. أما كلمة ﴿أَتَى﴾، فقد أزالت كل شبهة في ذلك، وأفهمت: أن موضوع الحديث هو طبيعي هذا الموجود في كل زمان. وليس الحديث عن إنسان مضى.

 

ثالثاً: ولنفرض أن المراد الحديث عن فترة ما قبل خلق الإنسان .. فذلك لا يفرض أن يكون المراد بـ ﴿هَلْ﴾ هو الإثبات .. أو التقرير الذي جوابه الإثبات .. إذ إنه حتى قبل أن يوجد الإنسان، فإنه كان مذكوراً عند الله مذ كان في علمه تعالى. فكل هذا الوجود، بما فيه، قد خلق من أجله، وليكون في خدمته .. وقد خلق الله روح النبي (ص)، وأرواح أهل بيته (ع)، وجعلهم بعرشه محدقين، وأشهدهم خلق كل شيء .. ثم أرسل الأنبياء من لدن آدم (ع) وإلى الخاتم (ص) من أجل هذا الإنسان، وليكونوا له نموذجاً وقادة، وهداة، وأسوة، وقدوة، وأنزل الكتب السماوية، وفرض تعلم العلم، وأوجب تعليمه، ليكون ذلك للبشر منار هداية، وسبيل نجاة .. ثم إنه حين يقترب وقت إفاضة الوجود الفعلي على الإنسان، ليكون حياً، مدركاً، فاعلاً، مختاراً، فإنك تجد أوامر الله تلاحقه، وترشده إلى أن يختار والدته الصالحة من أفضل الأصول، وأطهرها، ويرشده أيضاً إلى كل ما يسهم في إبعاد الأبوين عن كل ما من شأنه أن يلحق أي ضرر في النطفة في ابتداء تكوينه .. ويبين له حتى حالات المقاربة الصحيحة، التي تنتهي بزرع نطفته في رحم أمه، حيث يحرص على منع أبويه مما له أدنى تأثير على روحه، ونفسه وجسده، حتى في احتمالاته البعيدة .. فراجع آداب العلاقة بين الزوجين في توجيهات النبي (ص) والأئمة (ع)، حتى قبل أن تتكون نطفته، وبعد تكوينها، ثم صيرورته علقة، ثم مضغة، إلى آخر مسيرته في عالم الجنينية، ثم ولادته، وتربيته، ورعايته التامة إلى أن يموت .. إنه في هذه المراحل كلها موضع رعاية الله سبحانه وعنايته، وهو مذكور عنده، ويفهمه أن بناء الكون، وتسييره وتدبيره، يجري وفق الضوابط التي تهيء أفضل المناخات، لإيصاله إلى درجات الفوز والسعادة .. وذلك يعرفنا بعمق معنى قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾.

 

﴿عَلَى الإِنْسَانِ﴾

والتعبير بكلمة: ﴿عَلَى﴾ يشير إلى أن الزمان شيء عارض على الذات الإنسانية، وأن له ملابسة لهذه الذات، متصرم عنها .. ولكن، هل يريد -فقط- أن يفهمنا مجرد ملابسة الزمن للموجودات المادية، وعروضه لها، وارتباطها به؟! أم أن هناك حقيقة أهم وأعظم، يريد لفت النظر إليها؟! .. الحق هو هذا الأخير، فإنه جعل محور الكلام هو الإنسان المستمر في وجوده من الماضي إلى الحاضر، وجعل الإنسان الموضوع لكلامه أيضاً وليس البشر -ربما- ليفيد أنه لا يقصر نظره على وجوده الجسماني المادي. بل هو ينظر إليه، بما له من خصائص إنسانية، من روح ونفس، وبما له من مشاعر، وقوى، وملكات، وأحاسيس.

 

إنه يريد أن يفهمنا: أن بقاء هذا الإنسان الباقي والمستمر، الذي يذكره الله بالنعم، ليس بسبب وجود طاقة البقاء في داخل ذاته وحقيقته، وذلك لأنه موجود ملابس للزمان، والزمان مهيمن عليه، وهو يفرض عليه التصرم والزوال، فحدوثه المتجدد إنما هو من خلال محدثه وموجده، وهو الله سبحانه .. وبذلك يتضح لنا السبب في أنه لم يعبر بكلمة بشر، الذي يمر عبر مراحل: فيكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم يكسو الله العظام لحماً. بل عبر بكلمة إنسان! حيث تبدأ مرحلة أخرى أرقى من هذه المراحل كلها، قد عبر الله عنها بقوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقَاً آَخَرَ﴾ .. وهي مرحلة نفخ الروح التي تؤهله لأن يجد خصائصه الإنسانية وفقاً للسنن الإلهية في ذلك.

 

وبذلك يتضح أيضاً لماذا أدخل الزمان في الحديث عن حياة الإنسان، فإنه مفيد في بيان هيمنته وتأثيره في واقعه الإنساني.

 

﴿الإِنْسَانِ﴾

إن الإنسان بما هو إنسان، موضع عنايته تعالى، وليس الحديث عن حالات أفراده: كزيد، وبكر، من كبر وصغر، ولا عما يطرأ عليه من موت أو حياة، ونحو ذلك.

 

وهذا معناه: أن الكلام الوارد يصدق على من خُلِقَ حين نزول الآيات، وعلى غيره.

 

أما الآية الثانية، وهي قوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾، فقد لاحظت الخصوصيات الفردية في الإنسان .. فإنه هو الذي يُخْلَق، ويكون نطفة، وتمر بمراحل، وهو الذي يصير له سمع وبصر، وتمييز، وغير ذلك.

 

ولأجل هذا الاختلاف، كان لابد من تكرار كلمة الإنسان في الآيتين، فلم يقل (خلقناه) .. سؤال .. وجوابه: وقد يقال: لماذا لا نقول: إن الحديث القرآني جارٍ وفق مصطلحات العرفاء في معنى الإنسان .. ويجاب: بأن ذلك لا يصح، فقد قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاًً..﴾(4)، وقال: ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾(5)، أي أنه تعالى يتحدث بلغة البشر بما هم بشر، فرضت حاجاتهم عليهم لغة يتخاطبون بها، لا بمصطلحات وضعها أرباب هذا العلم أو ذاك. وإلا، فإن ذلك السؤال يستتبع سؤالاً آخر هو: لماذا لا يتحدث الله تعالى بمصطلحات الفلاسفة، أو المتكلمين، أو الفقهاء، أو أي علم آخر؟! .. على أن اللغة إنما يحتاجها الناس من حيث هم بشر .. وهي موضوعة في الأصل لمعانٍ حسية، أو قريبة من الحسّ .. وهي المعاني التي نعرفها بآثارها، كالكرم والشجاعة والعدالة، والحسد .. والعقل .. والغضب والفرح وما إلى ذلك .. وهناك معانٍ أبعد من هذه، وهي نتاج تفكير عميق، ودقة ملاحظة، فيحتاج للتعبير عنها إلى التوسل ببعض التراكيب، أو إلى بعض المجازات، أو الكنايات .. وفي كليهما استعمل الله تعالى مصطلحات الإنسان بما هو إنسان .. لا الأصولي، ولا النحوي، ولا الفيلسوف .. ولأجل ذلك تجد أن المجازات والأمثال ونحوها موجودة لدى البشر جميعاً. وهي شديدة التقارب. لكونها تعبر عن حالاته البشرية والفطرية.

 

كما أنك حين تريد أن تخاطب الناس، فلا بد أن تخاطبهم باللغة التي تفرضها فطرتهم وإنسانيتهم، ولا تخاطبهم بلغة فئة خاصة، قد لا يعرف الكثيرون عن مصطلحاتها الشيء الكثير، فلا مجال لمخاطبتهم بلغة أهل العرفان مثلاً، أو أية فئة خاصة أخرى .. ولأجل ذلك، كانت اللغة المعتمدة هي اللغة العامة التي تعتبر من المشتركات الإنسانية، ما دامت تعتمد الألفاظ المعبرة عن المعاني الفطرية..وقد أراد الإسلام أن تكون لغته هي ذلك المشترك الإنساني العام، فاختار اللغة العربية، لتكون لغة الصلاة، والتسبيح، والقرآن، وغير ذلك .. لأن الإنساني هو اللغة وليس هو المصطلح، ولأجل ذلك تشابهت المجازات، والأمثال، والاستعارات، حتى كأنك تظن أنها أخذت من لغتك، والحقيقة هي أنها إنما كانت كذلك، لأنها نتاج حركة الفطرة، والعقل، والمشاعر في الحياة، وهذه الأشياء واحدة لدى البشر جميعاً، فجاءت المعاني متشابهة، وإن اختلفت الحروف، والأصوات التي اختيرت لحمل تلك المعاني .. لأن اللغة بمعنى الحروف والأصوات قد فرضت على الإنسان في مرحلة اللاوعي، أما المعاني فليست كذلك.

 

ولأجل ذلك تجد أن الكل يصف الشجاع بأنه أسد .. ويكني عن الكثرة بالبحر، وعن السعة بالصحراء .. والخ .. وإن اختلفت الحروف التي عبرت عن الأسد، وعن البحر، من لغة إلى أخرى.

 

عودة إلى كلمة الإِنْسَانَ

ونعود لتوضيح ما نرمي إليه هنا، فنقول: لو أن كلمة ﴿الإِنْسَانَ﴾ في الآية استبدلت بكلمة (البشر) لانصرف الذهن إلى الإنسان المتجسد في الأفراد، كزيد، وبكر، ولدخل في وهم السامع: أن الحديث هو عن هذا الوجود المادي للإنسان. فهو من حيث جسميته له بشرة بادية .. ولا بد أن يتحصص ويتشخص في مكان، ويتقيد بزمان.. ولا بد أن له حالات وأطواراً، من قيام وقعود، وصحة ومرض.. وكبر وصغر، ولحم، ودم، وعظم، وعضلات، ويشبع، ويجوع .. فيمكن أن يكون الحديث عن بشريته، بمعنى تكوين جسمه، وعن عوارض الأمراض، وعن خريطة عروقه وشرايينه، وعن عظامه، وحالاتها وأمراضها، أو عن كونه حياً، له روح، ونفس، ومشاعر، وأحاسيس. فما هي حقيقة تلك الروح أو النفس، وما هي حالاتها، وكيف تتأثر وتؤثر.. إلخ. أو عن مدى تأثيره بغيره، أو عن علاقته بربه، وبمجتمعه ومحيطه، ونشاطه السياسي، وعلاقاته الاجتماعية، أو عن النظم والأجهزة، والمؤسسات، والسياسات التي يحتاجها .. أو عن مكوناته الإنسانية، بما له من ملكات، ومزايا، كالشجاعة، والكرم، والعدالة، وغير ذلك.

 

مع أن ذلك كله ليس هو محط النظر الأساس في هذه الآية المباركة، وإن كان غير بعيد عن أجواء الحديث، بل المقصود هو تناول طبيعة الإنسان، وحقيقته، بما له من مزايا إنسانية .. من دون أي تركيز على خصوصية بعينها من كل ذلك الذي ذكرناه أنفاً، أي أن السؤال هو عن الإنسان مطلقاً في أي مرتبة من مراتب وجوده، وفي أية حالة كان، وبأية صفة اتصف، وعلى أي مزية حصل .. لا من حيث كونه موجوداً مادياً وحسب، بل من حيث كونه حاصلاً على مزاياه الإنسانية كلها، أو في طور الحصول عليها كلها، أو بعضها، في أي مستوى كانت تلك الميزات. ومن دون أن يتوقف عند أي من مراتب كل تلك المزايا والحالات .. فهو بما أنه موجود إنساني، مورد الاهتمام، لا بما هو موجود مادي، فخصائصه الإنسانية محل رعاية الله سبحانه .. فهو إذن مقصود ومرعي، في أية حالة، ومع كل مزية، في حال فقده لها، وفي حال حصوله عليها على حد سواء.

 

أما الإنسان في الآية التالية، فيقصد به ذلك المعنى الأول، أي من حيث هو بشر، ولذلك أعاد التصريح بكلمة ﴿الإِنْسَان﴾، ولم يكتف بذكره بواسطة إرجاع ضميره إليه .. الإنسان في أحسن تقويم: وقد قال تعالى في آية أخرى: ﴿نَذِيراً لِلْبَشَرِ﴾(6) ولم يقل: نذيراً للإنسان، لأنه لا يستحق وسام الاستحقاق الإنساني ما لم يستجب للنذير، وللهداية الإلهية، إذ بدون ذلك يكون كالأنعام، بل أضل سبيلاً، إذ إن: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا﴾(7)، أي لا يدركون بها المعاني الواقعية. ولا يتفاعلون معها بالمشاعر القلبية، من خوف ورجاء، ونحو ذلك.

 

و﴿لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا﴾(8) لأن المطلوب هو النفوذ إلى الأسرار والحقائق، لا النظرة المادية السطحية.

 

فهم إذن فاقدون لما يستحقون به وصف الإنسانية الذي أعلن عنه في سورة التين، حين قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ / ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ / إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾(9).

 

وفي سورة العصر: ﴿وَالْعَصْرِ / إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(10).

 

فالإنسان الذي يجمع صفات الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، وبالصبر، يبقى على صفة الكمال الإنساني، ولا يخسر شيئاً منه، ويبقى في أحسن تقويم، ولا يرِد إلى أسفل سافلين.

 

وفي هذه السورة أيضاً، أعني سورة ﴿هَلْ أَتَى﴾: قد جعل الله الإنسان سميعاً بصيراً، فإذا فقد هذه السميعية والبصيرية، وأصبح له عينان لا يبصر بهما، وأذنان لا يسمع بهما، بسبب كفره، فإنه يحجب عن نفسه نور الهدى، وفقاً للسنّة الإلهية القائمة في البشر.

 

﴿كَلاَ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(11).

﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾(12).

 

﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾(13).

﴿إِنْ هُمْ إِلاَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾(14).

 

﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ / إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾(15).

 

نعم، إن ذلك كله يُعطي أن الله سبحانه قد أفاض على الإنسان وجوداً إنسانياً كامل الخصائص والمزايا. لكنّ الإنسان هو الذي ينحطُّ عن درجات إنسانيته وعن تقويمه الأحسن، ويبدأ بخسران مزاياه، وخصائصه الإنسانية، بسبب أعماله بالتدريج. وقد ينتهي به الأمر إلى أن يخسرها جميعها، فيصبح كالأنعام، بل أضل.

 

أما المؤمن الصالح، فهو يحفظ ذلك كله بكل وجوده، ولا يفرط فيه، رغم كل ما يواجهه من مصاعب وأخطار .. ولو أنّه أخفق في بعض الحالات، فإنّه سيحاول أن يستعيد ما فقده، ويرمّم ما خرّبه، ويسد الثغرة والخلل العارض بسبب تلك النزوة العارضة.

 

ولعل هذا هو الذي عناه الله بكلمة: (الإِنْسَانِ) في قوله: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ..﴾ .. وبيّن أنّه حين يتعرّض للنشوء وللوجود .. فإنه سيكون في جميع مراحل وجوده، وفي كل مستويات نشأته وحالاتها، مذكوراً عند الله سبحانه، ومحلاً لألطافه وعناياته.

 

﴿حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ..﴾

وقد يسأل سائل: لمَ لم يقل: هل أتى على الإنسان حين، أو وقت، لم يكن شيئاً مذكوراً؟!. فما هو وجه الحاجة لكلمة: (مِنَ الدَّهْرِ) يا ترى؟!

 

ويمكن أن يُجاب: بأن الحين هو الآن والجزء الزمني الصغير، والدهر هو مجموع تلك الأجزاء واللحظات الزمنية الممتدة والمستمرة في التعاقب والتكثّر والامتداد. فكلمة الدهر تشمل أجزاء وآنات الزمان السابق والحاضر، واللاحق. وقد أريد في الآية الاستفهام عن كل الآنات التي كان للإنسان -بما هو إنسان- حضور فيها، ويلاحظها المجيب في إجابته جزءاً بعد جزء، وآناً بعد آن.

 

وما ذلك إلا لأن الإنسان إنما يبدأ بالشعور والإدراك الفعلي منذ ولادته، وربما قبل ذلك، حيث يطوي مراحل استعداده لهذه الولادة ويستمر هذا الشعور إلى حين موته .. حيث تبدأ حياته البرزخية .. غاية الأمر: أن شعوره -بعد اكتمال وتبلور خصائصه- بما هو خارج دائرة ما بين الولادة والوفاة يبقى غير واضح المعالم له، بل هو أقرب إلى التخيل والافتراض منهُ إلى الإحساس الحقيقي، والرؤية الواضحة .. مع أن مراتب وجوده ومراحله قد تكون أبعد من ذلك بكثير .. مع استثناء أولئك الصفوة الذين كان ابتداء خلق أرواحهم وحلولها في الأشباح قبل خلق الخلق، بدهور، وهم أهل البيت (ع) .. وقد كانوا مورد العناية الإلهية في كل تلك الدهور.

 

فالتصريح في الآية المباركة بكلمة ﴿مِنَ الدَّهْر﴾ يراد به التأكيد على رؤية حركة الإنسان في عامود الزمان المستمر في الامتداد والجريان، لاستغراق آناته كلها.. لكي لا يخيل للإنسان: اقتصار الرعاية الإلهية على فترة نشأته المادية الفعلية، بل هي رعاية شاملة لكل عوالمه التي مرّ فيها، ولجميع منازله، ومراتبه الوجودية، حتى حينما كان لا يزال في علم الله، ثم ما تلى ذلك من انتقاله من عالم إلى عالم، ومن منزلة إلى أخرى، وسيستمر ذلك إلى أن يستقر في الدار الآخرة.

 

واللافت: أن الإنسان إنما ينظر إلى إحدى مراتب وجوده، والتي هي الحياة الدنيا، وبها يشعر، ولا يلتفت إلى امتدادات وجوده الإنساني، التي قد تكون أهم، وأثبت، وأسمى، وأرسخ فـ ﴿إِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ وفيها يكشف الغطاء، ويصبح البصر حديداً.

 

﴿شَيْئًا﴾

وقد كان يمكن أن يقول: (لَمْ يَكُنْ مَذْكُوراً)، ولكنه تعالى أراد بهذا الاستفهام التقريري أو الإنكاري، أن يثبت الذكر للإنسان أو ينفيه عنه بما هو شيء. وشيئيته تساوق تشبثه بالوجود الخارجي، في بعض أطواره، وأدواره.. وبذلك يكون الحديث عن شيء واقع .. وليس حديثاً عن أمر افتراضي، كالسالبة بانتفاء الموضوع التي لا فائدة منها ولا عائدة، حسبما أسلفناه .. ولا هو حديث عن بعض مراتب الوجود التي لا ترتبط بشيئيته ولا بتحققه في الواقع الخارجي العيني .. بل تكون نسبتها إليه نسبة عرضية، مجازية، لا حقيقية .. كالوجود اللفظي، والكتبي، والذهني، فإن ذكر الإنسان على هذا النحو في هذه الأدوار، ليس ذكراً حقيقياً له، وليس ذلك من الأمور التي يصح امتنان الله سبحانه بها عليه، كما هو سياق الآيات الكريمة.

 

﴿مَّذْكُورًا﴾

هل المراد: بالذكر هو أن يخبر عنه ويذكره أمام الآخرين؟ .. أو المراد: كونه ذا قيمة وله أهمية في نفسه؟.

 

أو المراد بذكره الاهتمام بشأنه .. بشكل دائم ومستمر؟!. بغض النظر عن كونه ذا قيمة في نفسه، أو غير ذي قيمة!

 

ظاهر الآيات أن المراد هو الاهتمام بشأنه ورعايته، بما يتناسب مع شأنه وحاله، ومقامه، ويتناسب مع شأن الذاكر، من كيفيات الذكر ومفرداته ومستوياته .. لأن مجرد ذكر الإنسان في المحافل، ليس مما يصح الامتنان به من رب العالمين، ما لم يكن من الثناء الجميل المظهر لميزاته من حيث هو مؤمن .. كما ورد في الدعاء: (وكم من ثناء جميل لست أهلاً له نشرته) .. إذ إن أهل السوء والانحراف ليس فيهم ما يصلح للثناء .. كما أن كون هذا الشيء ذا قيمة ليس مما يمتن به، إلا إذا كان له دور ووظيفة يؤديها، فتتحدد قيمته وأهميته من خلال ذلك، فإن الذهب مثلاً، إذا لم يكن له مورد يستفاد فيه منه، فإنه لا ينفع ولا يجدي، ولا يصح الامتنان بوجوده على أحد.

 

فالامتنان من الله إنما يناسب حالة الاهتمام والاعتناء بشأنه، ورفده بالعطايا والنعم التي يحتاجها.

 

ومجرد ذكر الشيء في المجالس، لا يلازم الاهتمام، والعناية والرعاية .. لأن الاهتمام قد يتعلق بفرضية لا وجود لها، يراد لها أن تتحقق، فيسعى الإنسان لتحديد حدودها، والارتقاء بها بيانياً إلى حيث تصبح قابلة للتلمس لمجرد حب المعرفة، والاكتشاف، ولو لم يكن لها أية قيمة أو شأن يذكر عنده .. وقد يهتم بشيء موجود، لكنه غير واضح المعالم، فيسعى لتحديد معالمه، ومشخصاته، ومعرفة مواصفاته، لكي يخرجه من حالة الغموض ولأجل أن يحسن التحرز منه، والتوقي من مخاطره .. وكلا هذين الأمرين لا يصح نسبتهما في هذا المورد بالذات إلى الله سبحانه.

 

فينحصر الأمر بأن يكون المراد بالذكر في الآية هو متابعة رعاية واقع الشيء بكل خصائصه ومزاياه، وكمالاته الوجودية، فذكره ليس بالسعي لتوضيح، معالمه، ووضع حدود وجوده .. بل برعايته وبجعله شيئاً له أهلية الرقي المستمر والحضور الدائم .. وذلك إنما يكون بإفاضة كل ما يحتاج إليه من مزايا وكمالات وألطاف تناسب وجوده.

 

الامتنان الإلهي .. هداية، ورعاية.

ولعلك تقول: لقد نهى الله عن المن على الآخرين، فقال: ﴿وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ..﴾(16)، وقال: ﴿ قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ﴾(17) .. ثم يقول: ﴿ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ﴾. فكيف ينهاهم سبحانه عن المنّ، ثم يمنّ هو عليهم؟! .. ونقول في الجواب: بما أن الله سبحانه هو الرب الهادي، وهو الخالق والمالك، والمنعم المتفضل، فامتنانه تعالى كمال، وهداية، ورعاية، وربوبية.

 

وأما امتنان الناس على غيرهم، فهو نقص، وعجز، وهوان .. وذلك لأن امتنانه تعالى علينا لم يرد في سياق الادعاء، ولا هو بهدف التحقير والإذلال. كما أنه ليس ناشئاً عن عجب أو رياء، أو غرور، أو أي عيب آخر .. كما هو الحال في الامتنان الصادر عن البشر.

 

وإنما الامتنان منه تعالى قد جاء ليعيد الإنسان إلى حالة التوازن، ويفتح عينيه على واقعه، وهو للتذكير بالنعمة على سبيل إظهار حيثيات رفع الحاجة وسد الخلل بها، من مصدر التفضّل والعطاء. فهو جارٍ في سياق تعريف الإنسان بنفسه، وبخالقه، بهدف سوقه نحو الكمال.

 

فالامتنان إنما هو بداعي اللطف به، ومن منطلق الحب، والرعاية والهداية، والتربية له، والإحسان إليه، فهو نعمة أخرى له عليه، لا بدّ للإنسان من شكره عليها.

 

إنه بهذا الامتنان يذكره بعجزه، ونقِيصته، وحاجته .. ليضعه على الطريق الصحيح، حيث يشعر بعجزه أمام قدرته تعالى وبضعفه أمام قوته تعالى، وبفقره أمام غناه، وبجهله أمام علمه، وبنقصه أمام كماله.

 

فيبعده بذلك عن حالة العجب، والرياء والغرور، ليكون بذلك أبعد عن الشرك، الذي هو أخفى فيه من دبيب النمل، كما جاء في الروايات الشريفة .. لأنَّ هذه العاهات: العجب والرياء والغرور، تجعله يشعر باستغنائه عن الله تعالى، وتدفع به إلى الاعتقاد بأن ما لديه من خصائص ومزايا وكمالات، إنما هو من الأمور الذاتية له، تماماً كما قال قارون: ﴿إِنَّمَا أوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾(18). فهو يشعر أنه ليس بحاجة إلى الله سبحانه، لأن لديه القدرات التي تمكِّنه من التأثير في الأشياء. فلماذا يخضع لله، ويجهد نفسه في عبادته، ويآخذ نفسه بتنفيذ أوامره ونواهيه؟!

 

ولا شك في أن هذه حالة من الشرك الكامن في عمق ذاته، وهي من أهم أسباب رده إلى أسفل سافلين، وأن يكون في خُسر مستمر .. فالامتنان من الله هداية وتفضّل يعيد الإنسان إلى الارتباط بمصدر الفيض الحقيقي .. فيصحو بعد غفلة، ويعلمه بضعفه بعد جهل، ويوحّد الله بعد شرك .. ويؤمن به بعد كفر. ويتجه نحو شكر الله سبحانه بعد كفران، ونحو عبادته بما يستحقه سبحانه، بعد تمرد وعصيان .. ويتوسل إليه بأحب الخلق إليه، ولله الحجة البالغة في كل حين وزمان .. وصدق الله العلي العظيم حيث يقول: ﴿ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ﴾.

 

المصدر:

تفسير سورة ﴿هَلْ أَتَى﴾.

 


1- وقد ذكرنا بحثاً وافياً بيناً حول هذا الموضوع في كتابنا حقائق هامة حول القرآن ص382 حتى ص389.

2- سورة الزمر / 9.

3- سورة البلد / 8.

4- سورة يوسف / 2.

5- سورة الشعراء / 192.

6- سورة المدثر / 36.

7- سورة الأعراف / 179.

8- سورة الأعراف / 179.

9- سورة التين / 4-6.

10- سورة العصر.

11- سورة المطففين / 14.

12- سورة البقرة / 7.

13- سورة البقرة / 18.

14- سورة الفرقان / 44.

15- سورة التين / 5-6.

16- سورة المدثر / 6.

17- سورة الحجرات / 17.

18- سورة القصص / 78.