تفسير سورة المدثر -2

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ / قُمْ فَأَنذِرْ/ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ / وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ / وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ / وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ / وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾(1)

صدق الله مولانا العليِّ العظيم

كنا قد تحدثنا في الجلسة السابقة حول منشأ نزول هذه السورة المباركة، وذكرنا أنها من السور المكيَّة، بل إنَّها من أوائل السور التي نزلت على قلب رسول (ص) ولم نرتضِ دعوى أنَّها أول سورةٍ أو أول ما نزل على قلب رسول الله (ص) ولكن ما يُمكن التثبُّت منه أنَّها نزلت في أوائل المبعث النبوي الشريف.

معنى المدثِّر:

المراد من المدثِّر هو المشتمل بشملةٍ أو غطاءٍ، والملتحف به لغرض أن يستدفئ به أو لغرض أن ينام، وأصلُ المدثِّر هو المتدثِّر ولكن اُدغمت التاء في الدال فأصبحت المدثِّر.

وقلنا: إنَّ الخطاب موجَّهٌ للنبي (ص) لمنشئٍ من المناشئ التي تحدثنا عنها في جلسةٍ سابقة، وكان أحد هذه المناشئ هو أن النبي (ص) قد انتابه حزنٌ شديد نتيجة إجماع قريش على محاربته، والتخطيط من أجل إسقاط دعوته وتشويه صورته أمام وفود العرب التي ستأتي إلى الموسم -موسم الحج- أو أن منشأ خلود الرسول (ص) إلى الراحة والتدثُّر هو أنَّه اصابه شيءٌ من الفزع نظراً لرؤيته جبرئيل (ع) على صورته التي خُلق عليها، أياً كان المنشأ فإنَّ القرآن في هذه الآية المباركة أراد أن يبعث العزمَ والنشاط في قلب رسول الله (ص) وكأنَّه أراد أن يقول له: لا مجال للراحة، ولا مجال للسكون، وإنَّ المسؤولية التي أُنيطت بك ثقيلة وهي بحاجةٍ إلى عزمٍ صلب وإرادةٍ قوية، قم يا رسول الله، ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ فقد آن وقت التبليغ ووقت الدعوة إلى الله، وقد آن وقت المواجهة والمقارعة لقريش وما تعبد، وقد تعلقت إرادة الله عزوجل أن يُزيل عن هذه البشرية ما علُق في أذهانها وقلوبها من جاهليَّة، ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ وبلِّغ الناس ما أوحيناه إليك وعلَّمناه إياك، هذه الطريقة التي اعتمدها القرآن مع النبي (ص) كان لغرض تثبيت فؤاده من جهة، ولتأديبه وتربيته من جهةٍ، ولذلك فإنَّ الرسول (ص) كان كثيراً مايقول كما يُروى عنه: "أدَّبني ربِّي فأحسن تأديبي"، فالقرآن هو مؤدِّب الرسول (ص) وهو معلِّم الرسول (ص) وقد تمثَّل القرآن وتجسَّد في سلوك الرسول (ص) حتى انَّه لما أن سُئلت إحدى زوجاته عن أخلاقه (ص) قالت: كان خلقُه القرآن(2)، كان خلقه القرآن.

علاج السأم والمشاعر السلبيَّة الطارئة:

قلنا: إنَّ الآية المباركة التي تصدَّرت هذه السورة ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾ تبعث في قلب رسول الله (ص) النشاط لأنَّ فيها إشارة إلى أمرٍ مهم وهو أنه ينبغي للإنسان إذا استشعر شيئاً غير مناسبٍ فعليه للتخلُّص منه أن يُلِّقن نفسه نقيضه المناسب، عندئذٍ سيجد أنَّ ذلك الأمر الذي استشعره قد تبدَّد، فإذا استشعر الإنسان مثلاً أنَّه خاملٌ ومصابٌ بالسأمِ والضجرِ والملل، فتارةً يستسلم لهذا الشعور فيلجأ على أمل التخلُّص من هذا الشعور للخلود إلى الراحة والاستجمام، وحينئذٍ سوف يجد انَّ هذا الشعور قد تأكَّد في نفسه وتضاعف وكلّما طال خلوده للراحة كلّما وجد الشعور بالضجر والسأم قد تراكم حول قلبه واستحكم من نفسه حتى لا يكاد يقوى على الخروج من هذه تأثيره فيجد نفسه أسير هذا الشعور، ذلك لأنَّه أخطأ طريق العلاج.

إنَّ وسيلة العلاج من حالة الشعور بالضجر والملل والكسل والسأم هو أن يُلقِّن الإنسانُ نفسه، أنه ليس سئماً، ويُوحي لها أنَّه نشيط، يُحدِّث نفسه بالنشاط والحيوية، عندئذٍ يتبدَّد الشعور بالسأم والكسل، طبعاً الآية لاربط لها بالسأم وإنَّما ذكرنا ذلك للإيضاح والتمثيل، فالمُبتلى بالشعور بالسأم لا ينبغي له الإستسلام لهذا الشعور أو يخلد للراحة والاستجمام بتوهُّم أنَّ ذلك قد يصرف عنه هذا الشعور وإنما يُبدِّل حالته ويتكلَّف حالةً تناسب الشعور الذي يُريده أن ينبعث في نفسه، السأم يناسبه الراحة إذن لابدَّ من القيام بعملٍ يتناقض مع هذا الشعور ثم يُلقِّن الإنسان نفسه ما هو نقيض هذاالشعور فالذي يناقض الشعور بالسأم هو النشاط الذي هو نقيض أو ضدٌ للسأم، فالحركة، والقيام، والمشي، والمحادثة والإستحمام هي مما يُحفِّز في النفس الشعور بالنشاط، إذن لابدَّ وأن أفعل شيئاً من ذلك، إذا أردتُ أن أتخلَّص من هذا الشعور الضاغط على النفس، وكذلك ينبغي أن أُلقِّن نفسي أني لستُ سئماً ولا كسولاً، بل أنا في غاية النشاط.

إنَّ التلقين -تلقين النفس-، من أنجع العلاج لهذه الأعراض النفسانية فهكذا هو علاج الغضب، وكذلك الغيظ، لا ينبغي للإنسان أن يصبح أسير مشاعره السلبية، فينبغي أن يستبدلها بمشاعر إيجابية ويُلقِّن نفسه أنه واجدٌ لها عندئذٍ سوف يكتسبها ويحظى بها لأنَّ الأخلاق والسلوكيات والسجايا لا تأتي بالطبع وإنَّما بالتطبُّع والتكلُّف لها، تخلَّق تصبح خلوقاً، تطبَّع بالسجايا الحميدة تُصبح هذه السجايا ملكاتٍ عندك، هكذا نستفيد من الآية المباركة، فمثلاً الرسول (ص) كان يستشعر الحزن وأن الجميع قد تظافرت جهودهم وكلمتُهم على حربه، لذلك فإنَّ الله عزوجل أراد أن يبعث فيه القوة فقال له: ﴿قُمْ﴾ وكما أشرنا فيما سبق أنَّ هذه المشاعر تتبدد بتغيير الحالة فإذا كنت غاضباً وكنت جالساً فقف كما ورد عن أهل البيت (ع) أو كنت جالساً فامشِ عندئذٍ يتبدَّد الغضب الذي انتابك واستشعرته، هنا أيضاً قوِّ قلبك، واستشعر أنَّك قوي، أنَّ لك ظهيراً تستند عليه، أنَّ لك ملجأ تؤوب إليه عندئذٍ ستستشعر القوة.

﴿قُمْ فَأَنذِرْ / وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾، إستعظمِ الله عزوجل في نفسك تستشعر القوة، وهذا ما أدَّبنا عليه الرسول (ص) وأهل بيته (عليهم السلام) في كلماتهم، لاحظوا المناجاة التي يُناجي بها أهل البيت(ع) الكثير منها هي عبارة عن عملية تلقين للنفس، "إلهي قوِّ على خدمتك جوارحي" -استشعر هذا الأمر وأوحِ إلى نفسك انك واجدٌ له- قوِّ على خدمتك جوارحي، واشدُد على العزيمة جوانحي، وهب لي الجدَّ في خشيتك، والدوامَ في الإتصال بخدمتك، حتى اسرح إليك في ميادين السابقين، وأُسرع إليك في المبادرين"(3)، في هذه الكلمات تلقينٌ للنفس والإيحاء لها بالمشاعر الإيجابية، فإذا وجد الإنسان هذه المشاعر في نفسه قويت عزائمه "ما ضعف جسد عما قويت عليه عزيمة"، إذا حدثت نفسك أنَّك نعسان وتشعر بالبرد فلن تقوم الليل، أما إذا حدَّثت نفسك بأهمية قيام الليل وان ذلك هو يصلح النفس ويقومها فإنك ستكون في غاية الإستعداد لقيام الليل، لاحظوا أيها الإخوة النفس بحاجة دائماً إلى مَن يُحدثها فإن تركتها بلا سياج ولم تتولَّ أنت الحديث إليها غزاها الشيطان فهو الذي يحدثها، ومن يكون سميره الشيطان، ومُحادثه الشيطان فبأيِّ شيء سيلقنه؟!، فالإنسان الحريص على حماية نفسه من المشاعر السلبية يتولى هو بنفسه الحديث إليها وحينئذٍ سوف لن يحدِّثها إلا بما ينفعها ويصلحها لو كان عاقلاً، فلابد أن يُحدِّث الإنسان نفسه بنفسه ويُلِّقن نفسه ما يبعث فيها الملكات والسجايا الحميدة.

ما معنى ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾؟

هنا تقديم وتأخير، قُدِّم المفعول به وأُخِّر الفعل، والغرض من ذلك هو بيان الحصر -تقديم ما حقُّه التأخير وتأخير ما حقُّه التقديم يُفيد الحصر-، يعني لا تُكبِّر غير الله تعالى، ليس ثمة من كبيرٍ إلا الله عزَّوجل، ليكن ذلك هو ما تستشعره في قلبك عندئذٍ لن تخشى شيئاً، عندما يكون الله تعالى هو الكبير في قلبك وليس من أحدٍ كبيرٌ في قلبك، إذن أيَّ شيءٍ تخشى؟ لن تخشى شيئاً، جبابرة قريش، ذؤبان قريش، حرب قريش، تخطيط قريش، لن تعبأ بشيءٍ من ذلك، لماذا؟ لماذا لن تعبأ ولن نكترث بكل ذلك؟ لأنَّهم ليسوا كبراء في قلبك، إذا كبُرَ الله في قلبك حقُر كلُّ شيء في نظرك، سوف تتصاغر كلُّ الجبابرة، وتسهُل كلُّ الصعاب في نفسك عندما يكبر الله عزوجل في قلبك، ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أي كبِّره وحده وحسب.

أن يكون الله كبيراً في قلبك أول صفات الداعية:

هذه أحد الوسائل والدعامات الأساسية التي ينبغي أن يكون عليها الداعية إلى الله عزوجل، لذلك خاطب الله تعالى بها نبيَّه (ص) ليتعرَّف على ذلك السائرون على منهجه والحاملون لرسالته، فأول صفة ينبغي أن يكون عليها الدعاة إلى الله تعالى هو ان يكون الله عظيماً كبيراً في قلوبهم فهو متعالٍ في جوانحهم فلا يُعلى عليه ولا يُجارى، وكلُّ ماعداه حقيرٌ في جنبه ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾.

التكبير يعني التنزيه ويساوق التوحيد:

ثم إنَّ الأمر بالتكبير لله تعالى يعني أيضاً تنزيه الله تعالى عن كلِّ الصفات التي لا تليق بشأنه وساحة قدسه ولا تناسب عظمته غير المتناهية كالتحيُّز والتجسُّم والمشابهة والمحدوديَّة في القدرة والعلم والعدل والوجود وغير ذلك مما يُعبَّر عنه في علم الكلام بالصفات السلبيَّة، ويعني التكبير أيضاً أنَّه ليس من إلهٍ غيره، لأنَّ الإله الحقَّ ينبغي أن يكون أكبر من كلِّ شيء، فإذا إعتقد الإنسان انَّ كلَّ شيءٍ فهو دون الله عزوجل فهذا هو معنى التكبير وهو عين التوحيد، وذلك هو أساس الدين الذي بُعث الرسول(ص) للدعوة إليه، فالأمر بالتكبير يُساوق الأمر بنبذ الشرك وأن يقطع الإنسان علائقه بكلِّ الأصنام سواءً التي في نفسه أو التي في الخارج من الأوثان والمعبودات الوهميَّة، فإذا كان الداعيةُ إلى الله تعالى واجداً لهذا اليقين عندئذ يتأهَّل للتصدِّي للدعوة، على أيِّ حال لا نريد أن نقف طويلاً عند هذه الآية.

﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ / وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾.

ما معنى ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾؟

ذُكرت العديد من المعاني لهذه الآية الشريفة ولعلَّ مجموع هذه المعاني مقصودة للآية المباركة:

المعنى الأول: تطهير العمل وإصلاحه:

أول معنى نذكره هو أنَّ المراد من تطهير الثياب هو إصلاحٌ السلوك والعمل، طهِّر ثيابك ليس بمعنى تنظيف اللباس والثياب من القذارات وإنَّما هو بمعنى تطهير السلوك من الأعمال الشائنة، فالعرب كانت تصف الإنسان الصالح الذي لا يرتكب الفحشاء والمنكرات تصفه بأنَّه طاهر الثوب، أو نقي الجيب أو الذيل، وتصف الإنسان الفحاش أو المرتكب للخبائث بأنَّه دنس الثياب أو يقال له خبيث الثياب، لذلك قال الشاعر:

وإنِّي بحمد الله لا ثوب فاجرٍ لبستُ ولا من غدرةٍ أتقنعُ

فشبَّه الفجور بالثوب التي تُلبس، فقوله تعالى: ﴿ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ يعني أصلح عملك، ليكنْ عملك مناسباً للصالح من الخصال كالبر والإحسان وصلة الرحم وفعل مطلق الخير، والطاعات، هذا هو تطهير الثياب وفي مقابله تدنيس الثياب وهو أن يرتكب الإنسان مثل الفحشاء والمنكر والكذب وما يسوء ويشين من الخصال، فالمراد من الأمر بتطهير الثياب هو تنزيه العمل والسلوك عن فعل ما يشين من الأفعال، هذا هو المعنى الأول.

المعنى الثاني: تزكية النفس:

انَّ المراد من الأمر بتطهير الثياب هو تزكية النفس، فالمراد من الثياب في قوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ هو ما تشتمل عليه النفس من صفات، فتارةً تشتمل النفس على الرذائل من الصفات، فقد يكون الإنسان وقحاً، أو يكون متكبِّراً، متعالياً، أو يكون حقوداً، أو يكون حسوداً، أو يكون شريراً ماكراً يبغي الكيد والظلم للناس، وتارة تلبس النفس ثوب التقوى بحسب التعبير القرآني: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ﴾-، فالتقوى من شئونات النفس والقرآن عبَّر عنها باللباس، فالمراد من تطهير الثياب هنا -بناء على هذا القول -هو تزكية النفس عن رذائل الصفات النفسانية كالحقد والضغينة والحسد والبغي والكيد والكبرياء والعجب وما إلى ذلك، هذا هو المعنى الثاني.

المعنى الثالث: تشْمير الثياب:

المعنى الثالث الذي ذكره المفسِّرون لتطهير الثياب هو تقصير الثياب، ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ يعني وثيابك فقصِّر، وقد ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) انَّ قوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ يعني وثيابك فشمِّر، والمراد من التشمير والتقصير للثياب هو رفعها عن مستوى الأرض، فالثياب على نحوين: فتارةً تكون أذيالها طويلة تجرُّ في الأرض، أي تكون ملامسة للأرض، وتارة تكون أرفع من ذلك بحيث لا يكون مشي الإنسان بثيابه مفضياً إلى أن تلامس أذيالهُ الأرض، فالآية المباركة تأمر بأن يرفع الإنسان ثيابه عن مستوى الأرض حتى لا تتلوَّث بالقاذورات، فسطح الأرض كما تعلمون هي مسقط القاذورات والنجاسات والأوساخ، فإذا كانت ثياب الرجل طويلة بحيث تلامس الأرض عند المشي عندئذٍ سوف تكون عرضةً للتلوُّث بالنجاسات والقذارات والأوساخ، فالآية تأمر النبي (ص) وتأمر الناس بأن يُشمِّروا عن ثيابهم، وقد وردت في ذلك روايات عديدة تؤكِّد هذا المعنى، فمن آداب اللباس هو إتخاذ ثيابٍ مرتفعة عن مستوى الأرض حتى لا تتلوَّث بالقاذورات، وهذا الذي ينبغي أن يتأدَّب به المسلمون في ثيابهم فلا يلبسوا ما يكون منافياً لما أمر به النبي (ص) وأهل بيته (ع) وإنَّما يحرصوا على أن تكون ثيابهم التي يلبسونها مشمَّرة ومرتفعة شيئاً ما عن مستوى الأرض.

وهنا أمرٌ ينبغي الإشارة إليه أيضاً وهو أنَّ عدداً من الروايات أفادت أن أحد مناشئ الأمر بالتشمير هو أنَّ جرَّ الثياب يُناسب الخيلاء والكبرياء، فالمتكبرون من الناس -خصوصاً فيما سبق من الزمان- فالمتكبِّرون هم الذين يجرُّون أذيالهم، فالمتبِّكر يمشي وثيابه تجرُّ خلفه على الأرض، هكذا كان يفعل الملوك وأصحاب الوجاهات والثراء، فالروايات إذن تنسب الخيلاء أو التشبُّه بالمتكبرين لكلِّ مَن لبس ثياباً تجرُّ في الأرض، وهي رواياتٌ عديدة لا مجال لعرضها الآن، فمنشآن للنهي عن لبس الثياب التي تجرُّ في الأرض:

الأول: أنها تكن عرضةً للتلوث بالقاذورات والنجاسات.

الثاني: هو أنها تكن من أفعال المتكبرين.

ثم إنَّ هنا أمراً أيضاً نودُّ أن نُشير إليه قبل الإنتقال إلى المعنى الرابع، وهو أنَّ الأمر بتشمير الثياب وإن كان وارداً عن الرسول (ص) وعن أهل البيت (ع) ولكن ليس بالمعنى الذي يتوهَّمه بعض المسلمين بحيث يرفع ثيابه إلى منتصف الساق فيكون مَعرَضاً للتندُّر والتهكُّم والسخرية من قِبل الناس ليس هكذا هو أمر النبي (ص) وأهل البيت (ع)، فالنبي (ص) وإنْ أمر برفع الثياب عن مستوى الأرض، وكذلك عليُّ بن أبي طالب (ع) وكذلك أهل البيت (عليهم السلام) وكذلك السلف الصالح ولكن لا يكون ذلك بما يباين الثقافة الاجتماعية السائدة التي أنت في وسطها، أن تلبس ثياباً تكون منشأً للتندر والتهكُّم فذلك ما لا يرتضيه الشرع الحنيف، المؤمن يلبس ما يلبسه الأسوياء من الناس ولكن مع المحافظة على الآداب الإسلامية، نذكر لكم أيها الإخوة رواية، وهي انَّ الإمام علي (ع) في أيام خلافته كان قد أراد شراء ثيابٍ له بثلاثة دراهم فذهب إلى بائع الثياب، فاشترى قميصاً، وإزاراً، ورداء، فلبس القميص الذي إختاره فوصل إلى نصف ساقه- طبعاً الآن الشاب يلبس قميصاً لا يجاوز سرَّته، كان قميص الإمام علي(ع) يتجاوز ركبته ليصل إلى نصف ساقه والشباب يلبسون مالا يصل إلى السرة!! والأنكى من ذلك انَّ بعض الفتيات يلبسن قميصاً إلى السرة، عيب والله عيب والله عيب رجلٌ محتشم محترم وظهره وسرتة باديةٌ أمام الناس!! فالإمام علي (ع) اشترى قميصاً ولبسه فوصل إلى منتصف ساقه، وأخذ إزاراً ولبسه وشمَّره -يعني رفعه عن مستوى الكعب-، وأخذ رداء فلبسه فما تجاوز الفخدين، وقد علَّق الإمام الصادق(ع) على ذلك -كما يروى عنه -بما حاصله انَّه: "ينبغي للمسلمين أن يلبسوا مثل هذا اللباس ولكن لو لبسه أحدٌ من الناس في هذا الوقت -وقت الصادق- لقالوا أنَّه مجنون أو مُراءٍ"، فالإمام الصادق (ع) يريد يشير إلى أنَّه لابد من ملاحظة الوسط الإجتماعي، في وقت الإمام علي هذا اللباس كان هو المتعارف، غاية ما في الأمر أن الإمام علي هذَّبه بحيث يتناسب مع الأدب الإسلامي، وهو رفعه عن مستوى الأرض وأن لا يكون فيه بذخ، الإمام الصادق أيضاً أفاد بأنه ينبغي أن يكون اللباس كذلك، بمعنى أن يكون مرتفعاً عن مستوى الأرض وأن لا يكون فيه بذخ ولكن لا تكون هيئته وزيُّه على الهيئة التي كان عليها قميص وإزار ورداء الإمام، لأن ذلك لا يتناسب مع عصر الإمام الصادق(ع) فضلا عن عصرنا، فما يفعله بعض الحمقى يزعم انه يتزيا بزيِّ السلف الصالح فيلبس مثل لباس أبي ذر بل ويزيد على أبي ذر حتى ان بعضهم يلبس الثوب فلا تكاد تُغطِّي ركبتيه ويتوهَّم انَّه كلما رفعها أكثر ازداد إيماناً وسلفيَّةً، هذه حماقة، لم يأمر الإسلام بذلك، إنَّ الإسلام لا يأمر بأن يكون لباس المؤمن موضعاً للتندُّر والسخرية، فحين أمر النبي (ص) بتشمير الثياب فذلك معناه انْ لا تكون الثياب من الطول بحيث تجرُّ في الأرض فتكون معرضاً للتلوُّث بالقذارات والأوساخ هذا هو معنى ما ورد عن الرسول (ص)، أما أنْ تلبسَ ثياباً تكون بها في معرض التهكم والسخرية عليك من الناس، فهذا تشويه لصورة المسلمين، فلذلك تجد المجتمع الغربي إذا أرادوا الإشارة إلى المسلم والتعريف به رسموا رجلاً يلبس ثوباً لا تتجاوز أعلى الساق كأنَّهم يوحون بذلك إلى حماقة المسلمين، نعم، نحن لا نقبل ما يفعله الشباب والأولاد من التقليد الأعمى للآخرين، فالمؤمن أيها الأخوة ينبغي أن يكون لباسه محتشماً، المؤمن وقور ومحتشم، فأول صفة ينبغي أن يتَّصف ويتزيا بها المؤمن هي الوقار والحشمة، هذه هي سيماء المؤمنين الوقار والحشمة، وأول شيءٍ يُعبِّر عن وقار الإنسان وحشمته هي ثيابه، إذا أردت أن تعرف أحداً فانظر إلى ثيابه فإنْ كانت محتشمة ووقورة فصاحبها صاحب قلبٍ وقور وعقلٍ وقور، فالعقل يكون وقوراً ومتَّزناً ويكون خفيفاً ومتأرجحاً وكذلك النفس تكون وقورة وتكون مضطربة، فصاحب القلب الوقور والعقل الوقور لباسه وقور، ومشيه وقور، وحديثه وقور، فالسلوك يعكس المشاعر، ويعكس مستوى الذهن، فلذلك تلاحظون أكثر الثياب واللباس من هذا النوع يلبسها الأطفال لأنَّ الطفل لا تنتظر منه وقاراً ولا حشمة، لكن المسيئ أن يلبسه الكبير، فالمؤسف ان ترى رجلاً كبيراً وهو يلبس الثياب غير المحتشمة وغير الوقورة أو ترى إمرأةً راشدة وهي تلبس غير المحتشم من اللباس، هذا الذي ينبغي أن نلتفت إليه، القرآن قال لك: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ فهو يُعطيك الضابطة، فلا يفرض عليك لباساً خاصاً وزيَّاً معيَّناً ولكنَّه يدعوك إلى أن يكون هذا اللباس طاهراً، نظيفاً، لا يجرُّ في الأرض، ومحتشماً، وقوراً لا يُسقطك في أعين الأسوياء من الناس، هكذا ينبغي أن يكون لباس المؤمن.

ونستكمل الحديث فيما بعد إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة المدثر / 1-7.

2- مسند أحمد -الإمام أحمد بن حنبل- ج6 / ص91.

3- إقبال الأعمال -السيد ابن طاووس- ج3 / ص337.