تفسير سورة المدثر -4

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد -اللهم صل على محمد وآل محمد- وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.

 

انتهى بنا الحديث حول سورة المدثر إلى قوله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ / وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ / وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾(1)

صدق الله مولانا العلي العظيم

 

معنى الهجران للرجز:

والمراد من الأمر بهجر الرجز هو الأمر بمفارقته وقطيعته، فهجران الشيء تعني اجتنابه ومفارقته وقطيعته، وكلُّ هجرانٍ بحسبه -يعني بحسب الشيء الذي يُراد هجرانه، فهجران البلد هو مفارقتها والابتعاد عنها.

 

وهجران القرآن كما ورد في قوله تعالى: ﴿إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾(2)، الهجران في الآية بمعنى ترك تلاوة القرآن، وخلو القرآن من قلب الإنسان، فعندما لا يكون القرآن هو هاجس المؤمن، ولا يحمل قلبُ المؤمن آيات القرآن ومعانيه ومضامينه فهذا ممن هجر القرآن بقلبه، فهو لا يعبأ بآيات القرآن ولا بمعانيها ولا بالمضامين التي اشتملت عليها فهو يفكر من عند نفسه دون أن يجعل ضابط تفكيره القرآن، فهو لا يعتني ولا يكترث بما تضمَّنه القرآن من أوامر وزواجر وقيم ووصايا، فهذا ممَّن هجر القرآن بقلبه، وكذلك مَن يكون تاركاً لتلاوة القرآن، فلا يعبأُ بهذا الشأن ولا يهتمُّ إليه، فهذا أيضاً ممَّن هجر القرآن، قد يكون القرآن معلَّقاً على صدره أو موضوعاً في أحسن الرفوف عنده في بيته وفي مكتبته وفي مركبته ولكنَّه لا يقرأ في اليوم منه صفحةً واحدة، فهذا ممَّن هجر القرآن، فهجران القرآن يكون بترك تلاوته وبترك التمثُّل بمضامينه ومعانيه.

 

وأما هجران البلد كما قال إبراهيم (ع) عندما دعا قومه ووعظهم وأرشدهم فلم يعبؤوا بقوله ولا بوعظه ولا بنصحه، ﴿قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾(3)، يعني تاركٌ لكم هذه البلد، فهذا هو الهجران المناسب لهذا الأمر، فكلُّ هجرانٍ بحسبه كما سنوضِّح ذلك أكثر فيما بعد، فهجران الرجز هو تركه، فعندما يكون الرجز بمعنى القبيح من الأفعال، فهجرانها يعني تركها واجتنابها، فالهجران هو الاجتناب لهذا الأفعال، وأما المراد من الرجز وسوف نعود إلى معنى الهجران إنْ شاء الله تعالى ونفصَّل فيه أكثر.

 

المراد من الرجز ما هو؟

ذُكرت للرجز معانٍ عديدة لعلَّها في المآل تعود إلى معنىً واحد سنُشير إليه فيما بعد إن شاء الله تعالى، فمَّما ذكروه من معاني الرجز أنَّه بمعنى العذاب، فالرجز يُطلق في اللغة وفي القرآن أيضاً ويُراد منه العذاب، لذلك ورد في قوله تعالى يحكي عن ما وقع لقوم موسى (ع) أيام فرعون: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ﴾ -أي العذاب- ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ﴾ -يعني لئن كشف الله عنا العذاب- ﴿لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ/فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾(4)، هاتان الآيتان تُشيران إلى ما وقع لموسى(ع) وقومه بعد حادثة السحَرَة الذين جمعهم فرعون لغرض إبطال ما أدَّعاه موسى (ع) من أنَّه نبي ومن أنَّ هذه العصا هي معجزتُه من عند الله عزوجل، فجمع فرعونُ السحرة لعلَّهم يتمكنون من الغلبة على موسى (ع) فيكون في ذلك إسقاطاً لدعواه بحسب توهُّم فرعون، فوقعت الحادثة، فبعد أن ألقى السحَرَة حبالهم وعصيَّهم ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ وأوهموهم أنَّها تسعى، ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾(5)، فألقى موسى (ع) العصا فالتقمت كلَّ تلك العِصي، وكلَّ تلك الحِبال، وأُسقط في يدِ فرعون وشعر بالهزيمة، وخرَّ السحَرةُ سجداً لله عزَّوجل وأقرُّوا بنبوَّة موسى (ع) وأنَّه نبيٌ من عند الله تعالى وأنَّ هذه العصا معجزةٌ وليست سحراً، بعد هذه الواقعة بقيَ فرعونُ في سدَّة الحكم عشرين سنة كما يذكر بعض المؤرخين وبعض الروايات أيضاً تذكر ذلك، فكانت له السطوة والسلطة، لذلك هدَّد بأن يُقطِّع أيدي وأرجُل السحرة ومَن آمن بموسى(ع)، وقد تمَّ له ذلك، فعذَّبهم، ونكَّل بهم، وحبس الكثير من بني إسرائيل ممَّن آمن بموسى (ع).

 

ومن أجل أن يُقيم اللهُ عزَّوجل الحجَّة بعد الحجَّة على فرعون وقومه، كان يُرسل بالآيات وبالمعجزات فكان قد أرسل عليهم الطوفان، والقُمَّل، والضفادع والدم، آيات مفصلات في هذه العشرين سنة لغرضين كما تُوضح الآية:

 

الغرض الأول: أن يثوبوا إلى رشدهم فإن كانوا يشكُّون في العصا وأثرها الإعجازي، فها هي معجزةٌ أخرى، وها هي ثالثة ورابعة، وخامسة، لعلَّهم يثوبون إلى رشدهم.

 

الغرض الآخر: كانت تلك الآيات والمعجزات وسيلةً للضغط على فرعون من أجل أن يفكَّ سراح مَن حبسهم وسجنهم من بني إسرائيل، لذلك تلاحظون انَّه كلَّما تقع آية من هذه الآيات، وكلَّما يقع عذابٌ من هذه العذابات، يأتون إلى موسى(ع)، فيقولون له: ﴿لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ﴾ وهذا معناه ظاهراً انَّ بني إسرائيل قد تمَّ حبس الكثير منهم من قبل فرعون أو قسرهم على البقاء في خدمة فرعون وتحت سلطانه هو وقومه، يقول الله عزوجل: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾(6).

 

الطوفان الذي إجتاح قوم فرعون:

فأولاً بعث عليهم الطوفان، فكان سيلاً عارماً أتلف مزارعهم وبلغ إلى بيوتاتهم، واستمرَّ هطول الأمطار الغزيرة على ديارهم أياماً ثمانية كما في بعض النقولات فغمرت المياه مزارعهم ومنازلهم، ولعل النيل قد ارتفع منسوبه فسطا على بيوتهم وزروعهم حتى أن الرجل لا يستطيع أن يجلس في داره، فلو جلس فإنَّه يغرق، لأن الماء قد بلغ تراقيهم، والمُلفت للنظر أن بيوتات الأقباط كانت قريبة من بيوتات بني إسرائيل ومقتضى طبيعة الحال انَّ بيوتات الأقباط وأتباع فرعون من حيث التماسك والشدة والفخامة، أفضل من بيوتات بني إسرائيل لأنَّهم المستضعفون في تلك الأرض، فالملفت كما في بعض الروايات أنَّ بيوتات الأقباط قد غرقت بالماء ووصل الماء فيها إلى حد التراقي وأما بيوتات الفقراء من بني إسرائيل فلم يصبها أذىً، ولم يدخلها الماء، ومات العديد من الأقباط من جنود وأتباع وقوم فرعون، ووصل الماء إلى قصور فرعون.

 

فتأذَّى فرعون وقومه لذلك أشدَّ الأذى فلم يعُد لهم استقرار حتى في منازلهم، تصوروا أنَّ ماءً في البيت يعلو حدَّ قامة الإنسان أو أقل بقليل، أين يجلس أصحاب الدار؟ وأين يستقرون؟ وما الذي بوسعهم ان يصنعوه؟ عذاب، وقد استمرَّ ذلك بهم دون ان تكون لهم حيلة في الخلاص من هذا العذاب سوى الإنتظار متى تُمسك السماء مطرها؟ ومتى يقف هذا السيل ثم ينحسر دون جدوى، فالانتظار لم يعد بوسع أحدٍ تحملُّه، لذلك لجؤوا إلى موسى، ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ -أي هذا العذاب- لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ﴾، فدعا موسى (ع) ربَّه، فانقطع المطر، وتوقفت السيول على هيئةٍ وطريقةٍ، غريبة وملفتة للنظر، كيف تقف السيول بهذا النحو وتنصرف عن أحيائهم بعد أن كانت متجهة إلى محالهم وزروعهم وبيوتاتهم وقصورهم، لكنَّ ذلك هو ما وقع، والعجيب كما يذكر المؤرخون أن مزارعهم قد تحوَّلت إلى غيطان مستنقعات من الماء، فجاء موسى (ع) ودعا ربَّه أو ألقى عصاه فجفَّ الماء فجأةً وليس على مراحل، فلم يكن لأحد التذرُّع أو التوهُّم بأنَّ الشمس هي التي جفَّفته وان تمادي الأيام كان لها الأثر في تجفيف الماء لم يكن الأمر كذلك بل انَّ الماء الذي كان قد أحاط بزروعهم وأغرقها قد جفَّ لحظة دعاء موسى (ع)، ليكون ذلك حجةً عليهم، لذلك أفاد القرآن: ﴿آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ﴾، أي معاجز واضحات، لا تترك مجالاً للشك والريبة.

 

شأنُ الطغاة الكذب والنكث بالعهود:

إنتهى الطوفان، وجفَّت الأرض، وقامت الزروع، وترك لهم موسى (ع) فرصةً من وقت ليتعافوا وليتأكَّدوا أنَّ الطوفان لن يعود إليهم، فما عاد الطوفان، وقامت الزروع، وانتعشت المواشي، وعاد الناس إلى حالهم كما كانوا، فأين وعدك يا فرعون؟

 

يُقال: إنَّ فرعون همَّ بأنْ يُطلق سراح بني إسرائيل، ولكنَّه أبى أنْ يُؤمن رغم انَّه وعد موسى (ع) بذلك إذا كشفَ عنهم الطوفان، فهو قد همَّ بأنْ يُرسل بني إسرائيل، إلا انَّ هامان وبطانةَ فرعون أبَوْا عليه ذلك، فقال له هامان: لئن أرسلتَ بني إسرائيل، وأطلقت سراحهم، صاروا شوكةً لموسى فتمكَّن منك، فاستوجه فرعونُ هذا الرأي فنكث بوعده الثاني كما أفاد القرآن الكريم: ﴿إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾(7)، شأنه في ذلك شأن كلِّ هؤلاء الطغاة، يُعطيك من طرف اللسان حلاوةً ويروغُ إليك كما يروغ الثعلبُ، كذَّابون لا يصدقون، يعدون إذا شعروا بالخطر، ثم إذا ما عاد إليهم استقرارهم نكثوا، فشأنهم الكذب والمكر والإحتيال.

 

الجراد جنودُ الله سلَّطهم على فرعون وقومه:

بعد ذلك أرسل الله تعالى عليهم الجراد، فكان أسوأَ من الطوفان، وإلى الآن إذا أجتاح الجراد بلداً كانت مصيبتهم به أسوأ حالاً من بلدٍ أُصيب بزلزالٍ مدمِّر، تصوروا كيف يكون حال بلدٍ إجتاحته أسراب الجراد وهي بالملايين، فإنَّها لا تُبقي ولا تذر، فلا تمرُّ على شيء إلا دمَّرته، فالزروع التي تستوعب مئات الهيكتارات تُصبح بعد إجتياح الجراد لها أطلالاً، فيُقال كانت هنا زروعٌ وأشجار، فهي تبدأُ بالورق فلا تقف عند الجذوع، تحصد كلَّ شيء، إلى أن تبلغ جذور الشجر فتأكلها، هكذا فعلت الجراد في زروع مصر، فما أبقت من زروعها كثيراً ولا قليلا، فبدأت بأوراق الأشجار، ثم أتت على الثمار، ثم قضمت الجذوع إلى أن بلغت الجذور، وحينذاك عمدت إلى سقوف بيوتاتهم فأتلفت جريدها وسعفها وجذوعها، وتراكمت على أبواب بيوتهم فصيَّرتها رميماً تذروه الرياح، فما بقي من خشبٍ قائم.

 

فأيُّ بلاءٍ عظيمٍ حلَّ بفرعونَ وقومه؟! حتى وصل الجراد إلى قصر فرعون فجردوه من كلِّ ماهو خشب، وأصبحت زروع فرعون وجناته وكأنَّ حريقاً هائلاً قد نشب فيها، فما بقي منها شيء إلا وقد تمَّ تدميره وتصفيته من قبل جنود الله وهي الجراد، عندذاكَ لجأوا مرةً أخرى إلى موسى (ع)، أو بعثوا له، مَن يلتمس لهم منه الدعاء عند ربَّه وأكدوا له عدم النكث بما قطعوه على أنفسهم من الإيمان به والإرسال لبني إسرائيل: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ﴾، أيضاً كانت هذه المعجزة مفصلة -أي واضحة وبيِّنة-، لأن الجراد لا تدرك ليس لها عقل، كيف كانت تُميِّز بين بيوتات بني إسرائيل المتهالكة المتهرئة والتي أكثرها كان من الخشب والسعف، وهذه ما ترغب فيه الجراد إلا لم تأكل منها شيئاً، فإذا جاءت إلى بيوت الأقباط وقصورهم المشيَّدة أكلت جذوعها وسقوفها وزروعها، فدلالة أن ما أصابهم كان عقوبة لهم دون سواهم كانت واضحة وبينة، حتى أنه ورد في كلام بعض المؤرخين ان الجراد كانت تقع على ثيابهم وهي عليهم فتقضمها ولا تجد قامة شاخصة إلا وإجتمعت عليها بل يذكر بعض المؤرخين أنها نتفت لحاهم أي لحا المصريين من الأقباط وقوم فرعون، ثم انتهى أمر الجراد بعد دعاء موسى (ع)، فهل وفى فرعون وقومه بما قطعوه على أنفسهم؟ لم يفوا بل نكثوا كعادتهم، فلم يؤمنوا ولم يُرسلوا بني إسرائيل.

 

القمل الذي سلبَ فرعونَ وقومه إستقرارهم:

فأرسل الله تعالى عليهم القُمَّل -القمل هذا هو الحمنان كبار القردان الذي يتكاثر في مثل الفرو وفي الشعر وفي البدن-، وهذا العذاب أسوأُ من الجراد، ذلك لأنَّ الجراد كان يقصد الزروع في الغالب، وأما القمل فهو إنما يستوطن الأبدان والثياب، لذلك امتلأت لحاهم من القمل وشعور رؤوسهم وثيابهم وأبدانهم من القمل.

 

وقيل انَّ المراد من القمَّل هي البراغيث، فكانت تدخل بين ثيابهم وجلودهم فلا يستقرون، ولا يسكنون، فهي تشري في أبدانهم وتقرص جلودهم في كل ناحيةٍ وموضعٍ من أبدانهم ولم تكن لهم حيلة في إزالتها لكثرتها حتى انَّها اكتسحت بيوتات وقصور فرعون، وتكاثرت على نساء فرعون، وخدمه وحشمه وحجابه، بل إنَّ القمل كان قد إمتلأت منه فرشهم ومضاجعهم وكان يدخل في طعامهم وحنطتهم، بل وإلى أوانيهم التي يوضع فيها الطعام بعد نضجه، أستاؤوا كثيراً، وكلّما حاولوا أنْ يتخلَّصوا من هذا القمل لم يتمكنوا.تصوروا كيف يكون حالهم والقمل لايبارحهم ليلَ نهار وقد إقتحم عليهم كل حياتهم أيُّ سكونٍ وقرارٍ يكون لهم.

 

فلم يجدوا من سبيلٍ للخلاص من هذا البلاء المبرم سوى الرجوع إلى موسى (ع)، ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ وغلَّظوا له الأيمان انَّهم لن ينكثوا هذه المرَّة، ولأنَّ الله عزوجلَّ أراد أنْ يُمهلهم ليُقيم عليهم الحجَّة بعد الحجَّة، وحلمُ الله عزَّوجلَّ على عباده وأناته التي تسعُ السماوات والأرض لذلك إرتفع هذا البلاء عن كاهلهم بدعاء موسى (ع)لكنهم لم يتعظوا ولم يثوبوا إلى رشدهم.

 

جنودٌ من ضفادع:

فأرسل الله تعالى عليهم الضفادع، البلاء المضني، فامتلأت مصر كلها ضفادع، حتى ازدحمت منها بيوتهم إلىدرجة أن أحدهم يذهب إلى مضجعه وفراشه فيجده وقد امتلئ بالضفادع، هذه تقفز وتلك تنقُّ نقيقاً يبعث على السأم والضجر بل تُخرج الإنسان من صوابه، فلو كانت ضفدعة واحدة لأعياك الإمساك بها كيف وهن بالعشرات ولو امسكت بواحدة فإن العشرات منها في إنتظارك لذلك أصبحت حياتهم بها جحيماً لا تطاق، فقد ذكر المؤرخون أنها لكثرتها إذا تكلم أحدهم تثب إلى فمه، وتدخل في قدورهم وهي تطبخ وتغلي، وإذا وضع الرجل يده في جيبه يجد الضفادع قد ملئت جيبه، فهذه حياة لا تُطاق، ولهذا عادوا إلى موسى (ع) فدعا لهم،، هكذا هم الأنبياء يتخلَّقون بأخلاق الله عزوجل، أناةٌ وحلمٌ وسعةُ صدرٍ منقطعة النظير، فكان بوسعه أنْ لا يدعو ولكنَّ حرصه على أنْ يؤمنوا دفعه إلى أنْ يصبر، فيدعو لهم كلَّما برقت بارقةُ أملٍ أنْ يُؤمن بعضهم.

 

الدمُ هو آخر وأشدُّ ما أصاب قوم فرعون قبل الغرق:

ثم سلَّط الله تعالى عليهم الدم، ولعلَّه كان أشدَّ عقوبةٍ أصابتهم قبل الغرق، فقد تحوَّل نهر النيل إلى دمٍ عبيط، وليس النيل وحسب كما يذكر المؤرخون بل كل مخزونهم من الماء المدَّخر في بيوتهم أو الكائن في آبارهم تحوَّل إلى دم عبيط، حتى أنَّ فرعون قد أشرف كما يذكر المؤرخون على الهلاك لذلك صار يأخذ أعواد الزروع الرطبة فيمتصها لشدة ما أصابه من الظمأ، لأنَّ الدم لا يروي، فهذا بلاء عظيم قد نزل بهم ولعله أشد ما كان قد أصابهم قبل الغرق.

 

يوم قُتل الحسين (ع) لم يُرفع حجرٌ إلا وُجد تحته دم عبيط:

استطراداً نقول: إنَّ الاستيحاش الموجود في أذهان البعض من الروايات التي أفادت أنه حين قُتل الحسين (ع) يوم عاشوراء، ما رفع حجر في بيت المقدس وفي كربلاء وفي بعض المدن، ما رفع حجر ولا مدر إلا ورُؤي تحته دم عبيط، هذا الإستيحاش ينتفي عند الإلتفات إلى ما وقع لقوم فرعون، فحين سخط إلله تعالى عليهم وإقتضت حكمته تعالى تأديبهم تحوَّل نيلُهم إلى دمٍ عبيط، كيف تحوَّل؟! الأمر بيد الله، يفعل ما يشاء: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(8) الذي جعله ماءً قادرٌ على أنْ يجعله دماً عبيطاً، وكلُّ المعادلات الكيميائية والفيزيائية تسقط عندما يشاء الله عزوجل شيئاً، إنَّ الحسين بن الرسول (ص) أكرمُ على الله عزوجل حتى من موسى وهارون (عليهما السلام) لذلك نتعقَّل جداً أنْ يسخط الله عزوجل له فيكشف للأمة موقعه ومقامه السامي عنده، فيجعل له هذه الكرامة بأنْ لا تُرفع حجرٌ ولا مدر يوم إستشهاده إلا وُجد تحتها دمٌ عبيط، فالأمر مألوفٌ ومستأنسٌ عند مَن نظر في تاريخ الرسالات وتاريخ الأنبياء، على أيِّ حال هذا كلام استطرادي، وكلُّ كلامنا كان استطرادياً.

 

نرجع إلى أصل البحث وهو أنَّ الله عزَّوجل قد أطلق الرجز على العذاب، فسمَّى الذي أصاب قوم فرعون من العذاب بالضفادع والدم والجراد سماه بالرجز في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ / فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ﴾، أي العذاب، فقوله تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾، المراد من الرجز هو العذاب، وهجران الرجز بمعنى هجران أسباب الرجز، أسباب العذاب، وأسبابُه هي المعاصي والذنوب، فإذا أمر الله عزوجل عباده بأن يهجروا الرجز فهو أمرٌ بهجران أسباب الرجز، فإنَّ أسباب الرجز الإلهي هي معصية الله عزوجل والتمرُّد عليه والاستكبار على أوامره وزواجره، فالمراد من قوله تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ هو هجران أسباب العذاب والنقمة الإلهية وهي المعاصي والذنوب.

 

ونستكمل الحديث فيما بعد.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة المدثر / 1-7.

2- سورة الفرقان / 30.

3- سورة العنكبوت / 26.

4- سورة الأعراف / 134-135.

5- سورة طه / 66.

6- سورة الأعراف / 133.

7- سورة الأعراف / 135.

8- سورة الأنبياء / 23.