قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ﴾

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

قال تعالى في سورة هود: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾(1).

لماذا أتُّخذَ هذا الأسلوب في القرآن في ترتيب الكلمات؟ لأنَّه لما ذكر كلمة (إلا) قال بعدها ومن آمن؟ كأن مَن آمن مُستثنى من ركوب السفينة لأنَّها وردت بعد كلمة (إلا) والحال ليس كذلك.

الجواب:

ليس في الآية المباركة إيهام بالمعنى المذكور فهي ظاهرة جداً في أنَّ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ عطف على قوله تعالى: ﴿مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ﴾.

فمفادُ الآية المباركة هو احمل فيها من كلِّ جنسٍ زوجين واحمل فيها أهلَك واحمل فيها مَن آمن.

وأمَّا قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ فهو استثناء من الأهل أي احمل فيها جميع أهلك إلا مَن سبق عليه القول وهي زوجته. ولا يصحُّ أن يكون ﴿مَنْ آمَنَ﴾ عطف على ﴿مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ لأنَّ من سبق عليه القول استثناء من الأهل ومن آمن ليسوا من الأهل وإنَّما هم من عموم الناس ممَّن آمن به.

فالآية بأدنى تأمُّل تكون واضحةَ المفاد وهي في ذات الوقت مؤدِّية للمعنى المراد بأوجز العبائر حيث إنَّها أَجملت مَن يُحمل في السفينة ومن لا يُحمل.

فأخرجت سائر الحيوانات بقوله: ﴿مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ وأخرجت الزوجة من عموم الأهل بقوله: ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ وأخرجت الكافرين بقوله: ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾.

فلأنَّ الخارجين من الحيوانات أكثر من الداخلين لذلك لم يكن استخدام الاستثناء صالحاً، وكذلك لأنَّ الكافرين أكثر من المؤمنين لذلك لم يصح استعمال الاستثناء لأخراج الكافرين. وأمَّا في مورد الأهل فنظراً لكون الخارجين أقلَّ من الداخلين لذلك تمَّ استعمال لفظ الاستثناء.

على أنَّه لابدَّ من التنبيه على أنَّ الاستظهار من الكلام يخضع لعددٍ من القرائن، فبعض هذه القرائن يُعبَّر عنها بالقرائن اللَّفظية وبعضها يُعبَّر عنها بالقرائن العقلائية، وثمة قرائن يُعبَّر عنها بالقرائن السياقيَّة.

وفي المقام قرينة عقلائية تقتضي انتفاء توهُّم أنَّ قوله: ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ عطف على قوله: ﴿مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ لأنَّ من سبق عليه القول مستثنى من الأهل وهذا معناه أنَّ مَن سبق عليه القول ممنوعون من الحمل في السفينة وهذا يقتضي عقلائياً أنْ لا يكون من آمن معطوفاً عليهم لأنَّ مؤدَّى ذلك حينئذٍ هو المنع من حملهم في السفينة فيكون شأنُهم شأن الكافرين وتكون الحيوانات أحسن حالاً منهم.

وثمة قرينةٌ أخرى على عدم إرادة عطف مَن آمن على قوله: ﴿مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ وهذه القرينة يُعبَّر عنها بالقرنية السياقية وهي أنَّ الآيات التي سبقت هذه الآية كانت بصدد بيان منشأ صنع السفينة وهو أنَّ الله تعالى قد قضى بإغراق الظالمين وإيقاع عذاب الخزي على الذين يسخرون من نوح (ع) ومن دينه قال تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ / وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ / فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾(2).

فمفادُ هذه الآيات أنًّ الذين قضى تعالى بإغراقهم هم الظالمون الذين يسخرون من فعل نوح (ع) ومِن دينِه، فهم الذين توعَّدهم نوحٌ (ع) بالسخرية منهم عندما يقعُ عليهم عذاب الخزي، ومن الواضح أنَّ ذلك لا يشملُ المؤمنين، فيكون وقوع الآية - موردَ البحث- في سياق هذه الآيات قرينةً على إرادة عطف ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾ على المحمول في قوله: ﴿احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ..﴾.

والمتحصَّل أنَّ الاستظهار يخضع لملاحظة مجموع القرائن اللفظيَّة والعقلائيَّة والسياقيَّة.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة هود / 40.

2- سورة هود / 37-39.