حديث حول سورة المدثر -12

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

 

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.

 

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ / كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ / فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ / بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً / كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ / كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ / فَمَن شَاء ذَكَرَهُ / وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾(1)

صدق الله مولانا العلي العظيم

 

غريبٌ إعراض المشركين عن القرآن رغم سطوع برهانه:

تبدأ الفقرة الأولى من الآيات التي تلوناها بالتعبير عن التعجُّب والاستغراب من هؤلاء المشركين والكافرين، كيف يُعرضون عن التذكرة والتي هي القرآن؟! رغم أنَّ الدلائل على صدقه واضحة، ورغم أنَّ البراهين قاطعة والحجج دامغة، فرغم ما تبيَّن لهم من حقَّانية هذه الدعوة وصوابيَّتها، وأنَّها من عند الله عزَّ اسمه وتقدس، رغم هذا الوضوح ورغم هذا التبيُّن فإنَّهم كيف يُعرضون؟! ألا يليق بالعاقل الرشيد أنَّه إذا وقف على الحق وتبيَّنه وعرفه أن يُذعن له؟!

 

لكنَّهم لم يُذعنوا، ولم يقبلوا، بل أعرضوا، واستكبروا، وعتوا، وتعنَّتوا. والأعجب من ذلك هو الكيفيَّة التي أعرضوا بها عن القرآن وعن الرسول (ص) ودعوته، فهم لا يعرضون بمعنى أنهم يجلسون ليجادلوا رسول الله (ص) ويتباحثوا في الشأن الذي يدعو إليه، ويقدِّموا حججهم ويتلقَّوا من الرسول حجَّته ليُمايزوا بين الحق من غير الحق، لم يكونوا يفعلون ذلك. ولم يجلسوا فيما بينهم للتباحث في ما لعلَّه يكون نافعاً في الخروج إلى نتيجة تُوافق العقل، لم يكونوا يفعلون ذلك. بل كانوا يفرُّون، يميناً، وشمالاً، كلَّما رأوا النبيَّ (ص) أو سمعوه يتلوا كتاب الله تعالى. وكلَّما دعاهم للجلوس لم يقبلوا، بل إذا وجدوه في موضعٍ ومحفلٍ انجفلوا من بين يديه يميناً وشمالاً على غير هدى. فهم حينما يفرون أو حينما ينصرفون لم يكونوا قاصدين لموضعٍ سوى أنَّهم أرادوا ألا يجلسوا وألا يسمعوا، لذلك هم يذهبون يميناً، شمالا، غرباً، شرقاً، حتى لا يسمعوا كلام رسول الله(ص) وحتى لا يسمعوا الآيات التي يتلوها، وذلك لشعورهم بالعجز عن مقارعة حجَّة الرسول (ص) بأيِّ حجة، وخشيتهم من أن يُلزموا، لأنَّهم يُدركون انَّ ما سيطرحه عليهم يقتضيه العقل ويقتضيه المنطق وسيُظهر لهم من الدلائل ما يفحمهم ويُلزمهم وهم لا يريدون أن يُلزموا، ولا يريدون أن يُفحموا، ولا يريدون أن يظهروا في مظهر العجز أمامه، لذلك هم يفرون ويتهرَّبون.

 

فهم أشبه بمَن عليه استحقاقٌ من دين وشبهه لأحد، فحين يكون على الرجل دينٌ لآخر وهو لا يُريد تسديده، فإنَّه كلَّما شعر انَّ ذلك الدائن سوف يكون في هذا الموقع أو ذاك، فإنَّه يتجنَّب الذهاب إليه، وإذا وجده يُعرض عنه ثم يتلصَّص فينسحب حتى لا يبتلي بمساءلته وإلزامه بسداد الدين الذي عليه، وهكذا هي حال المطلوب بحقٍ في شأنٍ من الشؤونات فإنَّه إذا شعر أحدٌ أنَّ عليه حق لأحدٍ أو عهدٌ يلزمه عقلاً وشرعاً أو ذوقاً أن يفعله أو يُنجزه فهو إذا لم يكن مريداً لإنجازه فإنَّه يتجنَّب الحضور في مواطن الاستحقاق أو المساءلة، هكذا كان المشركون مع النبيِّ الكريم (ص). فهم لم يكونوا يُواجهونه إلا بالشر، وأما أنَّهم يجلسون للإستماع إلى حجَّته لمقارعتها بما يرونه حجةً لهم فإنَّهم لم يكونوا يفعلون ذلك، لأنهم يُدركون تمام الإدراك أنَّهم لا يقوون على مقارعة حجَّة النبيِّ (ص)، لأنَّ حجته دامغة وبيِّنة وواضحة ومدعومة بالدلائل والمعجزات والآيات.

 

فرار الكفار من النبيِّ (ص) أشبه بفرار الحمُر من الأسد:

ولذلك شبَّه القرآن فرارهم من الرسول (ص) ودعوته بفرار الحمُر الوحشيَّة عندما يعنُّ لها أسد، ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ -جمع حمار- مُّسْتَنفِرَةٌ﴾. وهذه الحمُر المستنفرة -كما لعلَّكم شاهدتم- إذا وثَبَ عليها الأسد لا تدري أين تذهب، فغرضها إنَّما هو الفرار، فليس من غرضها أنْ تذهب إلى الشرق، أو إلى الغرب، أو إلى اليمين، الغرض هو الفرار للنجاة من الأسد، فلذلك تجدونها تتبعثر يميناً وشمالاٌ، شرقاً، وغرباً، فهي لا تدري إلى أين تتجه. فقد تسقط من شاهق، وقد تتعثر بصخرة، وقد تلجُ في لجَّةِ ماءٍ عميق، فليس لها من مقصد وغايتها تتمحَّض في أن لا يدركها الأسد. ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ﴾ أي إنَّ هؤلاء المشركين شأنهم عند رؤية النبيِّ (ص) شأنُ الحمر المستنفرة، فهم حين يرون النبيَّ (ص) قادماً أو كان في محل فإنَّهم يُبادرون الى الانصراف إلى غير غاية فراراً من إلزامه لهم وإدراكاً منهم بأنَّهم غير قادرين على المقارعة لحججه والتفنيد لبراهينه الساطعة.

 

المضلُّون يفرُّون من ذوي التخصُّص والدراية:

عيناً كما يصدر ذلك السلوك من الكثير من أهل الضلال، فتجد أحدهم يتبجَّح بشبهاته عند عوام الناس لكنَّه يتحاشى المناظرة لذوي التخصُّص، فهو يُهرِّج بشبهاته وضلالاته عند سوَقةِ الناس، فاذا قيل له اعرض أفكارك على ذوي التخصُّص يأبى عليهم ذلك، وإذا قصده ذوو التخصُّص لمناقشته تراه يتنصَّل من ذلك متذرِّعاً بمبرِّراتٍ واهية لا يستهدف منها سوى الهروب من المناظرة خشيةَ الإلزام والتفنيد لشبهاته، وقد يلجأ للتغبيش وإثارة الفوضى، وغايته من ذلك الفرار مما يترتَّب عن المناظرة الجدِّية من افحامه وإلجامه، فهو يتوسَّل بكلِّ وسيلةٍ للهروب من هذا الاستحقاق.

 

هكذا كان يفعل المشركون مع الرسول الكريم (ص) فكانوا يتحاشون مجالسته ويشغبون عليه كلَّما اتَّفق لهم رؤيته، وذلك لإدراكهم ومعرفتهم التامَّة بقدرته على إلزامهم وحجْمهم وخَصْمهم، ولهذا شبَّههم القرآن لاستنقاصهم بالحمُر الوحشيَّة التي تفرُّ من الأسد -وهو القسورة- عندما يثب عليها، فهي تفرُّ منه يميناً وشمالاً على غير هدى ولغير غايةٍ سوى الفرار للنجاة من مخالب الأسد وأنيابه.

 

الحمُر التي تفرُّ من الأسد هي الوحشية:

وللعلم فإنَّ المقصود من الحمُر في الآية الشريفة هي خصوص الحمُر الوحشيَّة، فهي التي تنفر عند رؤية الأسد، وأما الحمر الأهليَّة فهي لا تقوى على الفرار.

 

بل ذكر علماءُ الحيوان القدامى إنَّ الحمار الأهلي إذا رأى الأسد فإنَّ كلَّ قواه تنهار فيستسلم دون أدنى مقاومة وكأنَّ أقدامه قد أُصيبت بالإفكل، ولهذا ورد في قصص العرب انَّ أحدهم إذا كان راكباً على حمارٍ أهلي فصادفه أسد فإنَّ عليه أن يفرَّ بنفسه أو يختبأ ويترك حماره، لأنَّ حماره لا يقوى على الفرار به، فأقدامه خيرٌ له من ظهر الحمار الأهلي الذي تنهار كلُّ قواه، ولا يبرح مكانه إذا وجد الأسد فكأنَّه يدعو الأسد لافتراسه. ولهذا فالمقصود من الحمر في الآية الشريفة هي الحمر الوحشية، فهي التي تنفر وتعدو عندما يثبُ عليها الأسد. ولاريب -كما لعلَّكم شاهدتم- أن سرعتها متميِّزة بحيثُ قد لا يدركها الأسد، إذن فالقرآن شبَّه فرار المشركين وتفرُّقهم عن النبيِّ (ص) بالحمُر الوحشيَّة التي تنفر إذا وثب عليها الأسد.

 

فرار المضلِّين من الحق ليس بدعاً في تاريخ الأنبياء:

وهذه الحالة التي عليها المشركون والكفار مع النبيِّ الكريم (ص) لم تكن بدعاً في تاريخ الرسالات، فأكثر الأقوام الذين بُعِث فيهم أنبياء كانوا يتعاطون مع أنبيائهم بهذا النحو من السلوك، وذلك لعدم قدرتهم على مقارعة حجج أنبيائهم بالحجة فهم لا يُصغون إلى ما يطرحه ويبينه أنبياؤهم ليتبينوا، وإنما كانوا يفرون، وفي بعض الأحيان يمارسون أفعالاً غير عقلائية، كلُّ ذلك لغرض التنصُّل والفرار من الاستحقاق الناشئ عن حجج أنبيائهم.

 

وهذا أمر في غاية الغرابة، فحين يتصدَّى رجلٌ عاقلٌ رشيد من قومك تعرفه ويعرفك لعرض أمرٍ عليك لماذا لا تستمع إليه لتتعرف على دعواه؟! فإنْ لم تكن حقاً استطعت أن تردها. وإن كانت حقاً فلماذا لا تُذعن للحق؟! هذا هو مقتضى التعقُّل وهو الذي عليه سيرة العقلاء في مثل هذه الحالات، لكن أقوام الأنبياء لم يكونوا يفعلون إلا كما فعل قوم النبيِّ الكريم معه (ص).

 

تلاحظون كيف كان نبيُّ الله نوح (ع) يشكو إلى ربِّه ما يفعله قومه، ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا / فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾(2)، كلما دعوتهم يفرون، فهم أساساً لا يسمعون فلا يدعوني أكمل حديثي بل إنَّهم ينصرفون عني أو يشغبون عليَّ، هذا النبيُّ الصابر مظلوم حقَّاً، فقد ظلَّ في قومه سنين متمادية يدعوهم ليل ونهار فلا يجد منهم استجابة، فكلما حضر مجلساً انفضَّ ذلك المجلس، وكان يقصدهم في محافلهم فما إن يصل إليهم حتى يتفرَّقوا عنه ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا / فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾. وإذا ألجأهم إلى محلٍّ لا يستطيعون الفرار منه، وضعوا أصابعهم في آذانهم، وبعضهم يرفع ثوبه أو عباءته ويضعها على وجه. فكأنَّه يقول له: اسكت فلا اريد أنْ أسمع ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا / وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ﴾(3) لصالحهم ولنفعهم ﴿كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾(4).

 

هكذا هو شأن أقوام الأنبياء مع أنبيائهم، لذلك كابد الأنبياء(ع) عناءً مضنياً مع أقوامهم حتى رحلوا إلى ربِّهم يشكونه بأنَّ هؤلاء لم يقبلوا بدعوتك وبرسالتك.

 

المنشأ الحقيقي لفرار المشركين من النبيِّ (ص):

ثم قال تعالى يُبيِّن حقيقة قريش الذين عتوا على رسول الله (ص) وبغوا عليه، قال هؤلاء لا يفرون لمجرد الفرار أو لتوهمهم ان النبي (ص) يقول كلاما لا يفهمونه فلا يُريدون الإستماع إليه، ليس هذا هو منشأ فرارهم بل إنَّ حقيقة الأمر انَّ فرارهم نشأ عن منشأين بينتهما هذه الآيات التي تلوناها:

 

المنشأ الأول:

قال تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً﴾، هؤلاء لم يكن إعراضهم ونفورهم لمجرد النفور، بل لأنَّ كلَّ رجلٍ من هؤلاء مبتلى بالكبر والتجبُّر، فكلُّ رجلٍ من هؤلاء يحمل بين أضلاعه قلب فرعون، فما منهم إلا وهو يريد أن ينزل عليه من الله تعالى كتاب باسمه ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً﴾. لذلك ورد أنَّهم كانوا يقولون للنبيِّ (ص) إذا أردتَ أن نتبعك، فلينزل على كلِّ رجل منَّا كتابٌ من عند الله تعالى، مكتوبٌ فيه: من ربِّ العالمين إلى فلان بن فلان، اتبع محمداً، فكلُّ واحدٍ يريد لنفسه امتيازاً وخصوصية، فكأنَّه يقول: لماذا نتبعك وما هو الثمن؟ وما هو الامتياز الذي سأجنيه من اتباعك؟! إذن فالمسألة تخضع عندهم لحسابات الشرف والوجاهة، وهذا ما يُعبِّر عن الكبرياء الذي انطوت عليه نفوسهم وامتلأت منه قلوبهم. كما قال تعالى يُخبر عن أقوامٍ آخرين، خاطبوا أنبياءهم بقولهم: ﴿لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ﴾(5). فكأنَّهم يقولون ما الذي يُميِّزك أو يميِّز الرسلُ علينا؟! فكما أوتي رسل الله كتباً من الله فلنؤتى كما أوتي رسل الله وعندئذٍ سنُؤمن، ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾(6). فإذا كان قد خصَّكم الله بأنْ كتب إليكم، أو أرسل إليكم، أو أوحى إليكم، فليس له أنْ يُطالبنا بأنْ نُؤمن إلا إذا فعل بنا كما فعل بكم، فلستم متميِّزين علينا بشيء. تلك هي عقدةُ الكبرياء التي كان يُعاني منها هؤلاء، وهي التي منعهم وحجَبتهم عن الإيمان بالرسالة.

 

نقدُ الحقِّ وخذلانُه ينشأ غالباً عن افتقاد الناقد للامتياز فيه:

ترى الكثير منَّا قد يكون له مستوىً من هذا الخلق في نفسه وهو لا يشعر. فقد تُصادفه العديد من القضايا المحقَّة والنافعة للمجتمع، إلا انَّه يأباها ويرفضها وينتقدها دون تروِّ ولا تأمُّل ولو بحثتَ عن منشأ ذلك النقد أو ذلك الإعراض لوجدتَ أن منشأ ذلك هو انَّه لا ناقة له فيه ولا جمل، أو ليس له فيه امتياز. فهو يُبرِّر خذلانه وعدم تفاعله مع هذه القضية المحقَّة أو ذلك المشروع الخيري بمبرِّرات وذرائع يصوغها في إطارٍ عقلائي يُقنع بها نفسه ويُغطِّي بها عند الناس على خذلانه لتلك القضية أو ذلك المشروع، ولذلك فهو يُظهر نقده في صورة النقد البنَّاء والعقلائي ولكنَّه واقعاً لم يكن مخلصاً مع نفسه، فلو بحث عن دواخله ومناشئ نقده الحقيقية لوجد انَّ دافعه من نقده واعراضه لوجد هو انَّه لا مصلحة له ولا امتياز في ذلك المشروع أو تلك القضية.

 

أذكر لكم نموذجين من التاريخ -باختصار شديد-:

النموذج الأول: مسيلمة الكذَّاب:

مسيلمة الكذاب، هكذا يُسمِّيه المسلمون وُيسمِّيه المؤرخون، مسيلمة الكذاب. وأما اسمه في الواقع فهو مَسْلمة بن ثمامة بن حبيب، وسمَّاه المسلمون مسيلمة تصغيراً لقدره، هذا الرجل كان من اليمامة، وكان من أصلٍ مسيحي، وكان من المعمِّرين، فقد هو وُلد قبل ولادة النبيِّ الكريم (ص) بسنين مديدة، وقُتل بعد رحيل النبيِّ (ص) إلى ربِّه، وذكر المؤرخون أنَّ عمره وقت مقتله كان يربو على المئة سنة.

 

هذا الرجل -كما قلنا- كان من أصلٍ مسيحي كما هو الكثير من أهل اليمامة، فقد كانوا على دين النصارى حينما بُعِث النبي (ص)، وفي عام الوفود يوم أنْ جاء نصرُ الله والفتح دخل الكثير من أبناء الجزيرة العربية في دين الله أفواجا، فجاءت الوفود إلى الرسول(ص) من كلِّ أنحاء الجزيرة العربية، ومن هذه الوفود كان وفد قبيلة بني حنيفة التي ينحدر منها مسيلمة، وكان وجيهاً بينهم. هذا الرجل كان مهووساً بنفسه، وفي قلبه استعلاءٌ واستكبار، وقد جاء ضمن وفد بني حنيفة إلى الرسول الكريم (ص)، وأسلم أكثر من في الوفد وبايعوا النبي الكريم (ص) وأقروا له بالنبوة إلا انَّ مسيلمة قال للنبيِّ (ص): أنا سأؤمن بأنَّك رسولٌ من عند الله تعالى ولكن بشرط أن تُشركني في رسالتك كما أشرك موسى هارونَ في رسالته، ودعا ربَّه بقوله: ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾(7)، فأنا أريد أكون شريكاً لك في الرسالة وعندئذٍ سأقرُّ بأنَّك رسولُ لله تعالى، وسوف اجعل أهل اليمامة وأطراف اليمامة تُؤمن بك وتتبعك، فإيماني بك مشروطٌ بهذا الإمتياز. فهل تقبل أن تُشركني في أمرك؟ وكان بيد النبيِّ(ص) قضيبٌ من سعف النخل أو كان أمامه عرجون فأخذ ذلك العرجون، وقال له: لو طلبتَ منِّي هذا العرجون ولم يأذن الله عزوجل لي بأنْ أُعطيك إياه، ما أعطيتك إياه، فالأمر بيد الله، فهو الذي يُشرك مَن يشاء في أمر الرسالة، ويمنع مَن يشاء. ولهذا تمنَّع مسيلمة من المبايعة للنبيِّ (ص) وعاد إلى اليمامة دون أن يُسلم ثم ادَّعى لنفسه النبوة.

 

ولكنَّه حينما عاد إلى اليمامة قال: محمدٌ رسولٌ وأنا رسول، فمَن أراد أن يدخل في إسلامي فأنا أقول: الله لا إله إلا هو ومحمد رسول الله وأنا رسول الله، وقال: محمدٌ رسولُ الحجاز وأنا رسولُ اليمامة. لكنَّ أمره لم يستفحل إلا بعد وفاة الرسول (ص) ودخل مع المسلمين في معركةٍ يُقال لها معركة اليمامة وفيها قُتِل هو والكثير من أتباعه. إذن منشأ عدم قبوله للحق هو أنَّه أراد امتيازاً، فلما لم يجد هذا الإمتياز لم يُؤمن.

 

النموذج الآخر هو طلحة والزبير:

طلحة بن عبدالله التيمي والزبير بن العوام كانا من الصحابة الأوائل، وكانا ممَّن جاهد مع رسول الله (ص) جهاداً طويلا، وشاركا في أكثر الغزوات مع النبيِّ الكريم (ص).

 

هذان الرجلان وخصوصاً طلحة كانا ممن ألَّب على عثمان وحرَّض عليه، بل كان هو -أعني طلحة- الواجهة من الصحابة مع الثوار الذين جاؤوا من مصر ومن العراق للثورة على عثمان، فكان هو راعيهم، وهو المحرِّض الأكبر لهم وعددٌ آخر من الصحابة أيضاً لا نريد أن نذكر أسماءهم.

 

قُتل عثمان على غير رضىً من الإمام عليِّ بن أبي طالب (ع)، فعليٌّ (ع) وإنْ كان يرى بأنَّ الكثير من مطالب الثوَّار محقَّة إلا انَّه لم يكن يرى بأن معالجة القضية تكون بواسطة القتل لعثمان، لكنَّهم لم يمتثلوا وصية الإمام عليِّ بن أبي طالب (ع)، فقتلوا عثمان. وكان ذلك بتحريض عددٍ من الصحابة فيهم الزبير وعمرو بن العاص، وعلى رأسهم طلحةُ والسيدة عائشة.

 

ولمَّا أنْ قتل عثمان اتَّجه الناس إلى عليِّ ابن أبي طالب (ع) وأصرَّوا على مبايعته، كما قال في مثل خطبته الشقشقيَّة: "فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي ينثالون عليَّ من كل جانب. حتى لقد وطئ الحسنان. وشُقَّ عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم "(8). فكانوا يُلحُّون عليه بالقبول للبيعة، فعندها اشترط عليهم عدداً من الشروط فلمَّا قبلوا بها، قبل عليٌّ (ع) بالبيعة، فأول من بايعه طلحةُ والزبير، أو كانا في أوائل مَن بايع عليَّ ابن أبي طالب (ع).

 

لكنَّهما كانا ينتظران من عليٍّ (ع) امتيازاً، فبعد أيامَ قلائل من بيعتهم لعليٍّ (ع) واستقرار الوضع علما بأنهما لن ينالا من عليٍّ أيَّ امتياز. وكان من المؤشرات لذلك أنَّ عليَّاً (ع) لمَّا أن جاءت بعض أموال الخراج، أعلن في الناس، وقال: ليأتيني كلَّ الناس غداّ حتى أُقسم عليهم أعطياتهم، وأمر بأن لا يتأخر منهم أحد من العرب والموالي والأحمر والأسود والأبيض فجاءه أكثر الناس. وحينها قسم بينهم الأموال فخرجت القسمة على أن يُعطى كلُّ رجلٍ منهم ثلاثة دنانير ذهبية، فأعطى كلَّ رجلٍ من البدريين وعموم المهاجرين والأنصار والذين تقدَّم إسلامهم والذين تأخَّر إسلامهم والأعاجم والموالي والعرب والقرشيين، أعطى كلَّ واحد منهم ثلاثة دنانير، فحتى طلحة كان نصيبه ثلاثة دنانير، وكذلك الزبير، والحسين(ع) أيضاً كان نصيبه ثلاثة دنانير، وكذلك الحسن (ع) كانت له ثلاثة دنانير، وحتى عليِّ بن أبي طالب (ع) كان نصيبه ثلاثة دنانير، فاعترض على هذه القسمة بعض الصحابة. فقالوا كيف تساوينا بغيرنا ونحن أصحاب السابقة، وهؤلاء إنَّما دخلوا الإسلام بأسيافنا، هذه كانت لغتهم لكنَّ أمير المؤمنين (ع) أجابهم وبيَّن لهم منشأ هذا التقسيم واحتجَّ عليهم بالكتاب والسنَّة فما وسعهم إلا الإحجام ولكنَّهم وجدوا في أنفسهم عليه، وبعد أيام، بعث طلحة والزبير إلى أمير المؤمنين(ع) رجلاً يُسمَّى محمد بن طلحة وقالا له: اذهب إلى عليِّ بن أبي طالب، ولا تقل له: يا أمير المؤمنين، وإنَّما قل له: يا أبا الحسن، وبلَّغه هذه الرسالة ?حاصل هذه الرسالة-:

 

وطأنا لك الأمر، وجمعنا لك المهاجرين والأنصار، ودعوناهم لمبايعتك، وكنا في أوائل من بايعك، وبعد ذلك تُقدِّم علينا مالك الأشتر وحكيم ابن جبلة وغيرهما من الأعراب، وتؤخرنا.

 

فالإمام عليٌّ (ع) أراد أن يكشف للناس حقيقة هذين الرجلين، فقال لمحمد بن طلحة: اذهب لهما، واسئلهما ماذا يريدان منِّي؟ فذهب لهما ثم رجع. فقال: يقول لك طلحة ويقول لك الزبير: ولِّي أحدنا البصرة والآخر الكوفة، وحينذاك تكون قد وفيت.

 

فأجابه الإمام (ع) فقال: قل لهما أنا لا آمنكما وأنتما في المدينة، أولِّيكما العراقين؟! وأساساً أنا لا أرى فيكما الكفاءة لهذا الموقع، وحينذاك تأكَّد لهما أنَّه لا امتياز لهما مع عليٍّ (ع).

 

لذلك قرَّرا أنْ يخرجا على الإمام (ع)، فاحتالا لذلك فجاءا لأمير المؤمنين(ع) وكان ابن عباس حاضراً، فقالا: يا أمير المؤمنين نريد العمرة، قال: قد ذهبتهما للعمرة كثيراً، ما أردتما العمرة، وإنما أردتما الغدرة. فحلفا أنَّهما لا يريدان إلا العمرة، فأخذ عليهما العهود والمواثيق أن لا يكيدا للمسلمين، وأن لا يشقَّا عصا المسلمين، فحلفا بالأيمان المغلَّظة، فأذن لهما. وحين خرجا قال: والله ما يُريدان العمرة، قال لابن عباس. ثم قال ذلك على ملأٍ من المسلمين: والله ما يريدان العمرة، وإنَّما أرادا الغدرة. وذلك هو ما وقع، ذهبا إلى مكة الشريفة وكانت السيدة عائشة في مكة حينذاك، وحملاها على أنْ تشاركهما في الخروج على عليٍّ (ع) فخرجوا على عليٍّ (ع) في البصرة فكانت واقعة الجمل بقيادة السيدة عائشة التي قُتل فيها الآلاف من المسلمين

 

فالمنشأ إذن -أيُّها الأخوة الأعزاء- هو ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً﴾. إذا أردتني أن أكون مع الحق فلابد من أنْ يكون لي امتياز فيه، وإذا لم يكن لي فيه امتياز فأنا لا أقبله، لذلك لم يقبلوا دعوة رسول الله (ص) لأنَّه لم يكن لهم فيها امتياز.

 

المنشأ الثاني للإعراض عن الحق:

ثم ذكر القرآن الكريم في هذه الآيات منشأً آخر لإعراضهم عن الحق. وهو قوله: ﴿كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ﴾، هذا هو المنشأ الحقيقي الثاني لإعراضهم وعدم ايمانهم بالرسول (ص). فمن كان يُؤمن باليوم الآخر، وبأنَّ ثمةَ حساباً ومساءلة وأن الله عزوجل سيُداقه على كل مسألة، صغيرةٍ وكبيرة، ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ / وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(9). إذا آمن الإنسان بذلك، وأدرك أنَّه سيترتَّب عن سقوطه في الامتحان سقوطه في قعر جهنم، وأنه لن يخرج منها أبدا، بل سيظلُّ معذباً فيها ليل نهار، إذا سُقي سُقي من الحميم، وإذا أُطعم أُطعم من الضريع والزقوم، ويكون مستراحه في اللهب ومضجعه فوق الحديد المذاب، عندما يكون الإنسان مؤمناً بهذا المصير المرعب، حينئذٍ سوف لن يجفو الحق، ولن ينصرف عن الحق إلى الباطل. أما إذا كان يرى أن هذه الوعود التي جاء بها المرسلون ليست سوى أحاديث لا مصداقية لها وأن وجود الإنسان ينتهي بموته، فإذا مات صار رميماً وانتهى كلُّ شيء، فإنَّ الأثر لهذه الرؤية وهذا المعتقد هو أن يفعل ما يحلو له، وأن يستمتع ما أمكنه من هذه الدنيا لأنه ليس وراء هذه الدنيا شيء. وأما الذي يؤمن أن وراء هذه الدنيا حسابٌ وعقاب فهو الذي يُذعن للحق، ويعمل بالحق، ويأتمر بأوامر الله، وينزجر عن زواجره.

 

تخيير الإنسان من مقتضيات المشيئة الإلهية:

﴿كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ / كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ﴾ فالقرآن إنما هو تذكرة. ﴿فَمَن شَاء ذَكَرَهُ﴾ فليس في الدين إلجاءٌ على الإعتقاد، فمن شاء فليعتقد بمفادات القرآن ومن شاء فليكفر، فمن اختار الكفر فقد أخطأ حظَّه، ولن يعودَ الكفرُ بالسوء إلا على أهله، ولكنَّ مَن يختار الكفر عليه ألا يتوهَّم أن جعل الاختيار له من قبل الله تعالى كان نتيجة عجزه جلَّ وعلا عن قسره والجائه على الأيمان، فهو تعالى قادرٌ على قهر الإنسان على الإيمان ولكنَّه قد تعلَّقتْ إرادتُه واقتضتْ حكمتُه وجرت سنتُه على أنْ يجعل الناس مخيَّرين، ﴿كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ / فَمَن شَاء ذَكَرَهُ / وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ﴾، فلستم خارجين عن سلطان لله وقدرته ولكنَّ مشيئتَه قد اقتضت بأن يجعلكم مخيرين. ﴿إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى﴾ هو أهلٌ لئن يُتقى ﴿وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة المدثر / 49-56.

2- سورة نوح / 5-6.

3- سورة نوح / 6-7.

4- سورة نوح / 7.

5- سورة الأنعام / 124.

6- سورة إبراهيم / 10.

7- سورة طه / 32.

8- "حتى لقد وطئ الحسنان. وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم". نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص36.

9- سورة الزلزلة / 7-8.