حديث حول سورة الحجرات (2)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

 

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ/يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾(1)

صدق الله مولانا العلي العظيم

 

كنا قد تحدثنا في الجلسة السابقة عن منشأ نزول هاتين الآيتين الكريمتين من سورة الحجرات، والحديث بعد ذلك عن مفاد الآية الأولى، وأجملنا الحديث عمَّا هو المراد من التقديم بين يدي الله ورسوله، والذي نهت عنه الآية المباركة.

 

المراد من التقديم

اتضح من منشأ النزول أنَّ المراد من التقديم هو المبادرة بإبداء الرأي الشخصي بين يدي الرسول (ص) قبل أن يطلب الرسول (ص) ذلك. فأن يبادر المسلم في محضر الرسول (ص) فيُبدي رأياً في قضية قبل أن يأذن له الرسول (ص) فذلك من التقديم بين يدي الله والرسول (ص)، وأن يقترح أمراً في محضر الرسول (ص) دون أن يطلب الرسول (ص) منه إعطاء الرأي فذلك من التقديم بين يدي الله والرسول .. نعم التقديم المنهي عنه في الآية المباركة لا ينحصر بذلك، فما ذكرناه لم يكن سوى مظهرٍ من مظاهر التقديم وليس هو المراد بخصوصه، بمعنى أنَّ الآية تشمل -بعمومها أو إطلاقها- هذا المصداق، ولكنها لا تنحصر به؛ فالتبنِّي لرأيٍ في مقابل حكم الله، وفي مقابل شرع الله هو من التقديم أيضاً بين يدي الله والرسول، وكل موقفٍ يتخذه المُكلَّف دون أن يعتني بما هو حكم الله -عزَّ وجلّ- في هذه الواقعة، فذلك من التقديم بين يدي الله والرسول (ص).

 

مظاهر التقديم:

فثمة مظاهر عديدة يصدق عليها أنها من التقديم بين يدي الله والرسول (ص)، نشير إلى ثلاث منها:

 

المظهر الأول:

أن يتبنَّى المسلم أمراً أو رأياً، أو يتخذ قراراً أو يعتمد مسلكاً في مقابل حكم الله، و في مقابل شرع الله -عزَّ اسمه وتقدَّس-.فإذا كانشرع الله يقتضي شيئاً، وهذا المكلف يتبنَّى شيئاً آخر، فذلك من التقديم بين يدي الله والرسول (ص)، بل هو من أبشع وأقبح صور التقديم بين يدي الله والرسول المنهي عنه في الآية المباركة؛ وهذه الحالة أو هذا السلوك شائع فيما بيننا، وفي مجتمعاتنا، فالكثير من الناس -خصوصاً المثقفين منهم ومن يعتبر نفسه أنه من ذوي الرأي ومن ذوي الفطنة، وأنَّه يمتلك فهماً وعلماً وثقافة- فإنه يَتنظَّر في أحكام الله، ويتنظَّر في شرع الله تعالى، فيقول إنَّ هذا صحيح وهذا ليس بصحيح، وهذا ينبغي أن يُقبل وذاك ينبغي أن لا يُقبل! فتراهم يُجزِّؤون الشريعة إلى ما يصحّ قبوله وما لا يصحّ قبوله!! وهو ما عبَّر عنه القرآن الكريم في آية أخرى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾(2)!

 

أمثلة من الواقع:

أ- أحكام الأسرة

عندما نجد أنَّمن يتبنَّى الإسلام ديناً وسلوكاً وعقيدة -كما يدَّعي-، ثم يقول إنَّ الإسلام لا شأن لهبأحكام الأسرة، وأنه ينبغي أن نعتمد المواثيق الدولية مصدراً من مصادر تشريع أحكام الأسرة، فذلك من التقديم بين يدي الله والرسول (ص).

 

ب- حكم القِوامة للرجل

وعندما يقول الإسلام أنَّ القِوَامة للرجل في إطار الزوجَّية، فيأتي الحقوقيون من المسلمين، ويعملون على إلغاء هذا الذي جعله الإسلام صريحاً في القرآن الكريم وقال: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء﴾(3)، فذلك من التقديم بين يدي الله والرسول (ص).

 

ج- حكم الولاية على البَكر

وهكذا عندما يجأر الحقوقيون ممن هم حريصون ـ بحسب زعمهم ـ على حقوق المرأة، فيسعون من أجل إلغاء ولاية الأب على البكر في الزواج؛ أليس ذلك من التقديم بين يدي الله والرسول؟! أليس ذلك من الإقتراح على الله في مقابل حكمه؟!

 

ت- أحكام السياسة والحكومة والحياة

الكثير ممن يدَّعي الإسلام، يسعى من أجل التأصيل للحكومة العلمانية في الأرض، في مقابل الحكومة الإلهية، متوهماً أنَّ الإسلام إنما جاء ليحدِّد طبيعة علاقة الإنسان بربِّه في إطار العبادات فحسب! وأنه لا شأن للإسلام بما وراء المسجد، ولا شأن للإسلام بما وراء الطقوس الروحية والعبادية،أو أنهبحسب زعمه مجموعة من المُثُل والقيم، فلا شأن له بسوق العمل، ولا شأن له بالسياسة ولا شأن له بتنظيم شئون الحياة؛ فالقوانين الجنائية ينبغي أن تكون مدنيَّة، والقوانين الأسريَّة ينبغي أن تكون مدنيَّة، وقوانين الحكم والحرب والسلم ينبغي أن تكون مدنيَّة!! أليس هذا من التقديم بين يدي الله ورسوله؟!

 

الإسلام جاء ليؤكِّد أنه دينٌ ينظِّم حياة الإنسان في تمام علائقه، في علاقته بأخيه، وفي علاقته في إطار الأسرة، وفي علاقته في إطار مجتمعه الصغير، وفي علاقته في إطار مجتمعه الكبير. فثمَّة حدودٌ وتعزيرات، وضمانات وغرامات وقصاص وديات وأحكام تتصل بمختلف القضايا الجنائية وثمَّة قوانين ترتبط بعلاقتنا مع المسلمين وغير المسلمين.

 

فما من شاردةٍ ولا واردة، وما من واقعةٍ -مهما حقُرت- إلَّا وللإسلام فيها حكم؛ ثم نأتي ونتبرّع من عند أنفسنا ونرى أن غير حكم الله أنجع وأفضل للناس من حكم الله تعالى! أليس هذا من التقديم بين يدي الله؟! هذه هي العلمانية في ثوبها الجديد.

 

كان دعاة العلمانية من خارج إطار الإسلام والمسلمين، وأما اليوم فالكثير من المتغرِّبين الذين قد يحملون على رؤوسهم عمامة رسول الله (ص)، أو يتَّسمون بسمات المؤمنين، وهم يُروِّجون إلى ما عجز الغرب ودعاته والمستشرقون عن تأصيله في أوساطنا.

 

تأكيد: مظاهر التقديم متعددة ومتجدِّدة

نحن نحسب أنَّ التقديم هو عبارة عمَّا يقوله بعض المفسرين، وهو أن يكون الرسول (ص) في مجلس فيقوم أحد الناس فيسأل الرسول (ص)، فيتقدَّم رجلٌ ابتداءً ودون أن يراعي وجود الرسول (ص) فيجيب عن سؤال السائل، هذا مظهر من مظاهر التقديم، ولكن التقديم لا ينحصر بهذا المظهر الجزئي المحدود؛ طبعاً هذا من سوء الأدب، أن تكون في محضر الرسول (ص) فيسأل سائل عن أمرٍ فتتبرَّع من عند نفسك وتجيب، والرسول جالس -كما فعل بعض الأعراب والأجلاف ممن لم يرعَ حقَّ ومقام رسول الله (ص)- ولكنَّ التقديم لا يتلخَّص في ذلك، والآية الشريفة لم تنزل على قلب رسول الله (ص) لتمنع من هذا المظهر وحسب؛ فالرسول (ص) سيرحل إلى الله وحينئذ ينتفي موضوع الآية برحيل الرسول، فالرسول (ص) ليس بيننا فعلاً حتى نُجيب في محضره، فنكون ممن قدَّم بين يدي الله ورسوله.

 

والقرآن نزل ليخلد ولهذا ورد أنَّ مضامين القرآن لا تبلى بل هي متجددة بتجدُّد الشمس والقمر.

 

ث- اقتحام المجاهيل من دون الرجوع إلى الدين

أن يخطر في ذهني رأيٌ، ولا أعلم أنَّه منافٍ لشرع الله أو موافق، فلا أعتني وأسلك هذا الرأي، وأرتِّب الأثر عليه، وأُصحِّحه، وأدعو له، و أُروِّج له، دون أن أعرف أنَّ هذا الموقف أو أنَّ هذا الرأي موافق لشريعة الله -عزّ وجلّ-، أو أنه مُنافٍ لشريعة الله -عزّ اسمه وتقدّس-، فهذا أيضاً يعد من التقديم بين يدي الله والرسول (ص) .. أن لا تعتني، ولا ترجع إلى الدين في كلِّ موقف من مواقفك، وفي كلِّ عمل من أعمالك -مهما صَغُر، ومهما حَقُر- فذلك من التقديم.

 

أمثلة من الواقع:

1- التقديم في مسائل التكسب والتجارة

حينما تريد أن تعقد صفقةَ بيع، وأنت لا تعلم أنها مباحة ومشروعة أو لا، هذه مسألة جزئية، وهي تكون من التقديم إذا لم ترجع إلى الإسلام لتتعرَّف منه على مشروعيَّة هذه الصفقة أو عدم مشروعيتها.

 

2- التقديم في المسائل الاجتماعية والشأن العام

أن تتبنى رأياً اجتماعياً، ولا ترجع إلى الله تعالى وإلى الرسول (ص)، فذلك من التقديم. لا بدَّ من أن يرجع المسلم في تمام شئونه إلى الإسلام، المتمثِّل في الرسول إبّان وجوده، ثم الإمام، ثم الفقهاء -كما أفاد مولانا الحجة ابن الحسن -عجل الله فرجه الشريف- في التوقيع المعروف: "وأما الحوادث الواقعة". نحن الآن في عصر الغيبة- فقبل أن يغيب الإمام عن أعين الناس كانوا مكلفين بالرجوع إلى الإمام (ع) في تمام شئونهم، أما الآن فالإمام مكلف بالغيبة، فلمن نرجع؟ يقول عليه أفضل الصلاة والسلام، وعجل الله فرجه الشريف: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رُواة حديثنا، فإنَّهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم"(4).

 

الفقهاء بدورهم أيضاً لا يُفتون إلا بعد أن يرجعوا إلى كلام الله تعالى، وكلام رسول الله (ص)، وما ورد عن أهل بيت رسول الله (ص). هذا هو معنى الالتزام بالمرجعية الدينية، أنْ يرجع المُكلَّف في كلِّ شئونه إلى الإسلام من خلال من يُمثِّله، ومن لم يكن كذلك فهو ممن يُقدِّم بين يدي الله ورسوله؛ لذلك قالوا إنَّ عمل العامي بلا تقليدٍ باطل وغير صحيح، وأنه يجب على كلِّ مكلف أن يتَّخذ له مرجعاً واجداً للشرائط المعتبرة في جميع ما يرتبط بشئونه -في معاملاته وعباداته-، وإلَّا كان ممن يُقدِّم بين يدي الله ورسوله. هذا مظهر ثانٍ من مظاهر التقديم

 

المظهر الثالث من مظاهر التقديم:

الإعتراض على الرسول (ص)، أو على أهل بيت الرسول (ص).فحينما يقولالرسول شيئاً وأنا أعترض عليه،أو يسلك مسلكاً وأنا أعارضه في سلوكهفذلك من التقديم .. وقد ابتُلي بهذا النحو من التقديم كثيرٌ من الناس في زمن النبيّ (ص)، وأسَّسوا بهذه الجرأة وهذا التجاسر لانحرافات خطيرة لا زلنا نعاني من أثرها السيء، حيث جرى على هذا المذهب الكثير من الناس متذرعين بما فعله بعض الصحابة في الصدر الاول للاسلام رغم انه من أجلى صور التقديم بين يدي الله ورسوله (ص) وهو ما نعبر عنه بالإجتهاد في مقابل النص.

 

إن الله -عزّ وجلّ- قَرَن اسم الرسول (ص)بإسمه، وطاعته بطاعتة ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾(5) ومن قدَّم بين يدي الله فقد قدَّم بين يدي رسول الله .. يجب على كلِّ مُكلَّف أن لا يتخطّى رسول الله (ص)، وألاَّ يكون له رأي في مقابل قوله، وأن لا يكون له اجتهاد في مقابل أمرٍ قد نصّ عليه رسول الله (ص) فإنَّ ذلك من الاجتهاد في مقابل النص.

 

أمثلة من التاريخ:

نذكر أمثلة في التأريخ ذكرها المؤرِّخون والمحدِّثون من الفريقين، وهذه أمثلةٌ تُعبِّر عن التقديم بين يدي الله والرسول (ص):

أ- حادثة الصلاة على عبدالله ابن أبي سلول

مثلاً ذكر المؤرخون والمحدِّثون ان النبي (ص) كان مبتلى في المدينة المنورة بمجموعة من المنافقين، وعلى رأسهم رجلٌ يُسمى عبد الله بن أُبَيّ بن أبي سلول، هذا الرجل كان منافقاً، وكان مؤذياً، ولكن ولده كان على ظاهر الصلاح .. هذا الرجل مات في حياة الرسول (ص)، فجاء ولده إلى النبي (ص) وقال له: إن والدي عبد الله ابن أُبَيْ -قد مات، فلو أكرمتنا بالصلاة عليه. فقام الرسول (ص) -رعايةً لهذا الولد الصالح، ولقبيلة عبد الله ابن أُبَيْ ابن سلول- فتقدَّم ليصلِّي عليه .. تقدّم الرسول (ص) واصطفت الصفوف من خلفه، فجاء عمر -الخليفة الثاني-، فجذب رسول الله من ثوبه، وقال: كيف تصلِّي على منافق، وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين؟! قال له: يا عمر، إنَّ الله خيَّرني فقال: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ -تخيير- ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ﴾(6) وإني سأزيد على السبعين رعاية لهذا الولد . فصلّى عليه؛لاحظوا، هذا من التقديم بين يدي الله والرسول (ص)(7).

 

يُقال إن الكثير من قبيلة هذا الرجل قد حسُن إسلامهم بعد هذا الموقف من الرسول (ص)؛ لأن هذا الرجل ورُغم أذيته للرسول فإن النبيّ (ص) تقدَّم وصلَّى عليه، واستغفر له -(من أجل عين ألف عين تُكرم)-. لكن الإنسان في بعض الأحيان -لقصورٍ في فهمه- يتوهم أنه أكثر فطنة، وأكثر معرفة من النبي (ص)، والذي هو مُتَّصل بالوحي ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى/إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(8)! أتُرى أنَّ النبي (ص) سيُقدِم على الصلاة على هذا الرجل دون إيعاز من الله -عزّ وجلّ-، وهو الرجل المعصوم الذي قد نزَّهه الله -عزّ وجلّ- عن الخطأ والسهو والغفلة؟! هذا موقف أو مثال من أمثلة التقديم بين يدي الله.

 

ب- حادثة الحديبية

كان النبي (ص) قد قال للمسلمين: أُرِيتُ رؤيا -﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾(9)-، وهو وعدٌ نبويّ من الله -عزّ وجلّ-، فلما خرج النبي (ص) والمسلمون إلى مكة الشريفة وبلغوا منطقة الحديبية منعتهم قريش من الدخول، فوقع بين النبي (ص) وبين قريش صلح سُمِّي بـِ (صلح الحُديبية) .. هنا اعترض بعض الصحابة على هذا الصُّلح، ومنهم الخليفة عمر يقول له: أوَ لسنا على الحق؟! قال (ص): بلى. قال: لماذا نأخذ الدنيَّة في ديننا؟! ألم تعدنا بأننا ندخل المسجد الحرام إن شاء الله مُحلِّقين ومُقصِّرين؟! ولم ندخل! هذا توهين وتشكيك، ولعلَّه صدر عن غفلة. وبقي متغيطاً وما عاد عن اعتراضه رغم أن الخليفة الأول قد ذكره "أنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا"(10) .. لم يقتنع بقول الرسول واقنع بعد ذلك عندما نزلت سورة الفتح(11)!! هذا مظهر ثانٍ للتقديم.

 

ج- حادثة طريق الشام

ابن عباس سافر مع الخليفة إلى الشام -في فتح فلسطين-، ويقول: رأيت عمر في مسيرنا إلى الشام وحده واجماً، فذهبتُ إليه وسلَّمت عليه، قال لي: يا ابن عباس، دعوتُ ابن عمِّك للسفر معي فأبى، لازال عليّ واجداً؟ أتُراه كذلك؟ قال نعم. قال: ولم؟! قال: أنت تعلم لماذا هو واجد عليك-. قال: يرى أنه الأحقُّ بالخلافةِ دوني؟ قال: نعم، هو يرى ذلك. قال: أراد رسول الله أن يكون هو الخليفة، ولكنَّ الله أراد غير ما أراد رسول الله (ص)، فأُ نفذ ما أراده الله، ولم ينفذ ما أراده رسوله.

 

هذا فهمٌ غريب يتنافى مع الآية الشريفة؛ فكيف تكون إرادة الله غير إرادة رسول الله؟! الله -عزّ وجلّ- يقول:"ما آتكم الرسول فخذوه "ويقول: ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾(12)، يعني ما أراده الرسول هو ما أراده الله عزَّ اسمه وتقدَّس، فكيف نفصل بين إرادة الله وإرادة رسوله؟!وعليه فماأنتم عليه إذا كان مُنافياً لإرادة رسول الله، فهو مُنافٍ لإرادة الله.

 

د- رزية الخميس

ثم يقول: قد كان رسول الله أراد أن يجعلها لعليٍّ فمنعناه. نعم، يشير الخليفة إلى موقفٍ كان مشهوداً، وهو الذي كان يُبكي عبد الله بن عباس حين يتذكره حتى -قيل- أن الحصباء قد ابتلّت من دموعه، وكان يعبِّر عن ذلك الموقف المشهود برزية الخميس، وما أدراك ما رزية الخميس! يوم أن قال رسول الله (ص): يا قوم، آتوني بدواةٍ وكتف؛ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً. قال: لا تأتوه بالدواة والكتف؛ إنه يهجر(13)!

 

لا إله إلا الله ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾(14) .. وخفَّفها البخاري فقال: إنَّ عمر، قال: غلبه الوجع. على كل حال هذا معناه باللهجة العاميّة (خرَّف)! هذه شتيمة للنبي (ص) في محضر النبي، وليس هو مجرَّد اعتراض! تأتي لأحد وتقول له: أنت مجنون. ألم تشتمه؟! يهجر معناه أن النبي (ص) قد فقد عقله وكذلك هو معنى أنه قد غلبه الوجع يعنيبلغ منه مبلغاً فقد معه عقله.

 

هذا مظهر آخر من مظاهر التقديم، وهو من الاجتهاد في مقابل النص.

 

هـ- الحادثة الأعجوبة

موقف آخر وقع لعبد الله ابن عباس: كان يمشي مع عليّ (ع) في زقاقٍ من أزقَّة المدينة المنورة، فوجدا عمراً جالسايَنكُت الأرض بعود، وهو مهموم، سلَّما عليه، ثم انصرف علي (ع) وبقي عبد الله ابن عباس، معه ودار بينهما حديث ثم انصرف عبد الله بن عباس .. بعد ذلك لقيه الإمام (ع) فقال له: ما وراءك يا ابن عباس؟! قال: أُعجوبة، أُعجوبة -هذا تعبير عبد الله ابن عباس-، أُعجوبة يا علي! قال: وما ذاك؟! قال ابن عباس: وجدتُه يرقُب خُطاك وأنت تسير ويقول: آهٍ،آهٍ، آه! قلتُ مما تتأوه يا أمير المؤمنين؟! قال: من ابن عمِّك، أما والله لم يحظَ أحدٌ بمثل ما حظيَ به هذا الرجل، ولولا ثلاث لكان أولى بالخلافة من غيره. قلتُ: وما هُنَّ يا أمير المؤمنين؟! قال: دُعابة فيه -هذه الأولى-، الثانية: قال: بُغْضُ قريشٍ له. وما الثالثة؟ قال: صِغر سنِّه. يقول: فأخذتني حميَّة النسب فقلتُ: يا أمير المؤمنين، أمَّا الدُعابة التي فيه، فقد كانت في رسول الله (ص)، فقد كان يُداعب الصغير والكبير، ولكنه لا يقول باطلاً، وكان إذا جالس الطفل الصغير يُكلِّمه بما يُفرح قلبه .. ألم يكن كذلك؟! فهذه سُنَّة من سُنن النبيّ الرسول (ص).

 

وأما بُغض قريشٍ له، فلعمري علامَ تبغضه قريش؟! على إنفاذه لأمر رسول الله فيهم، فو الله لقد كسَّر أصنامهم، وأثكل نساءَهم وضرب خراطيمهم بالسيف تحت راية رسول الله (ص)، وكان الدم الذي يقطر من سيفه إعزازاً لأمر الله، وتقويةً لشوكة المؤمنين من عباد الله، وما فعل شيئاً إلَّا بأمر رسول الله (ص)؛ فالرسول أولى بأنْ تبغضه قريش، لأنَّ علياً كان يأتمر بأمره .. وأما صغر سنِّه يا أمير المؤمنين، فما استصغره الله حينما بعث رسولُ الله أحدهم بسورةِ براءة، فقال له الله لا يبلِّغُها إلا أنت أو أحد منك. فلم يستصغره الله حين بعثه بتبليغ براءة، فهذه هي الأُعجوبة(15).

 

فهذا مثال آخر من مظاهر الإجتهاد في مقابل النص.

 

و- نماذج أخرى من الاجتهاد في مقابل النصّ

ولقد استمر الإجتهاد في مقابل النص؛ فأخذوا بالأقيسة والإستحسانات في مقابل سُنَّة الرسول الكريم (ص) .. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ﴾(16)، ثم يجيء الخليفة أيام خلافته فيقول: لاحظَّ للمؤلفة قلوبهم من الصدقات! لماذا؟! قال: لأنها -بنظره- إنما شُرِّعت لهم يوم أن كان الإسلام ضعيفاً وقد قويت شوكته، واتَّسع نفوذه، لذلك فلا نصيب لهم عندئذٍ من الزكاة؛ فالرسول (ص) إنما أعطاهم منها ليتألَّفهم، ونحن -كما يرى الخليفة- لسنا بحاجة إلى تأليفهم، قبلوا الإسلام فليدخلوا، وإن لم يقبلوا فليخرجوا.

 

أليس هذا من الإجتهاد في مقابل النص، والتقديم بين يدي الرسول (ص)، وقد أمر بحذف (حيَّ على خير العمل) من الأذان حتى لا يتقاعس الناس عن الجهاد، فالصلاة وإن كانت هي خير العمل إلا أن تثقيف الناس بذلك قد يُفضي بنظره إلى تقاعس المسلمين عن الجهاد، لذلك أمر بحذف هذا الفصل من الأذان رغم أن رسول الله (ص) قد جعله من فصول الأذان، أليس هذا من الاجتهاد في مقابل النص!! والتقديم بين يدي الله والرسول (ص) .. وثمة الكثير الكثير من المسائل التي اجتُهد فيها رغم أن الشريعة قد نصت على حكمها.

 

فمن ذلك متعة الحج -فمنذ أيام النبي (ص) لم يقبلوا بها! وذلك بذريعة أنّ مذاكيرهم تقطر منياً- كما يقول أحدهم: الآن إذا أحللنا من عمرة التمتع، فكيف لنا أن نستمتع بالطيب والنساء، وبعد ذلك نعود لنحرممن جديد، وهذه الفاصلة تجعلنا نلتذّ ونحن في الحج؟!

 

سبحان الله! أنتم أعلم أم الله؟! الله عزوجل قد أعطى الناس فسحةً، فلماذا أنت تضيِّق عليهم؟! ألست تُقرّ بأنها كانت على عهد رسول الله (ص).

 

الرسول (ص) كان يقصر الصلاة في منى وعرفات .. فقال عثمان: لماذا نصلي ركعتين؟ هي أربع فلماذا ننقصها؟ الخطبة يوم العيد نقدٍّمها؛ لأنه إذا صلَّينا وبعد ذلك ألقينا الخطبة سينصرف الناس، ولذلك فالارجح ا أن نقدِّم الخطبة على الصلاة!!

 

كلُّ ذلك من مصاديق الإجتهاد في مقابل النص، وهو من التقديم بين يدي الله والرسول (ص).

 

نختم الحديث بتلخيص ما ذكرناه، وهو:

أن المراد من قوله تعالى ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾(17): أي لاتجتهدوا فيما لله ولرسوله فيه حكم، فليس للمسلم أن يحكم في شيء كان لله ولرسوله (ص) فيه حكم، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾(18).

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الحجرات / 1-2.

2- سورة البقرة / 85.

3- سورة النساء / 34.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 27 ص 140.

5- سورة النساء / 80.

6- سورة التوبة / 80.

7- صحيح البخاري ج2/76، ج5/206، صحيح مسلم ج7/116.

8- سورة النجم / 3-4.

9- سورة الفتح / 27.

10- جامع البيان -إبن جرير الطبري- ج 26 ص 92.

11- صحيح البخاري ج4/70، ج6/45، صحيح مسلم ج5/175، المعجم الكبير ج6/90.

12- سورة الحجرات / 1.

13- صحيح البخاري ج4/31، 66، صحيح مسلم ج5/75، الطبقات الكبرى ج2/242.

14- سورة مريم / 90.

15- نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: 132، شرح احقا الحق ج31/ 467.

16- سورة التوبة / 60.

17- سورة الحجرات / 1.

18- سورة الأحزاب / 36.