الإمامة بالاصطفاءِ لا بالوراثة

المسألة:

لماذا كانت الإمامةُ في أئمة أهل البيت (ﻉ) بالوراثة؟

 

الجواب:

إمامة أئمة أهل البيت (ﻉ) ليست بالوراثة وإنَّما هي بالاصطفاء من الله جلَّ وعلا، ولذلك فهي ليست ثابتة لكلِّ من انتسب للرسول الكريم (ص) فالكثيرُ ممن ينتسب إلى الرسول (ص) وينحدر من سُلالة عليٍّ (ع) وفاطمة (ع‌) لم يكونوا من الأئمة (ﻉ).

 

نعم اقتضت إرادةُ الله تعالى أنْ يجعل الإمامة في رجالٍ من أهل بيت النبيِّ (ص) كما أفاد ذلك في محكم كتابه: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(1).

 

وأمَّا لماذا وقع اختيارُه تعالى على خصوص أهلِ بيتِ النبيِّ (ص) دون غيرِهم من المسلمين فتلك هي مشيئتُه وذلك هو أمره جلَّ وعلا والذي لا رادَّ له فهو ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(2) فهو قد اختار محمَّداً (ص) نبيَّاً واصطفاه بالرسالة دون سائر خلقِه، ومِن قبلِه اختارَ أنبياءَ ومرسلين واختارَ لهم أوصياء.

 

يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(3) ويقول تعالى: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾(4) ويقول تعالى مُخاطباً موسى (ع): ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾(5) وفي آيةٍ أخرى: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾(6).

 

فهو تعالى خَلَق الخلقَ وهو الأعلمُ بما يُصلحهم والأعلمُ بما يتميَّز به بعضُهم عن بعض، وفعلُه وتدبيرُه شأْنَ خلقِه لا يصدر إلا عن حكمةٍ بالغة قد يُفصح عن وجهٍ منها وقد تقتضي عنايتُه إخفاءها.

 

ثم إنَّ الإمامة والرسالة في بيوتات الأنبياء أمرٌ قد سبَقَ وقوعُه كثيراً في تاريخ الرسالات كما تُفصحُ عن ذلك آياتٌ كثيرة في القرآن.

 

فيحيى (ع) كان نبيَّاً وقد انحدرَ من سُلالة نبيٍّ، فلماذا لم يقع الاختيار على غير يحيى (ع) ليكون امتداداً لنبوَّة زكريا (ع) قال تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾(7) فالحكمُ والنبوَّة إيتاءٌ من الله تعالى، وقد أهَّل لذلك يحيى (ع) وكان في عمر الصبا في الوقت الذي كان ثمة رجالٌ حول زكريا (ع) لم يشأِ الله تعالى اصطفاء أحدٍ منهم وإنَّما شاء تعالى أنْ يجعل النبوَّة في ذريَّة زكريا (ع) قال تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾(8).

 

وقد سبقت عنايةُ الله تعالى بداوود (ع) فجعل النبوَّة في ذريتِه فقال جلَّ وعلا: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ / وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾(9).

 

ثم انَّ مريم التي اصطُفيت على نساء العالمين قد كانت من سلالة نبيٍّ هو عمران، فلماذا لم يصطفِ الله تعالى امرأةً من نساء المؤمنين غير مريم بنت عمران (ع) ﴿قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ / يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾(10).

 

ثم انَّه تعالى اختار لها أنْ تكون أُمَّاً لنبيٍّ من أنبياء الله كما كان قد اختار لها أنْ تكون من ذريَّة نبيٍّ، فشاءت إرادتُه أنْ تكون من سلالة نبيٍّ وأن يكون نسلُها نبيَّاً وأنْ يكون لها الاصطفاء على نساء العالمين ولا رادَّ لمشيئته، فهو لو شاء أنْ يصطفي امرأةً من غير بناتِ الأنبياء لفعل، ولو شاء أن يختار لعيسى (ع) أُمَّاً من سلالة غير النبيينَ لفعل ولكنَّه جلَّ وعلا شاء أنْ يجعلَها ذريةً بعضها من بعض.

 

وإذا انعطف الكلام على شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل (ع) فإنَّه سنجد تعاقب النبوَّة والإمامة في ذريَّتِه جيلاً بعد جيل إلى أمدٍ طويل، قال الله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾(11)، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾(12)، وقال جلَّ وعلا: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ / وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾(13).

 

وقال تعالى: ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ﴾(14).

 

ويقول تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ / وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ / وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ / وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ / وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(15).

 

وهكذا فإنَّنا نجد في القرآن ثناءً وتكريماً مضافاً إلى التصريح بالاصطفاء والاجتباء لذراري بعض الأنبياء.

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ / ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(16).

 

وقال تعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾(17).

وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

 

وقال جلَّ وعلا على لسان يعقوب مخاطباً يوسف (ع): ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(18).

 

وقال جلَّ وعلا: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾(19).

 

وبعد الوقوف على هذه الآيات يتَّضح انَّ جعل الإمامة في بيت النبيِّ محمَّدٍ (ص) لم يكن بِدْعاً في تاريخ الرسالات.

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الأحزاب / 33.

2- سورة الأنبياء / 23.

3- سورة آل عمران / 34.

4- سورة إبراهيم / 11.

5- سورة طه / 13.

6- سورة الأعراف / 144.

7- سورة مريم / 12.

8- سورة آل عمران / 39.

9- سورة النمل / 15-16.

10- سورة آل عمران / 42-43.

11- سورة النساء / 54.

12- سورة العنكبوت / 27.

13- سورة الأنبياء / 72-73.

14- سورة البقرة / 136.

15- سورة الأنعام / 83-87.

16- سورة آل عمران / 33-34.

17- سورة النساء / 54.

18- سورة يوسف / 6.

19- سورة مريم / 58.