تفسير سورة المدثر -1

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد -اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد- وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ / قُمْ فَأَنذِرْ / وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ / وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ / وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ / وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ / وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ(1)

صدق الله العلي العظيم

الحديثُ إن شاء الله تعالى حول سورة المُدثِّر، وهي من السور المكيَّة على ما هو المعروف والمشهور بين المفسِّرين والمحدِّثين، وذهب البعض إلى أنَّها مدنيَّة ولكنَّه قولٌ ضعيف لا يُعوَّل عليه، والصحيح ما عليه المشهور من أنَّها من السور المكيَّة.

ضابطُ الفرق بين السور المكيَّة والمدنيَّة:

والضابط الذي يُميِّز السور المكيَّة من السور المدنيَّة هو أنَّ كلَّ سورةٍ نزلت قبل الهجرة النبويَّة فهي سورةٌ مكية سواءً نزلت في مكة الشريفة أو نزلت والنبي (ص) في سفرٍ من أسفاره كالطائف أو غيرها، فالسورة أو الآية إذا كانت قد نزلت قبل الهجرة النبويَّة الشريفة فهي مكيَّة وإذا كانت قد نزلت بعد الهجرة النبويَّة فهي سورةٌ أو آيةٌ مدنيَّة حتى وإن نزلت في غيرِ أرضِ المدينة كما لو نزلت والنبيُّ (ص) في طريقه إلى غزوةٍ من الغزوات أو في طريقه إلى العمرة مثلاً أو إلى بلدٍ أو كان في أطراف المدينة أو خارجها رغم ذلك فإنها تكون سورةً مدنية لأنَّها نزلت بعد الهجرة النبوية، هذا هو الضابط الصحيح في ما يُميِّز السور والآيات المكية من السور والآيات المدنية.

تأريخ نزول سورة المدثِّر:

سورة المدثِّر من السور المكية، بل هي من أوائل السور التي نزلت على قلب رسول الله (ص) وهي تشتمل على ستٍ وخمسين آية، وقلنا: إنَّها من أوائل السور التي نزلت في صدر الدعوة -يعني بُعيد المبعث النبوي بزمنٍ ليس بالطويل-، ذهب البعض اعتماداً على بعض الروايات إلى أنَّها أول سورة نزلت على قلب رسول الله (ص) أو أنَّها أول ما نزل من القرآن رُوي ذلك عن بعض الصحابة وهو جابر بن عبدالله الأنصاري (رضوان الله عليه) رُوي عنه أنَّه سمع من النبي (ص) أن أول ما نزل عليه هو سورة المدثر، لكن هذا الكلام لا يصح، وهذه الرواية نحن لا نعتمدها، والصحيح أنَّ أول ما نزل على رسول الله (ص) هي سورة العلق ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾(2) فهي أول ما نزل على رسول الله (ص)، ووجَّه البعض ما رُوي عن جابر: أن أول ما نزل على رسول الله (ص) وإن كان هو سورة العلق ولكن الذي نزل على رسول الله (ص) من سورة العلق هي الآيات الأولى من سورة العلق إلى الآية الثامنة وما بقي من السورة نزل عليه لاحقاً، والمراد من أن أول من نزل على رسول الله هي سورة المدثر هو أول ما نزل على قلب رسول الله كسورةٍ كاملةٍ تامة فلم تنزل على قلب رسول الله (ص) سورة تامةً كاملةً قبل سورة المدثر، هكذا وجهها البعض على أي حال لا يمكن الإلتزام بأنَّها أولُ ما نزل على قلب رسول الله (ص)، نعم يمكن التثبُّت من أنَّ سورة المدثِّر هي من أوائل السور التي نزلت على قلب رسول الله (ص).

فضل قراءة سورة المدثر:

وردت بعض الروايات تتحدث عن فضل هذه السورة منها: ما روي عن أُبي ابن كعب -وهو أحد الصحابة الأجلاء- عن الرسول (ص) أنه قال: "من قرأ سورة المدثر أُعطي عشرُ حسنات بعدد من صدَّق بمحمد (ص) وكذَّب به بمكة"(3) يعني أنه يُعطى قارئُ سورة المدثر عن كل من آمن بالنبي (ص) في مكة وعن كل من كفر بالنبي (ص) في مكة من مشركِي مكة يُعطى بكل واحد منهم مقدار عشر حسنات هو فضلٌ من الله عزوجل وحثٌّ من الرسول (ص) إذا صحت الرواية على المداومة على قراءة هذه السورة المباركة والتي تشتمل على مضامين عالية سوف نتعرض لبعضها إن شاء الله تعالى.

ورُوي عن الإمام الباقر (ع): "من قرأ في الفريضة سورة المدثر كانَ حقاً على اللهِ تعالى أن يجعله مع محمدٍ (ص) في درجته" يعني يُعطى الدرجة الرفيعة فيكون قريباً من النبي الكريم (ص) في الجنان "ولا يدركه -هذه تتمة الرواية- في الحياةِ شقاء"(4) هذا أثر آخر ومنحةٌ إلهيَّة أُخرى يُعطاها من يقرأ سورة المدثر في فرائضه، وهي أن لا يُدركه شقاء، والمتبادر من معنى الشقاء هو أن لا تُدركه ابتلائات يعني ابتلائات كبيرة مستصعبة يشُقُ على الإنسان تحمُّلها، وكثيرا ما يُطلقُ لفظ الشقاء ويُراد منه سوء الخاتمة بأن يَضلَّ الإنسان عن دينه وينحرف عن صراط الله القويم فيوجب ذلك سخط ربه فيذهب من الدنيا شقياً لأنه سوف يستوجب بفعله سخط ربِّه جلَّ وعلا لذلك ورد في الأدعية المأثورة: "وإن كنتُ عندك في أمِّ الكتاب شقيا فاجعلني سعيداً"(5) يعني إذا كنت مكتوباً عندك أني من الأشقياء -الأشقياء هم المضلِّون، هم المنحرفون عن خط الله عزوجل، منحرفون عن رسول الله (ص)، منحرفون عن أهل بيت رسول الله (ص) الذين تنتابهم شبهةٌ فتفتنهم عن دينهم، قد يتفق ذلك لبعض المؤمنين أنه مؤمنٌ صالحٌ عابدٌ لله عزوجل يؤدي الفرائض ثم تعرُضُ له شبهة لجلوسه مع أهل الضلال أو لمطالعته لبعض كتب الضلال تعرضه شبهة فتُشقيه أي تحرفه وتفتنه عن دينه- لذلك ينبغي للمؤمن أن يحرص كلَّ الحرص على أن يبحث عن أسباب الثبات على دينِ الله والثبات على أمر رسول الله (ص) وسنته وولاية أهل البيت (عليهم السلام) الرواية مفادها أنَّها من وسائل الثبات على دين الله عزوجل أن من قرأها وداوم على عليها فإن الله عزوجل يمنحه أن لا يُصاب بالشقاء في هذه الدنيا، هذه رواية أخرى وردت في فضل سورة المدثر.

سبب النزول:

بعد ذلك نستعرض ما قيل في سبب نزول هذه السورة قبل بيان معنى الفقرات التي وردت في هذا الآيات التي تلوناها، نذكر بعض ما ورد في سبب نزول هذه السورة المباركة:

الرواية الأولى: وهي أنَّه رُوي -من غير طُرقنا طبعاً- عن النبي (ص) أنه قال: أنه كان -مضمون الرواية لن نقرأها بنصها لأنها مختلفة الألسن شيئاً ما لذلك سوف نرويها بالمضمون- كان النبي (ص) قد نزل من غار حراء، وكان يختلي بنفسه كثيراً في غار حراء، في يوم من أيامه وبعد نزوله من الجبل الذي فيه غار حراء واستبطن الوادي -يعني نزل من على الجبل فكان في بطن الوادي الذي يلي الجبل- سمع من يناديه يا رسول الله، يقول نظرت إلى يميني فلم أجد أحداً، نظرت إلى شمالي فلم أجد أحداً، من أمامي ومن خلفي فلم أجد أحداً، فنظرت إلى فوقي، إلى الأفق، السماء، فوجدت ما بين السماء والأرض عرشاً -يعني كرسياً كبيراً- عليه جبريل رآه بهيئته التي هو عليها وكان لعظم خلقه -يعني جبرئيل- أصابني من ذلك فزع ورعب وخوف فارتجفت مفاصل الرسول (ص)، لأن الرسول (ص) لم يكن يرى جبرئيل في كل مرة كما هو على هيئته التي خُلِقَ عليها، مرات محدودة يذكرها المفسرون والمؤرخون لعلَّها مرتان، أو أكثر، منها حين الإسراء ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى / عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾(6)، رأى جبرئيل على هيئته وصورته الواقعية، ورآه أيضاً في غار حراء، ورآه لعله في المدينة أو مكة، أو مرة في المدينة وأخرى في مكة، يعنى لم يرَ النبي (ص) جبرئيل في كل مرة على هيئته التي خُلق عليها، في هذه الرواية تشير إلى أن النبي (ص) رأى جبرئيل جالساً على شئٍ على هيئة العرش، على هيئة الكرسي الفخم الكبير فارتاع النبي (ص) وأصابه هلعٌ ورجفةٌ فذهب إلى بيته إلى السيدة خديجة وهو مرعوب يرتجف.

فقال لها: دثروني، دثروني، فدثرتْهُ -دثرته يعني وضعت عليه رداءً أو ثياباً فوق ثيابه ليستدفئ بها لشدة ما أصابه من الخوف-، هذا المقدار يمكن قبوله من الرواية، أن النبي (ص) حينما رأى جبرئيل على هيئته الواقعية وكان شئ غير مألوف، وغير مأنوس بالنسبة إليه وكان بين السماء والأرض، المنظر كان غريباً، فطبيعة خلق جبرئيل مختلفة عن طبيعة خلق النبي (ص) لذلك فهو غير مألوف عنده، فمن الممكن أن ينتاب النبي (ص) في بادئ الأمر شيءٌ من الإرتياع والإستيحاش فهذا المقدار ممكن القبول كما وقع لموسى (ع)، موسى حينما نادهُ الله عزوجل من جانب الطور الأيمن.

ثم بعد ذلك قال له ألقِ ما بيمينك قألقاه فإذا هي حية تسعى، ولَّى هارباً قال: لا تخف إنه لا يخاف لدي المرسلون، فموسى (ع) انساق مع مقتضى طبيعته، ومقتضى طبيعة الإ نسان أنه إذا رأى منظراً على غيرِ ما كان يتوقع وينتظر فإنه يهرب منه، ويبتعد عنه، ثم لا يلبث أن يرجع بعد ان يستوعب الحدث،- فعلى ما يعبرون الآن- بعد ان يمتص الصدمة ويستوعب الموضوع فإنه يهدأ، فالنبي (ص) -بناء على هذه الرواية -أصابته رِعدة نتيجة المنظر المهول الذي رآه من خلق جبرئيل لذلك ذهب إلى بيته، فقال للسيدة خديجة: دثروني، دثروني، فدثرته بعد ذلك جاءه جبرئيل فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ / قُمْ﴾ فإنَّ وراءك مهمات، أنيطت بك ومسؤوليات عظمى أنت مكلف بها، ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾، هذه رواية.

الرواية الثانية: وهي أيضاً وردت من غير طرقنا عن الزُهَرَي بسندٍ معتبر عندهم ولكنَّه ليس معتبراً عندنا- مفادها: إن النبي (ص) لما أنْ نزل عليه جبرئيل (ع) بالوحي في المرة الأولى، ارتاع واضطرب، وصار يستشعر الوجل والخوف بشكلٍ مستمر فلا يكاد يستقر لذلك ذهب إلى أعالي الجبال يُريد أن يتردَّى منه -يعني يُلقي نفسه من أعالي الجبال- ويقول: إنَّ الأبعد يقصد نفسه، محمدٌ (ص) يصفُ نفسه بالأبعد!! لعلَّه أصابه مس -العياذ بالله-، فيريد أن يتردَّى من شاهقات الجبال، وكلما أراد أن يُلقي بنفسه تبدَّى له جبرئيل، وقال:لا تفعل يا محمد، إنَّك رسول الله، فيطمئن قليلاً ثم لا يلبث أن يُعاوده الاضطراب فيبحث عن شاهقةٍ من شاهقات الجبال يريد أن يُلقي بنفسه منها فيتبدَّى له جبرئيل ويمنعه وُيطمئنُه ويقول: يا محمد، لا تفعل، إنَّك رسول الله، فبعد ذلك حصلت للرسول (ص) نسبةٌ من الاطمئنان، فرجع إلى بيته وقال لخديجة (عليها السلام): دثروني دثروني. هذه رواية خطِرة، فهي تعبِّر عن النبي (ص) لم يكن في بادئ الأمر مطمئناً بأنَّ ما ينزل عليه كان وحياً من الله تعالى.

هذه الرواية المكذوبة استثمروها الكثير من المستشرقين وللأسف وردت بأسانيد متعدِّدة وألسنةٍ مختلفة، ونحن قد تعرَّضنا لها بشيءٍ من التفصيل في إحدى المحاضرات وقلنا: إنَّ هذه الرواية لا يمكن قبولها، فالقرآن يُصرِّح بأن النبي (ص) على بصيرةٍ من أمره، وهذه الرواية تُشير إلى أن النبي لم يكن واثقاً في بداية الأمر من أنَّه نبي ولذلك استثمر المستشرقون والمبشرون مثل هذه الروايات للتضليل والدعوى أن النبي أساساً لم يكن محرزاً أنَّه كان نبيَّاً وأن الذي يأتيه هو الوحي من عند الله عزوجل فلعله كان من هواجس النفس أو من وساوس الشيطان، لهذا فمثل هذه الروايات مكذوبة قطعاً، على أنها تُعبِّر عن ضعفٍ متناه في الشدة قد انتاب النبي (ص)، وهو ما يعبر عن خلل مستحكم في النفس، إذ أن الإنسان الذي يفكر في الإنتحار هو إنسان غير متَّزن وبه مسٌّ من الجنون فلا يصل الإنسان إلى مرحلة يريد أن يقتل فيها نفسه إلا وقد بلغ من اليأس من الحياة وبلغ من الاكتئاب حداً دفعه إلى التفكير في الانتحار، فالإلتزام بمثل هذه الرواية المكذوبة إلتزام بأنَّ النبي (ص) والعياذ بالله ينطوي على نفسية غير متزنة، بل على نفسية مبتلاة بالعديد من الأمراض والعقد النفسانية، أهكذا تنسبون لرسول الله عن علم أو عن غير علم!!

إذن هذه الرواية لا يمكن القبول بها، فهي منافية لما أكَّده القرآن وأكدته الروايات الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته(ع) من أنَّ النبي(ص) كان من أول الأمر على بصيرة تامَّةٍ من أمره، وكذلك هي منافية لما عُلم من حال الرسول (ص) وتميُّز شخصيته بالعقل المتناهي في الرجحان والفطنة الوقَّادة والوقار والسكينة وهدوء النفس وشدة البأس والحزم وذلك أمر لم يكن يتنكر له أعداؤه وشانئوه، فتاريخ الرسالة كله يعبر عن حزم وبصيرة فهو الذي كان يردد وحي ربه دون مواربة ولا تلكأ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ / لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ / وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾(7) آيات القرآن كلها تعبر عن صرامة وجزم ويقين عند النبي (ص) وقد أُثر عنه من الفريقين قوله: "لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو اقتل دونه"(8) كان النبي على يقين من أمره بلا ريب فمثل هذه الروايات لا يمكن قبولها.

الرواية الثالثة: التي وردت في سبب النزول هي أن النبي (ص) كان قد بلَّغ الرسالة وكان قد كُلف وأُنيطت به مسؤولية التبليغ والدعوة، وفعلاً قام بهذا الدور وأعلن عن نفسه أنَّه نبيٌّ من عند الله عزوجل وقد احتار في أمره رجالات قريش وبذلوا الكثير من الجهد من أجل أن يصرفوه عن دعوته إلا أنَّهم لم يُفلحوا، وكانوا يخشون من أنَّه إذا حضر موسم الحج وجاءت وفود العرب أن يلتقي بهم النبي (ص)، وهم يدركون انَّه رجلٌ فصيح، لبيب، قادرٌ على التأثير، وله أساليب مؤثرة جداً وجاذبة، وهذا ما سوف يُؤدي إلى أنْ يدخل معه في أمره رجالٌ من غيرِ أهل مكة من العرب فيكبر أمر محمد (ص)، فماذا نصنع؟ جلسوا أي وجهاء قريش، ليتداولو هذا الأمر قبل موسم الحج، منهم أبو جهل، وأبو لهب، ومنهم أبو سفيان، ومنهم الوليد ابن المغيرة ولعله أكبرهم سناً وأوجهُهُم وهو أبو خالد بن الوليد بن المغيرة، ومنهم النضر ابن حرث أو ابن الحارث، ومنهم أمية بن خلف، ومنهم العاص بن وائل، هؤلاء هم وجهاء مكة جلسوا يتباحثون في شأن النبي الكريم (ص) وكيف يعالجون هذه المشكلة التي طرأت والتي يخشون من تفاقمها بمجيء الوفود -وفود العرب في موسم الحج-.

فقال الوليد وكذلك غيره قال: إنكم حاربتم هذا الرجل، وكلٌّ وصفه بوصف، فبعضنا وصفه بالشاعر، والبعض وصفه بالمجنون، والآخر وصفه بالكاهن، فإذا اختلفنا وجاءت وفود العرب ورأت انَّ كلاً منا يصفه بوصف مختلف سوف يُنتج ذلك نقيض الغرض لأن اختلافنا يُعبِّر عن أننا لم نتثبت من أمر هذا الرجل، وهذا ما سيُنتج عدم قبول الناس لقولنا، وسوف تُصغي بنفسها إليه وتستمع لدعواه للتثبت من أمره، فدعونا نبحثُ عن وصفٍ واحدٍ نصف به النبي (ص) ونحاربه به حتى تقول العرب أنه اجتمعت كلمة قريش على أمر هذا الرجل فيتوثَّق عندهم قولنا فيه، فقال بعضهم نسمِّيه مجنوناً.

فقال: الوليد كيف يكون مجنوناً، والمجنون ليه صفات واضحة، يخافه الناس ويتحاشونه لأنه يضرب ويعبث ويفعل ما هو غريب فيتضاحك الناس منه، هذا لا ينطبق على محمد، لا بد من وصفه يقبله الناس، فقال بعضهم: نُسميه شاعراً، فنقول: هذا شاعر من الشعراء ويدعي لنفسه ما ليس له وهو ليس شيئاً أكثر من كونه شاعراً.

فقال الوليد: لقد خبرت فنون الشعر وسمعت الكثير من الشعر من فحول الشعراء، وما يقوله محمد ليس بشعر والعرب تُميِّز بين الشعر وغير الشعر، فإذا قلنا: إنَّه شاعر وسمعوا قرآنه فسوف يقولون إنَّ تشخيصنا ليس صحيحاً وليس دقيقاً، فقالوا: إذن نُسمِّيه كاهناً.

فقال لهم الوليد: إنَّ العرب تعرف الكهنة، فهم يصدقون تارةً ويكذبون أخرى، ومحمد لم يكذب قط، أنتم تعرفون انَّه لم يكذب قط أربعين سنة عاش بين أظهركم فلم يكذب قط، فلا يصلح هذا الوصف لمحمد (ص)، قالوا: إذن بم نُسميه، فاحتاروا في الأمر وانفضَّ المجلس دون أن يتفقوا على كلمة ولكنهم تعاهدوا على أن يجتمعوا مرة أخرى، بعد ذلك اجتمعوا -وسنفصل في القصة فيما بعد إن شاء الله- وخلصوا بإيعازٍ من الوليد إلى أن يُسموه ساحراً قال: لأنَّ وصف الساحر ينطبق عليه، لماذا؟ قال: لأنَّ الساحر هو الذي يُفرِّق بين الأب وابنه، والزوج وزوجته، وهذا ما فعله محمد، الأبُ مشرك والابن مسلم، والزوج مسلم والزوجة كافرة، فهو فرق بين الزوج وزوجته وبين الابن وأبيه وبين الأخ وأخيه وفرَّق بين هذه العشيرة التي كانت مجتمعة على أمرٍ واحد، فأنسبُ وصفٍ لمحمد هو أنَّه ساحر -والعياذ بالله- وأشاعوا في ربوع مكة أن محمداً (ص) ساحر، هذا الوصف تم وصف النبي (ص) لأول مرة ولذلك حين وصل إلى مسامع النبي أصابه غمٌّ وهم واشتدَّ حزنه، وعرف أنَّ حرباً قد خُطِّط لها سوف يشنونها عليه، فانتابه ما ينتاب الإنسان من الحزن والهم والغم فذهب إلى بيته حزيناً كئيباً وقال للسيدة الخديجة: دثِّروني، فعادة الإنسان إذا أُصيب بغمٍّ أو هم يميل إلى أن يعتزل شيئاً ما يريد أن يسترجع طاقته من جديد أو ينطوي قليلاً، فقال: دثِّروني، دثَّرته السيدة خديجة، فجاء الوحي إليه (ص) وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ / قُمْ فَأَنذِرْ﴾ أنت وراء ك ظهير، ووراءك نصير فلا تخشى من حربهم وكيدهم.

لاحظوا فإنَّ في الآيات -كما سنُبين إنْ شاء الله تعالى- معالجة نفسية أيضاً، الإنسان إذا نتابه حزنٌ فعليه أنْ يُغيِّر من الحالة التي هو عليها، تغيير الحالة التي هو عليها يُساهم في تبدد الحزن، فإذا كان الإنسان مثلاً جالساً واستسلم للسكون والخلود للراحة والانطواء، فإن حزنه لا يذهب، بل انَّ يتأكد ويتراكم ويتضاعف، إذا أصاب الإنسان حزنٌ أو أصابه همٌّ وغم فعليه أنْ يُغيِّر من حالته التي هو عليها، فإذا كان جالساً فليقف، وإذا كان واقفاً فليمشي، وإذا كان ماشياً فليعدو، وإذا كان وحيداً فليجلس بين الناس، ذلك يُساهم في تبديد الهمِّ والغم والحزن، كذلك ورد عن أهل البيت (ع): "أيما رجل غضب وهو قائم فليجلس فإنَّه سيذهب عنه رجز الشيطان، وإن كان جالسا فليقم"(9).

وورد عن الرسول (ص): "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع"(10).

غيِّر هيئتك، تغيير الهيئة يُساهم في تبديد الكبت النفسي الذي ينشأ عن الحزن أو الغيظ أو الغضب أو ما إلى ذلك، ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ وما قال له: فبشِّر، كأنه يُريد القول له: أنت قوي، فالمناسب لقوّتك الإنذار، أنت يُناسبك -هذا تلقينٌ للنفس لبعث القوة فيها- يناسبك الإنذار لا تخشى من شيء، ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ إذا كان الله تعالى هو الكبير في قلبك فسوف ترى كلَّ شيءٍ دونه حقيراً في نفسك، هؤلاء الطغاة وإنْ كبروا في أعين الناس لكنَّهم في الحقيقة ليسوا كبراء، واقعهم ليس كما هو ظاهرهم، ﴿رَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ إذا استشعرتَ أن الله تعالى هو الأكبر سوف يصغُر ما دونه في نفسك، فإذا صغر ما دونه في نفسك فسوف تحتقره، وإذا احتقرته فسوف لن تعتني به ولن تبالي به بحربه ولن تكترث بكيده، وإذا كبُر الله تعالى في قلبك فسوف لن تخشى شيئاً، وإذا استشعرت أن الله ظهيرُك وملجؤك وناصرك، فمِن أيِّ شيءٍ تخشى ؟!، تلاحظون الطفل إذا كان في كنف أبيه فإنَّه لا يخشى الأطفال الذي في سنِّه لكنه إذا صار وحده فإنه يخشاهم، الإنسان إذا استشعر أنَّه في محضر الله وأن الله يُدافع عن الذين آمنوا وأنَّ الله ظهير المؤمنين ونصيرهم وملجؤهم وكالؤهم ومعتمدهم، وإذا فوضتُ أمري إلى الله عندئذٍ لن أخشى شيئاً وسوف أستسهل الصعب وأستمرأ المشقة.

يا محمد ﴿قُمْ فَأَنذِرْ / وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ هذا الخطاب بعث في النبيِّ محمدٍ (ص) قوةً وعزماً على ما هو عليه من قوة وعزم، ولقد كان الله عزوجل بقرآنه الذي أنزله على قلب محمد (ص) معلماً للنبي (ص) ومثبتاً لفؤاده: ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾(11) النبيُّ (ص) خصوصاً في مبدأ الدعوة كان يحتاج دائماً إلى الدعم المعنوي لأنَّ كلَّ من حوله كانوا ضدَّاً له وحرباً عليه إلا الأقل.

نستكمل الحديث فيما بعد إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة المدثر / 1-7.

2- سورة العلق / 1.

3- جامع أحاديث الشيعة -السيد البروجردي- ج15 / ص120.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج6 / ص148.

5- مصباح المتهجد -الشيخ الطوسي- ص83.

6- سورة النجم / 13-14.

7- سورة الكافرون / 1-3.

8- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج9 / ص143.

9- تحف العقول ص14.

10- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف -عبد العظيم المنذري- ج3 / ص450.

11- سورة الفرقان / 32.