﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ .. أليس فيه كلفة؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

قال تعالى في محكم كتابه العزيز في سورة مريم: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾(1)، قد يتسائل البعض لماذا أمر اللهُ سبحانه و تعالى مريمَ (ع) أنْ تهزَّ جذع النخلة مع ما هي عليه من الضعف؟

 

الجواب:

الأمر بهزِّ الجذع يعني الأمر بدفعه أوجذبه لغرض تحريكه وهذا لا يسترعي جهداً مضنياً لا تستطيعه المرأة في حالات المخاض بل إنَّ المرأة في هذه الحالة قد تُمسك بما حولها من ثيابٍ أو مقبض أو يد إنسان بقوة وتجذبه إليها وقد تدفعه عنها بيديها ورجليها فإنَّها بذلك تُنفَّس عن شيءٍ ممَّا تشعر به من ألمِ المخاض.

 

على أنَّ الأمر بهزِّ الجذع لا يعني أنَّ المطلوب هو اهتزاز الجذع بجذبها إيَّاه أو دفعه، فغايةُ ما هو مطلوب منها هو أنْ تدفع بيديها أو رجليها الجذع وليس ذلك ممَّا لا تقوى الحبلى في ظرف الطلْق أو بعده على فعله.

 

ثم إنَّ الظاهر من مساق الآيةِ المباركة أنَّ الأمر بهزِّ الجذع كان بعد الوضع ولم يكن أثناء الطلْق.

 

فإنَّ مفاد الآية المباركة وما في سياقها من آيات أنَّ ألم المخاض ألجأ السيدة مريم (ع) إلى جذع نخلةٍ، ومقتضى ذلك أنَّها استندت إليه ثم إنَّها بعد أن وضعت حملها ناداها جبرئيل أو نادها المسيح المولود أنَّ الله قد جعل ﴿تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾(2) أي جدولاً أو نهراً فيه ماء ثم قال: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾.

 

فلم يكن الماء حين الجأها المخاضُ إلى جذع النخلة موجوداً ولم تكن النخلة مثمرةً بل كانت يابسة لا سعف لها ولا رأس كما في الروايات(3)، ولعلَّه لذلك كان الأمر بهزِّ جذع النخلة، ولو كانت نخلة مثمرة لكان الأنسب ظاهراً هو الأمر بهزِّ النخلة، فهي لم تكن نخلة وإنَّما كانت جذعَ نخلة.

 

فالسيدة مريم (ع) شعرت بالحزن حين وضعت السيدَ المسيح (ع) ولعلَّ ذلك نشأ من خشيتها إتهامَ الناسِ لها وعدم قدرتِها على الدفاع عن نفسها، إذ ليس ثمة ما يُوجب تصديقها.

 

فأراد اللهُ تعالى أنْ يُسرِّيَ عن حزنِها ويُظهِرَ لها عنايتَه بها وكرامتَها عنده فكان منه أنْ جعل تحتها نهراً يجري بالماء لتشرب منه وتغتسل به ثم أمرها أنْ تحرِّك الجذع الذي تستندُ إليه فيُصبح نخلةً مثمرة ذاتَ رطبٍ جنيٍّ بعد أن كان جذعاً نَخِراً متهالكاً.

 

وكلُّ ذلك بمقتضى طبعه يبعثُ البشرى في النفس وأنَّ الله تعالى لما كان قد أكرمَها بمثل هذه الكرامة فإنَّه لن يتركَها وقومَها دون أن يتولَّى تبرئتَها ممَّا قد يقذفونَها به.

 

فكان كلُّما شاهدتْه بعد الوضع من كرامات واقعاً في سِياق التطمين لقلبها، فصيرورةُ الجذعِ البالي نخلةً ذاتَ رُطَبٍ جنيٍّ بعد تحريكها له بيدها كان له بالغَ الأثر في التطمين لقلبها والوثوق بأنَّ عنايةَ الله تعالى ترعاها، ولعلَّ ذلك هو منشأ الأمر بهزِّ الجذع وعدم صيرورته نخلةً ذات رطبٍ جنيٍّ ابتداءً ودون تحريكها له.

 

فأمرُها بهزِّ الجذع يضمنُ التفاتَها إلى انَّه كان جذعاً بالياً ولم يكن نخلةً مُثمرة، إذ لو لم تُؤمَر بهزِّه وصار نخلة مثمرة من تلقاء نفسه لأمكن أنْ تتوهَّم أنَّها كانت نخلةً مُثمرة من أول الأمر وأنَّها كانت في ذهولٍ عن ذلك بسبب ما كانت عليه من ألمِ المخاض ثم إنَّ صيرورتَه نخلةً مُثمرة بعد هزِّه يؤكِّد لها أنَّ الخطاب الذي سمعته يأمرُها بهزِّ الجذع لم يكن وهماً بل هو حقيقة، ولذلك فالخطاب الذي أمرها بعده بالنذر للرحمن وبشَّرها بالانتصار لها عند قومِها خطاب ينتهي إلى الله تعالى ويُعبِّر عن عناية الله بها ورعايته لها وأنَّه لن يخذلها.

 

قال تعالى: ﴿فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا / فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا / وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا / فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ..﴾(4).

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة مريم / 25.

2- سورة مريم / 24 

3- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج6 / ص418

4- سورة مريم / 23-26.