الجهر والاخفات في القراءة
قال تعالى: ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾(1).
وقال سبحانه: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾(2).
وقوله عزوجل: ﴿وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ / وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ﴾(3).
1- سورة الإسراء / 46.
2- سورة الإسراء / 110، والظاهر من لفظ الآية الشريفة أن المراد بالجهر والمخافتة اجهار الصلاة علانية واخفاتها سرا حيث لا يراه أحد من الأجانب، على ما أشرنا إليه قبل ذلك في ج82 / ص318.
فالنبي (صلى الله عليه وآله) بعد ما فرض عليه في الآية 78 من هذه السورة -سورة الإسراء- صلاتا المغرب والفجر، كان يجهر بهما علانية في فناء الكعبة الشريفة، يصلى هناك منفردا وأحيانا مع زوجته خديجة وابن عمه على (عليهم السلام) فاشتد ذلك على قريش حتى آذوه بالسب والشتم ورمى الحصا، وبلغ أمرهم إلى أن ألقوا عليه سلى ناقة وأراد بعضهم أن يدمغ رأسه (صلى الله عليه وآله) بحجر، فكفاه الله شره، فلا جرم انتقل إلى بيته ليصلى مخافتة فنزلت هذه الآية، وأمره أن يتطلب ويتجسس ويبتغي بين هذين الامرين منهجا، فتذاكر النبي (صلى الله عليه وآله) مع الأرقم ابن أبي الأرقم المخزومي واختار داره -وهي في أصل الصفا على يسار الصاعد إليه- للصلاة ثم لقراءة القرآن والانذار به، حتى نزل قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ / إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ (سورة الحجر / 94-95).
ينص على ذلك قوله عز وجل في ذيل الآية: ﴿وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾ حيث إن الابتغاء وهو الاجتهاد في الطلب على ما صرح به الراغب لا يناسب الا ما حملنا الآية عليه، وأما لو حملنا الجهر والاخفات على جهر القراءة والاخفات بها من حيث مد الصوت وعدمه فمع أنه خلاف ظاهر اللفظ حيث لا ذكر في الآية من القراءة والذكر، لا وجه لقوله عز وجل: ﴿وَابْتَغِ﴾ أي تطلب وتفحص أمرا بين الامرين، حيث أن قراءة بين القراءتين: الجهر والاخفات ليس يخفى كيفيتها على أحد، حتى يؤمر بابتغائه وطلبه مع اجتهاد.
على أنه لو كان المراد ذلك، لكان على النبي (صلى الله عليه وآله) أن يمتثل هذا الامر بقراءة القرآن قراءة متعارفة بين القراءتين، مع أنه (صلى الله عليه وآله) جهر في بعض الصلوات وأخفت في بعضها، وهذا ضد ما أمر به القرآن العزيز وخلاف عليه بكلا شقى المسألة.
فعلى هذا لا وجه لعنوان الآية الكريمة في هذا الباب، بل الآية التي تتكفل لبيان الجهر بالقراءة والاخفات بها وامتثل أمرها النبي (صلى الله عليه وآله) فأخفت في بعض الصلوات وجهر ببعضها الاخر على ما عرف من سنته (صلى الله عليه وآله)، هو قوله عز وجل: ﴿وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ / وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ﴾ (سورة الأعراف / 204-205).
والآيتان كلتاهما من المتشابهات على ما عرفت معنى المتشابه في ج83 / ص166، الا أن الآية الأولى آلت بتأويله (صلى الله عليه وآله) إلى صلاة الجماعة فأوجب على المأمومين أن ينصتوا لقراءة الامام في الصلاة، ومعلوم أن الانصات لا يكون الا عند الاجهار بالقراءة، ثم في الآية الثانية أمره (صلى الله عليه وآله) أن يذكر ربه في نفسه تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول الذي يناسب معنى التضرع والخيفة، بالغدو والآصال والغدو على ما يدل عليه قوله عز وجل: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ وقوله تعالى: ﴿آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا﴾ الظهر وقت النهار والأصيل وقت العصر، فآلت أمره إلى صلاة الظهر والعصر بتأويل النبي (صلى الله عليه وآله) فصلى صلاتي العصرين بالاخفات بذكره تعالى من أول الصلاة إلى خاتمتها حتى الأذكار والتسبيحات وحد الاخفات هذا أن يكون قراءة دون الجهر من القول في النفس كما هو ظاهر.
فالواجب الجهر بقراءة القرآن في غير صلاتي الظهرين وأما الأذكار والتسبيحات فهو مخير بين أن يجهر بها أو يخافت ولعل الجهر بها تبعا للجهر بالقراءة أولى، وأما صلاتا النهار والأصيل، فالقراءة والأذكار كلها سواء، يخافت بها مطلقا، وسيمر عليك في طي الباب أخبار عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ينص على ذلك (بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج82 / ص68).
3- سورة الأعراف / 204-205.